صورة لبذور في مرحلة النمو
أ.د. نظمي خليل أبو العطا موسى
أستاذ علوم النبات جامعة عين شمس
يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{63}) (الحج/63).
قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: هذا حث منه تعالى وترغيب في النظر بآياته الدالة على وحدانيته وكماله، فقال: (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك (أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) وهو المطر، فينزل على أرض خاشعة مجدبة، قد اغبرت أرجاؤها ويبس ما فيها من شجر ونبات، فتصبح مخضرة قد اكتست من كل زوج كريم، وصار لها بذلك منظر بهيج، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، اللطيف: الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفاياها وسرائرها الذي يسوق إلى عباده الخير، ويدفع عنهم الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه أنه يرى عبده عزته في انتقامه، وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، ومن لطفه أنه يعلم مواقع القطر من لأرض وبذور الأرض في بواطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات،(خَبِير) بسرائر الأمور وخفايا الأمور، انتهى.
ونحن نقول بتوفيق الله: هذه الآية من آيات العبودية النباتية لرب البرية في القرآن الكريم، فقد ربطت الآية بين الماء والنبات والأرض في إعجاز معجز، فالماء شرط ضروري للإنبات، وإن غاب الماء غاب النبات، والبذور والحبوب توضع في التربة بواسطة الزراع أو هي موجودة أصلا في التربة في الغابات والمراعي والأراضي الصحراوية والبرية.
وتظل الحبوب والبذور كامنة في التربة حتى إذا هطل المطر بدأت عمليات الإنبات العجيبة، حيث تتشرب الحبوب والبذور الماء من التربة وتنتفخ.
وتزداد في الحجم، ثم تبدأ البذور والحبوب الحية في إنتاج الإنزيمات المتوافقة مع المواد الغذائية المدخرة مع الجنين، فتتحول المواد الكربوهيدراتية والدهنية والبروتينية من صورتها المعقدة إلى صورة بسيطة تستطيع جزيئاتها الدخول إلى أنسجة الجنين وتغذيته، فتبدأ عمليات الانقسام والنمو في الجنين، ويفرز الجنين هرمونات النمو التي تجعل الجذير عادة يتجه إلى الأرض والرويشة تتجه إلى الهواء، ويبدأ الجذير امتصاص الماء والأملاح والمعادن من التربة، وتبدأ الرويشة إعطاء الأوراق الخضراء بعد أن
يتكون فيها اليخضور والبلاستيدات الخضراء، ويبدأ النبات بالنمو والازدهار، ونحن نشاهد الحقول أثناء إعدادها للزراعة ووقت بذر البذور والحبوب وهي جرداء صفراء أو سوداء قاحلة، وعندما يهبط المطر أو تروى الأرض تظهر الرويشات فوق سطح الأرض لتعطي الساق فيتحول لون الأرض من الأصفر أو الأسود المغبر إلى الأخضر لتغطيتها بالغطاء النباتي الجديد والجميل. ونفس الشيء يحدث في الصحاري القاحلة التي تكون هامدة ساكنة متطامنة صفراء قاحلة، وبعد هطول المطر عليها تنبت الحبوب والبذور وجراثيم بعض النباتات والطحالب والفطريات كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً) (الأنعام/99)، فكل شيء قابل للإنبات في الأرض ينبت ويخرج, وهنا تتحول الأرض إلى بساط أخضر جميل، ونفس الشيء يحدث في المراعي العشبية، حيث يموت المجموع الخضري للنبات وتسقط الأوراق وتجف وتتحول الأرض إلى صفراء عديمة النبات في غياب الماء، وعند هطول المطر تدب الحياة في بعض النباتات التي لم تمت وقت الجفاف، وتنبت بذور وحبوب وجذور والسيقان الأرضية لبعض النباتات ويظهر المجموع الخضري على سطح الأرض فتصبح الأرض مخضرة.
صورة لبذرة في مرحلة الإنتاش
وهذا كله يقع بلطف الله بعباده ومخلوقاته الذي حفظ حياة البذور والحبوب والجراثيم والسيقان الأرضية والجذور رغم الجفاف والسكون العجيب في هذه الأرض القاحلة، ونفس المظاهر تحدث مع الأشجار والشجيرات التي تسقط أوراقها وقت الجفاف فإذا حان وقت المطر نشطت تلك النباتات وتفتحت براعمها وخرجت أوراقها واخضرت الأرض.
والله سبحانه وتعالى الخبير الذي يعلم خصائص وتراكيب الحبوب والبذور والجراثيم والحوافظ الجرثومية وهيأها للتغلب على الجفاف، والإنبات وقت توافر الماء.
وعندما تخضر الأرض ويخضر النبات تبدأ عملية البناء الضوئي، حيث يثبت النبات ثاني أكسيد الهواء، ويحول الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية مخزنة في المنتجات النباتية، ويشطر النبات الماء ويستخدم هيدروجين الماء في تصنيع المواد الغذائية، وينطلق الأكسجين في الهواء ليكون سببا في حياة باقي الكائنات الحية هوائية التنفس، وتتكون المواد الغذائية النباتية بعد الاخضرار لتتكون المنتجات الغذائية والدوائية النباتية المختلفة ويستخدم الإنسان والحيوان والكائنات الحية الدقيقة المواد الغذائية الناتجة من النبات ويعطي الحيوان المنتجات الحيوانية وتنتج المواد المنتجة بالكائنات الحية الدقيقة، وهذا ما فصلناه في كتبنا: إعجاز النبات في القرآن الكريم، وآيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات، ومعجزات حيوية علمية ميسرة وغيرها من مؤلفاتنا في هذا المجال، وسبحان القائل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{63}) (الحج/63).
هذا ما رأيناه في هذه الآية بفضل الله
والله من وراء القصد وفوق كل ذي علم عليم والله أعلم.