بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله
******************************
إخوتي في الله اخترت هذا التفسير لـ ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )
للامام الفخر الرازي تفسير دقيق وجامع لكلمة الاستعاذة وماهيّتها
والذي لم أجده في تفاسير أخرى وفيه يعرفنا أن الاستعاذة وحتى لا تكون عبثا
فهي لا تتم إلا بعلم ، وحال ، وعمل
إليكم الشرح .. نفعكم الله به
******************************
المسألة الأولى : من الناحية اللغوية :
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ
ـــ قوله : «أعوذ» مشتق من العوذ ، وله معنيان :
أحدهما : الالتجاء والاستجارة ،
والثاني : الالتصاق ؛يقال : «أطيب اللحم عوذه» وهو ما التصق منه بالعظم ،
فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي : ألتجىء إلى رحمة الله تعالى وعصمته .
وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته .
ـــ وأما الشيطان ففيه قولان : الأول : أنه مشتق من الشطن ، وهو البعد
يقال : شطن دارك أي بعد ،
فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطاناً لبعده من الرشاد والسداد ،
قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ]
فجعل من الإنس شياطين ، وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان .
والقول الثاني : أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل ، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلاً لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً .
ـــ وأما الرجيم فمعناه المرجوم ، فهو فعيل بمعنى مفعول . كقولهم : كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين ، أي ملعون .
المسألة الثانية : في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم ، وحال ، وعمل
* أما العلم فهو كون العبد عالماً بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية ، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه .
* فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب ، وهي :
انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له ،
* ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان :
أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات
وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالباً لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى ،
وذلك الطلب هو الاستعاذة ، وهو قوله : «أعوذ بالله» .
إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله ، وعلمه بنفسه :
* أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات ، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالماً به ولا بأحواله ، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً
ولا بدّ وأن يعلم كونه قادراً على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد البعد ، ولا بدّ أن يعلم أيضاً كونه جواداً مطلقاً ، إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة فائدة ، ولا بدّ أيضاً وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده ، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله ، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد ، وأن يعلم أيضاً أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه ، إذ لو كان مستقلاً بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة ، ،
فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه
أن يقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )
ومن الناس من يقول : لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات ، بل الإنسان إذا
جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول : أعوذ بالله على سبيل الإجمال ، وهذا ضعيف جداً
لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله :{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالاً لمن لا يسمع ولا يبصر ، وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيباً على أبيه .
* وأما علم العبد بحال نفسه فلا بدّ وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام ، وأن يعلم أيضاً أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها ، إذا عرفت هذا فنقول :
إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهداً لها متيقناً فيها وجب
أن يحصل في قلبه تلك الحالة المسماة بالانكسار والخضوع ،
وحينئذٍ يحصل في قلبه الطلب ، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب ،
وذلك هو قوله : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ).
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أعاذنا الله وإياكم من الشيطان ومن نفخه ونفثه وهمزه.
قال عمرو: همزه المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر.
وقال ابن ماجة: المؤتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التيه.
الجامع لأحكام القرآن /القرطبي
والحمد لله رب العالمين