عيوبٌ تحت المجهر1
من الأمور النادرة أن يسأل الإنسان نفسه " أين عيوبي " ؟
فالواحد منا دائما لا يرى في نفسه إلا الخير لأنه يحبها.
يقول ابن الجوزي:
( لتعلم أن النفس محبوبة وعيوب المحبوب قد تخفى على المحب، وفي الناس
من يقوى نظره وجهاده للنفس فينزلها منزلة العدو في المخالفة، فيظهر لها عيوبها ) .
-ومن أهم أسباب الجهل بعيوب النفس الخوف من نظرة الناس مما يجعلنا نتجاهل تلك
العيوب و ننسى أن الله ينظر إلى أعمالنا وهو مطلع على السرائر.
-وقد يصل الحال ببعض الناس أن يذم غيره بما فيه ويفرح إن مدح هو بما ليس فيه.
مع العلم أن البشر جميعا لا يسلمون من النقائص والعيوب ولكنها قد تقل عند البعض وتكثر عند الآخرين.
والإنسان السوي هو الذي يسعى جاهدا إلى تحسين عيوبه والتخلص منها ولهذا جاء في الدعاء المأثور
عنه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت
واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" .
وحتى نقف على عيوب أنفسنا لا بد من أن نعرف أهم صفاتها كما وصفها الله تعالى في القرآن الكريم.
فمنها :
1- الضعف: يقول الله تعالى : ((يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)) النساء 28
ويقول في سورة الروم: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ )) 54
إن الآيات تدل على أن خلق الإنسان كان من عنصر الضعف، وحسبه ضعفا أنه يتعرض
للنسيان بعد العلم، وللمرض بعد العافية ، وللهرم بعد الشباب ، وأخيرا لا بد أن يموت.
ومن العجيب أن ينسى ضعفه إذا ملك شيئا بعد القوة بسبب ما وهبه الله من العقل والفكر،
وما يلبث أن يستعلي ويسعى في الأرض بالفساد إلا المؤمن.
لذا كان من حكمته عز وجل أن ينزل بالإنسان ما يذكره ويشعره بضعفه من أمراض
ومصائب وابتلاءات حتى يعود إليه بخضوع وإيمان.
وفتح له باب التوبة إذا ضعف أمام الأهواء والشهوات والمعاصي .
كما أن الأحكام تنزل متوافقة لهذه الصفة كرفع الخطأ والنسيان وغير ذلك.
ويتغلب الإنسان على ضعفه بشعوره أنه قوي بالله تعالى، وبينت بعض الأحاديث أسباب القوة وسبيلها.
كقوله صلى الله عليه وسلم : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله".
2- الهلع و الجزع و المنع :
يقول تعالى في سورة المعارج: (( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {70/ 19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {70/ 20}
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {70/ 21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ))
اتصاف الإنسان بالهلع نتيجة لحبه لذاته وحبه للسلامة والبقاء، لذا يصيبه الخوف وربما
التضجر إذا نزل به ما يكره وقد يتعدى ذلك إلى الضرب واللطم إلا إذا اتخذ لنفسه وقاية
عن طريق عقيدته وتربيته لنفسه على الصبر والتحمل لنيل الأجر.
وكذلك هو منوع نتيجة لحرصه الشديد على ما يملكه ومن شدة الحرص يأتي الإمساك والمنع .
ويتغلب الإنسان على الهلع بالطريقة التي بينها القرآن الكريم وذلك بحسن صلته بالله
ومراقبته وتأدية الحقوق المالية والإيمان بيوم القيامة وما أعد الله فيه من الثواب والعقاب.
3- العجلة:
يقول تعالى ((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)) الإسراء11
و يقول سبحانه ((خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)) الأنبياء 371
العجلة من مقتضيات الشهوة ، لذلك ذمت في القرآن ، وهي طلب الشيء ، وتحريه قبل
أوانه ، وهي تؤدي إلى كثرة الزلل و الوقوع في الخطأ ثم الندم .
ومقدار العجلة في الناس ليست واحدة ، فبعضهم أكثر عجلة من غيره ، إلا أن الدوافع
النفسية للجميع تجعلهم عجولين ؛ لأن كل فرد يحب أن تكون رغائبه رهن خواطره ،
إلا أن الإنسان العاقل قوي الإرادة ، يستطيع أن يضبط عجلته الفطرية .
و أصل فطرة العجلة ليس من النقائص ؛ لأنها تمثل نوعاً من الحوافز للجد والعمل ،
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه العلامة الألباني رحمه الله
" التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة "،و لكنها تغدو من النقائص حين يسيء
الإنسان إدارتها فإذا صارت هي المسيطرة على العقل و الإرادة اختل توازن الإنسان ،
و جانب الحكمة في تصرفاته .
4_ الإنسان كنود كفور فخور :
يقول تعالى في سورة هود ( 9 – 11 ) ((وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ {11/9}
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ {11/10}
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ))
و في سورة العاديات يقول تعالى ((إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ {100/6}
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ {100/7} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)) .
و الإنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته ، فإن أصابته نعمة أو غنى فأول ما يخطر له
أنها كانت بعلمه و سعيه و مهارته و حسن تدبيره ، و أن الله رآه مستحقاً للتكريم فأكرمه
، و إذا مسه الضر تضجر و ربما تسخط ، وزعم أن الله لم يعطه في الحياة و أنه أهانه ،
بل ربما شك في عدله سبحانه و تعالى .
و في نفس الوقت إذا وقع في خوف و ضيق لجأ إلى ربه يدعوه و يرجوه النجاة و يعاهده
على الشكر إن هو كتبها له ، فإذا فرج الله عنه نقض العهد، و أخذ يعلل نجاته بالأسباب
وعاد إلى ما كان عليه ، مع أن الأمر في الحالتين ليس كما يتصوره الإنسان ، بل اقتضت
حكمة الله لعلمه بطبيعة كل منهما أن يمتحن هذا بالنعم ، و أن يمتحن هذا بالمكاره ، فهي ألوان امتحان فحسب .
و هذا التصحيح هو ما يقره القرآن الكريم لتقويم هذا العيب ، لكي يكون العبد على بصيرة ،
ويعلم ما يجب عليه من سلوك قلبي و نفسي و عملي .
فالإيمان بالقضاء و القدر و اليوم الآخر والتواصي بالحق و الصبر ، تنجي بإذن الله من المستوى المهلك لهذه الصفات .
5- القتر و الشح :
يقول تعالى في سورة الإسراء: (( قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا)) آية 100
ويقول تعالى في النساء 128 : ((وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ))
الإنسان في بذله قتور والسبب تخوفه من الفقر – فلو أنه ملك ما يستحيل نفاده - وهي خزائن رحمة الله- لخشي نفادها وأمسك.
و من أشد صور الشح : بخل الإنسان على نفسه بالطاعات و الحسنات و شعوره بالاكتفاء
بما هو قليل يسير منها ، و كأنه يمن على الله بها .. نعوذ بالله من الخذلان ..
وقد قوم الإسلام هذه الصفة فحذر من الشح بجميع صوره سواء بالمال أو الشح بالكلمة
الطيبة والأخلاق الحسنة وصنائع المعروف.
و أمره بالبذل والإنفاق في الخير ونهاه عن الإسراف، وحثه على التخلق بالأخلاق الحسنة.
6- إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .
قال تعالى في سورة العلق ((كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {96/6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)) 7
هذه الظاهرة تشاهد في الإنسان الذي يرى أنه استغنى بما يملك ، فيطغى .
وهذا الاستغناء قد يكون بالمال أو بالقوة أو بالعلم أ و بالصحة والعافية .
و لكن كيف ؟
نضرب مثالاً على العلم : إذا رأى الإنسان أنه وصل إلى درجة من العلم و شعر بأنه استغنى بعلمه أخذه الكبر والعجب و الصلف ،
فيحتقر هذا ، ويزدري ذاك ، و يسخر بآخر و هكذا ...
ومثال آخر بالمال : إذا رأى أنه غني ، و شعر بالاستغناء بذلك المال طغى بالتبذير والإسراف
و اتباع الشهوات و التفاخر و إذلال الناس ومنع حقوقهم في ذلك المال .
و يتغلب الإنسان على هذه الصفة بالإيمان و العمل الصالح و شعوره الدائم بالفقر لربه في جميع أحواله ..
وهذا ما بينه القرآن إذ جعل الله تعالى الإنسان حبيس الحاجة و الافتقار إلى الله فإذا مسه الغرور فطغى ،
جاءته العقوبة فذل و خضع و عندها يعرف حدود نفسه و يعرف افتقاره الدائم إلى ربه .
يقول تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {35/15}
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {35/16} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) فاطر 17
م.ن