المراءاة والتسميع بالأعمال
ولا شك أن هذا المرض يفضي إلى الرياء والسمعة؛ لأن الذي يطلب الصيت والشهرة، سيسمع بأعماله، يقول: والله إني اليوم صليت في الجماعة، وأنا صائم، وجاء والله ذاك اليوم واحد يجمع تبرعات الحمد لله تصدقنا بألف وأعطيناه وكفلنا يتيماً، ونحن هل رأيت المسجد هذا الذي في الحارة، نحن قائمون فيه من أوله إلى آخره، يسمع بأعماله، ولذلك يقع في التسميع الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام في خطورته: (من سَمَّع، سَمَّع الله به) ماذا يعني سمع الله به؟ جاء في الحديث سمع الله به: مسامع خلقه وصغره وحقره، يعني يوم القيامة: يفضحه على رءوس الأشهاد، جزاء وفاقاً والجزاء من جنس العمل، هو أراد الشهرة في الدنيا، وأراد الصيت، قيل له يوم القيامة: يا منافق يا مرائي على الملأ! فعلت ما فعلت وقلت ما قلت رياءً وسمعةً، فيقال على مسامع الناس يوم القيامة على مشهد من جميع الخلق: هذا المرائي فلان: من سمع في الدنيا بأعماله سمع الله به يوم القيامة فشهر به وجعل ذكره سيئاً في الأولين والآخرين. ويمكن أن يكون هناك عند بعض من يطلب العلم شيء من هذا، عنده دافع طلب العلم من أجل الشهرة، كيف؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار) فهو تعلم لأي شيء؟ ليقعد فيسأل فيجيب، فيقال: الله! فلان عنده جواب، أو ليتصدر فيتكلم ويدرس ويقال: فلان صاحب علم! قد لا يُظهر لنا نحن شيئاً، فنظن أنه إنسان يتكلم بكلامٍ طيب، ما هو الفرق بين إنسان يتقدم ليحمل الأمانة ويعلم الأمة؛ يتعلم العلم لأجل سد الفراغ، فالناس في جهل، والمسلمون يحتاجون إلى علماء وطلبة علم، وبين هذا الرجل المذكور في الحديث؟! الفرق: (إنما الأعمال بالنيات) هذا نيته في التعلم إصلاح نفسه وإصلاح الخلق، أن يعبد الله على بصيرة ويعلم الناس، هذا مأجور مثابٌ على فعله، من ورثة الأنبياء، وهذا تعلم لكي إذا ناقشه عالم يأخذ ويبين له للعلم أنا اطلعت وقرأت كذا وقرأت كذا وعندي خبر من الذي تقوله، أو يماري به السفهاء، يجلس مع الناس ويماريهم ويتشاكس معهم ويتناقش، ويقال: فلان عنده ذخيرة وعنده اطلاع وعنده حصيلة. أو يصرف به وجوه الناس إليه ويتصدر المجالس ويتكلم ويلعلع بصوته قصده الشهرة، والصيت، وقصده أن يرفع من نفسه. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول؛ فإذا طلب الإنسان العلم لله فعلاً يكون الخمول عنده أحب إليه من التطاول. ومن مظاهر حب الظهور أيضاً تصدر المجالس: العمل لكي يكون مشتهراً- كما قلنا- بكثرة الكلام والتسميع والتعليق والظهور أمام الملأ وتصدر المجالس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا هذه المحاريب) يعني: صدور المجالس؛ فإذا جاء الإنسان يسلم على القوم فعليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقيم إنساناً ويجلس مكانه، أما أن يقول: أنا بصدر المجلس، ما أجلس إلا في صدر المجلس، فهذه المحاريب مذابح، هذه مذابح تذبح الإخلاص وتذبح الدين، وتذبح العلاقة التي تكون بين الإنسان وربه؛ لأنه يجعلها حطاماً محطمة، من أجل أن يكون المكان عنده بين الناس. وكثرة الكتابات والظهور في القنوات المختلفة، ومن مظاهرها الفرح بالمدح وإن كان باطلاً؛ الفرح بالمدح وإن كان باطلاً، هذا موضوع حب الظهور والسعي لنشر ذلك ونشر مناقبه أو ما تكلم الناس به عنه، والتألم لفوات المديح، لو فاته مدح، يتألم، والغضب من النصيحة، هذه من علامات الذين يحبون الظهور والغضب من النصيحة، فلو وجهت له النصيحة جادل وراءى وقال: ليس عندي هذا الكلام الذي تقوله وهذه الصفة والخصلة غير موجودة في نفسي ويدافع عن نفسه بالباطل.
افتعال المواقف لإبراز النفس
ومن مظاهر حب الشهرة: افتعال المواقف لإبراز النفس، ونسج القصص والخيالات التي تحكي من البطولات المكذوبة ويكثر في كلامهم قول: أنا.. أنا.. أنا.. ولي، عندي مثل ما قال فرعون وهامان وقارون، والمبالغة في وصف مواقفه وسرعة بديهته وذكائه وفطنته وتخلصه ومقدرته، ويقول لك: حصل، ويعطيك أشياء يظهر فيها بطولته ومواقفه ومآثره ومناقبه، أو أنه قد يشترك في عمل مع آخر فينسب الفضل له، ولا يذكر الآخر بشيء، ويستغل في الذكر مع أن فعل غيره ربما يكون أجود من فعله، وربما يكون غيره هو الذي أنقذ الموقف في الحقيقة، لكنه ينسبه إلى نفسه.
أن ينسب إليه أعمالاً ليست له
ظهر الآن انتحال المؤلفات الذين يسرقون علم السلف أو علم العلماء وينسبونه إلى أنفسهم، ويقول: فلان كذا، ومن الأشياء المضحكة أن بعضهم مثلاً: ينتحل كتاباً لغيره والكاتب هذا يكون قد مات قبل أن يولد صاحبنا؛ صاحب الكتاب الأصلي مات قبل أن يولد صاحبنا المنتحل الذي يريد الشهرة والصيت، والكاتب يقول: ولقيتٌ فلاناً فقال لي كذا وكذا، وهناك من يمسح اسم المؤلف الحقيقي ويضع اسمه، ويصبح عند الناس مضحكة، ويلعنونه يقولون: هذا كذب ووضع اسمه على الكتاب وداخل الكتاب يقول: لقيت فلاناً وهو ولد بعد ما مات صاحب القصة، كيف هذا؟!! وكثير من يسرقون مجهودات الآخرين، فهذا من المرض سرقة مجهودات الآخرين، عملية أو مشروع أو بحث كتاب أو رسالة، سرقة مجهودات الآخرين من قضية حب الشهرة، وحب الصيت، وهؤلاء من صفاتهم أنهم يتحرجون قولة لا أعلم، بل إنه لا يقولها أصلاً كلمة لا أعلم ليست واردة على لسانه.
أعلى الصفحة
مصاحبة قليلي الخبرة
وكذلك من صفاتهم مصاحبة حدثاء السن، قليلي الخبرة والتجربة ليظهر بينهم ويبرز عليهم، ليس غرضه نصحهم وتربيتهم، ليته فعل ذلك وكان قصده ذلك، لكنه قصده يعاشر هؤلاء الصغار حتى يكون بارزاً عليهم ويكون له بينهم شأن.
أعلى الصفحة
انتقاص الآخرين بقصد رفع نفسه
وكذلك من صفات الذي يريد الشهرة: انتقاص الآخرين ليرفع نفسه، ويؤثر أن يبقى من معه على جهلهم ولا يدلهم على من هو أفضل منه، ليبقى دائماً هو الأفضل في نظرهم ومن سماته: الحسرة إذا منع من الظهور وفاته المجال والمناسبة، فإذا فاتهم المجال بالمناسبة كان يمكن لتصدر وفات عليهم قال: لقد فاتني، يا ليتني كنتُ هناك فأفوز فوزاً عظيماً، وهؤلاء من سماتهم أيضاً: إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، تجده دائماً يقول: مشغول.. مشغول... عندي مواعيد أنا غير فاض لك... هذا حاله يريد أن يقول: أنا رجل مهم، عندي مواعيد وانشغالات وهو كذاب ما عنده شيء، يمكن أن يذهب ويختبئ في غرفته ويقفل على نفسه الباب، أو يذهب يلعب ويقول: عندي مواعيد، وعندي انشغالات، فهذا المرض منتشر. أيها الإخوة، هذا من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: كنت مع الشيخ فلان، وهو ما كان معه، وحصل لي الموقف الفلاني وهو ما حصل له، ويدعي بطولات زائفة.
أعلى الصفحة
لبس ملابس الشهرة ومراكبها
وكذلك من صفاتهم: أنهم يلبسون ملابس الشهرة، ويركبون مراكب الشهرة. قال شهر بن حوشب رحمه الله: من ركب مشهوراً من الدواب ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريماً. قال الذهبي رحمه الله معلقاً: من فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا متباهٍ فأعرض عنه فإنه أحمق مغرورٌ بنفسه، هذا لابس ثوب شهرة، وهذا في النساء كثير أن يقال عنها: صاحبة الثوب الفلاني، أو أنهم يعملون حفلة زفاف ما سمع بها الأولون والآخرون ليقال: إن هؤلاء عملوا، ليشتهر ذكرهم بين الناس. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعلن النكاح) لكن ما قال: أسرفوا وابذخوا وارموا الطعام وغالوا في الملابس، والفقراء من المسلمين يموتون من فقرهم، لا. فلذلك هذه قضية الشهرة وأن يذيع صيتٌ بين الناس ويتكلمون عن حفلته وعن وليمته وما حصل فيها.
أعلى الصفحة
الإعجاب بالنفس من دوافع حب الظهور
ولاشك أن من الأسباب المشتركة بين حب الرئاسة وحب الظهور: الإعجاب بالنفس، يعني من الدوافع: الإعجاب بالنفس: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ مهلكات وثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ كفارات وثلاثٌ درجات، فأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) فمن المهلكات إعجاب المرء بنفسه فيرى لنفسه من الميزات والفضائل، وذلك من وسوسة الشيطان، ويرى أنه صاحب فضل، وأنه صاحب ميزة، أنه إنسان شريف، إنسان صاحب قدرات، يتوهم هذا، ولابد أن ينشر فضله في العالمين. وكذلك من أسبابه: الرغبة في ثناء الناس، وإرادة المنزلة عندهم، ومن أسبابه أيضاً: التربية الخاطئة في البيت أو المجتمع كأن يُقَدِّم ويُثْنَى عليه في حضوره وليس بذاك، فيتوهم أنه فعلاً إنسان مهم، ويتصرف بناءً على هذا الأساس، ومن الأسباب القريبة من هذا أن يبتلى بأناسٍ أحداثٍ أغرار، يضعونه في غير موضعه ويرفعونه ويقولون: شيخنا المبجل، وقال شيخنا، وهو ليس بشيخ. والواقع -أيها الإخوة- الواقع السيئ يساعد على الشهرة والرئاسة، الناس إذا جهلوا العالم والعلماء الحقيقيين، فالعلماء العارفون ندرة.
خلا لك الجو فبيضِي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
ويتكلم أي واحد من الدهماء والرويبضة ينطق في أمور العامة، والواحد يبرز بسرعة من الجهال، ويدرس ويجلس إليه ويستفتى ويفتي، والناس في حاجة، المجتمع أحياناً يساعد على بروز هذه النوعية، ويقال: فلان والمحاضر فلان المؤلف فلان وكثيرٌ منهم أئمة ضلالة، فما أسهل مهمة الأعور الدجال في هذه الأمة!......
علاج مرض حب الشهرة
ينبغي أن يعالج المرء المصاب بحب الشهرة نفسه بكثيرٍ من العناية.......
التواضع لله
ومن ذلك: التواضع لله، العلماء كانوا يتكلمون في كتبهم عن أبواب مهمة بعنوان " خمول الذكر " ما المقصود به؟ أن يسعى الإنسان يسعى إلى إخفاء عمله، وإخفاء ذكره، ومحو اسمه فلا تبقى إلا عبوديته لله، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لا يضمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقرءا المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب : من هم يا رسول الله؟ قال: هم الشعث رءوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد) قال ابن الأثير رحمه الله في شرح العبارة الأخيرة في حديث واردي الحوض: (هم الذين لا تفتح لهم السدد) أي: لا تفتح لهم الأبواب، لو جاء إلى مكان، طردوه، قالوا: هذا فقير هذا مسكين ليس له مكانٌ عندنا، لا تفتح لهم الأبواب هؤلاء والوعد الحوض حوض النبي صلى الله عليه وسلم، حديثٌ صحيح. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) هذا الشخص الذي يظهر أمام الناس أنه مهين وذليل ليس له قيمة، لو جاء إليهم دفعوه عن الأبواب وقالوا: اذهب عنا، هذا الرجل ربما لو أقسم على الله لأبره.
إخفاء العمل عند السلف الصالح
من العلاج المهم لهذه المسألة: إخفاء العمل، فعن عوف بن مدرك قال: [كنت عند عمر إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن- قائد الإسلام في الفتوحات- فسأله عمر عن الناس، فقال الرجل: أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم، فقال عمر : لكن الله يعرفهم] ما يضرهم أن عمر ما عرفهم؛ لأن الله يعرفهم، فهذا من إخفاء العمل. ......
أويس القرني وإخفاء نفسه
إخفاء العمل أمرٌ مهمٌ فقد كان السلف يحرصون عليه رحمهم الله تعالى، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك: ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني رحمه الله تعالى، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة! ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس وله والدة، وكان به بياض -يعني: برص- فأذهبه الله عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) رواه مسلم . وفي روايةٍ لـمسلم : (له والدةٌ هو بها بر) من أسباب سعادة الرجل هذا بره بأمه لو أقسم على الله لأبره، هذا الرجل من أهل اليمن ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لـأويس : فاستغفر لي، فاستغفر له، قال عمر : أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام و العراق- قال عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة ، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس ، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت، فـأويس يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (يا أيها الناس اطلبوا من أويس أن يستغفر لكم) وعندما قال له هذا الرجل هذا: يا أويس ! استغفر لي، قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت حديث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال أويس : لقيت عمر ، قال: نعم. فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه واختفى. هذه رواية مسلم أيضاً. وفي رواية للحاكم : لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقرئ الرفاق - عمر حافظ للحديث فمنذ زمن والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن، حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر ، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كأنه- فقال له عمر : ما اسمك؟ قال: أنا أويس ، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم. قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم. دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي لنعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر : استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر : (إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجلٌ يقال له أويس القرني وله والدةٌ وكان به بياضٌ فدعى ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته). قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة ، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر- قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة ، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس ، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني ، فدللت على منزله فأتيته فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس : لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر -: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون عندما تؤذونه، والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر فقال: فكان فيهم سيد قومه، هذا الوفد الذي جاء إلى عمر ، فقال له عمر بن الخطاب : أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له أويس ، من أمره كذا ومن أمره كذا، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تذكروا من شأن ذا، ومن ذاك؟! فقال له عمر : ثكلتك أمك، أدركه أدركه -مرتين أو ثلاثة- ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن رجلاً يقال له أويس القرني من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟! قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر ، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي : إسناده على شرط مسلم. روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر) قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟ هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أقول ما أقول). قال الحسن البصري : إنه أويس القرني ، وقد ورد في رواية أنه أويس ، لكنها ضعيفة، هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.
ابن المبارك وإخفاء عمله
كان السلف رحمهم الله حريصين على إخفاء أعمالهم، ويكرهون الشهرة، فعن عبدة بن سلمان المروزي ، قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل- يعني: من المسلمين- فقتله، ثم آخر خرج من الكفار خرج إليه نفس الرجل من المسلمين فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله -المسلم قتل ثلاثة- تحدٍ أمام الجيشين فازدحم إليه الناس -إلى هذا المسلم- فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك ، وإذا هو يكتم وجهه بكمه -يخفي وجهه بكمه- فأخذت بطرف كمه فممدته فإذا هو ابن المبارك ، فقال عبد الله بن المبارك للرجل هذا: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا.