اصل الخيل العراقـي
أولاً: أن الخيول كانت حيوانات وحشية كغيرها من بقية الحيوانات، فقد نقلت آن كلبي أنها من وحوشية قبائل وبار، ووبار من الأمم البائدة التي سكنت جزيرة العرب فيما يعرف الآن بالربع الخالي (وهي المنطقة التي ما بين حضر موت والسعودية) ولما هلكت أمة وبار صارت خيلهم وحشية لم يستطع أحد أن يقرب منها، وأصبحت تحوم في تلك الأرض، وانطلقت في بلاد العرب بعد ذلك سعياً وراء الكلأ والماء.
ثانياً: قول ثانٍ يقول: إن الخيل كانت معروفة في عهد جرهم وقطورا، وهذه القبائل من العرب البائدة. فقد نقل الأزرقي وغيره قول ابن إسحاق: إن الجياد سميت أجياداً أو جياداً لخروج الخيل الجياد منها مع السميدع ملك قطور أثناء حربه مع جرهم الأولى بقيادة المضاض بن عمرو. والمضاض بن عمرو هو والد زوجة إسماعيل عليه السلام الذي تنتسب إليه العرب المستعربة، وإلى إسماعيل عليه السلام ينتسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: قول ثالث يقول: إن العرب عرفت الخيل من عهد إسماعيل عليه السلام. وروى الواكبي أن أول من ركب الخيل هو إسماعيل عليه السلام بقوله: وإنما كانت الخيل وحشاً لا تطاق أن تركب، فسُخرت لإسماعيل فكان أول من رسنها وركبها ونتجها. وروى ابن الأعرابي في كتابه، والزبير بن بكار في أول كتابه «أنساب قريش» عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كانت الخيل وحوشاً لا تُركب فأول من ركبها إسماعيل، فبذلك سميت العراب». وقد يكون هذا نسبة إلى العرب المستعربة، والتي يرجع نسبها إلى إسماعيل عليه السلام. وعن ابن عباس كذلك قال: «كانت الخيل وحوشاً كسائر الوحوش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت أهداها وليَّنها لإسماعيل فركبها».
وقد رد الهمذاني هذا القول وقال ما نصُّه: «إن القوم ذكروا الخيل أخرجت لإسماعيل، وأنه هو أول من ركبه، وذلك غلط بعيد، ويُستدل بهذا على الفتنة التي وقعت ما بين جرهم وقطور وإسماعيلُ يومئذ غلام، راوياً أن القوم ركبوا الخيل ولبسوا السلاح وقالوا الشعر. وقال رجل من أكلب أنه لم يركب قبل ربيعة بن نزار أحدهم فرساً، واستدل بقول الشاعر قائلاً: أنا ابن من لم تُركب الخيل قبله ولم يدر خلق قبله كيف تركب»
رابعاً: أما القول الرابع فهو يقول: إن أصل الخيل عند العرب يرجع إلى عهد النبي سليمان عليه السلام. وأورد ابن الكلبي خبراً ملخصه أن الخيل العراب ترجع في جميع أصولها إلى خيل سليمان بن داود عليهما السلام، الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم "إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والأَعْنَاقِ" [ص: 31-33].
مما تقدم وبجمع الأدلة نرجح القول بأن الخيل كانت معروفة عند العرب البائدة، وذلك قبل نشأة العرب المستعربة التي هي من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إذ إن القصة المعروفة أنه عندما أتى نبي الله إبراهيم r وترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في أرض مكة، وأخرج الله ماء زمزم المباركة في أرض مكة، اجتمعت قبائل العرب العاربة في ذلك المكان عند الماء, فلما شبَّ إسماعيل تزوَّج ابنة المضاض بن عمرو سيد جرهم الأولى وأنجب منها، وتكونت بعد ذلك فروع العرب المستعربة من نسل إسماعيل عليه السلام.
وهناك قول يؤكد هذا: إن كلمة جواد أو أجياد إنما أطلقت على الخيل بسبب وجودها في منطقة أجياد في مكة المكرمة. وهذا المكان معروف حتى الآن.
وما ورد عن حب سليمان عليه السلام للخيل واقتنائه لها هو صحيح، وسيأتي ذكر ذلك ـ فيما بعد ـ عندما نتكلم عن الخيل العربية في الجاهلية والإسلام في الفصل الثاني.
وقد عُرفت الخيول في العصور القديمة بامتيازها بالسرعة وخفة الحركة، وكان لها في النفوس منزلة عظيمة لا تدانيها أية منزلة أخرى، مما دفع الناس للحفاظ عليها، والحرص على اتصال نسلها، وصيانتها من أن يخالطها هجين يؤثر فيما تنجبه.
وبقي متعارفاً عليه عند أصحاب الخيل أن يحافظوا على أنسابها كما يحافظون على أنسابهم هم، ويعتزوا بنسب الخيل ويحفظوه ويهتموا به اهتماماً ما بعده اهتمام.
ولقد اشتهر العرب بكثرة تفاخرهم واعتنائهم بأنسابهم وأنساب خيولهم، وكان العرب منذ القدم وفي سبيل المحافظة على خيلهم يختارون للإنزاء عليها (ويسمّون ذلك: التشبية) عتاق حصن الفحول المشهورة مهما كلفهم هذا الأمر، وليس كل حصان - وإن كان سابقاً وجميلاً - يخُتار للإنزاء وتشبية الخيل العراب، ولكن المختار لهذا حصن معروفة بالأصالة والعتق ومسماة ومؤصلة ومنسوبة إلى أحد أصول الخيل المعروفة، وعند ذلك فقط يولد المولود معترفاً به أصيلاً. ومن الجدير بالذكر واللطيف كذلك أن العرب قديماً كانت تنسب الفرس إلى الأب وليس إلى الأم كما هو الحال الآن، فقــد قال الملك عبد الله الأول ابن الحسين ـ رحمه الله ـ في كتابه المعروف «إجابة السائل عن الخيل الأصائل»: «إن الخيل في القديم كانت تنسب عند العرب إلى آبائها كما جاء في الرسالة عن أعوج وسلالته».
أما اليوم فيقولون: إن الخيل لا يرفعها إلا الحصن (الفحول) - أي لا يحفظها ويحفظ قوتها - وإنما يحرزونها بأمهاتها؛ لأن الفرس الأنثى العتيق لا ينزو عليها هجين ولا مقرف، فإذا نزى أحد الخيل الأصائل على مهرة من جنس الحمدانية وكان الذي نزى عليها كحيلان أخذت اسم أمها وتركت اسم أبيها خلافاً للقديم.
وأما في المحصنات فيفهم القارئ من قولنا: (يحرزونها بأمهاتها). أما إذا نزى أصيل على هجين، وهكذا دواليك إلى أربعين بطنا تعرف بآبائها، فتكون آخر الإحدى والأربعين أحرزت وحصنت بالخيل الأصائل، وتكسب اسم آخر حصان، فإذا كان حمدانياً بقيت حمدانية، والصنف يقرر لها وتلحق به عن طريق الحصن، فكأنهم رجعوا بذلك إلى القديم.
ومن العادات المعروفة عند القبائل العربية البدوية قديماً وحديثاً أنه إذا وقع قتال بين قبيلتين فأُخذت من إحداهما فرس أصيل، فإن صاحب الرسن (المربط) يأتي ويدفع لمن أخذ الفرس ناقة ويأخذ منه الفرس لأنه صاحب الرسن، وبهذا تعارفت العرب وتعاهدت على حفظ أنساب خيولها، واجتمعت على ذلك سائر قبائل العرب في الماضي البعيد والقريب وفي الحاضر، وللعرب في الحفاظ على أصالة خيلهم طرق يتبعونها في ذلك، أهمها اختيار الحصان الذي ينزو على الفرس، فعندهم أنواع مخصوصة من هذه الحصن، وأشهر الحصن التي تختار للتشبية -كما جاء في كتاب (أصول الخيل) للملك عبد الله الأول بن الحسين - على هذا الترتيب. أولاً: كحيلان شهوان، ثانياً: الصكلاوي، ثالثاً: الهدبان، رابعاً: كحيلان السامري، خامساً: الشويمان، سادساً: حمدان السمري، سابعاً: عبيان الشراك، ثامناً: كحيلان ربدان، تاسعاً: كحيلان أم عرقوب، عاشراً: كحيلان العجوز، وعنده غير هذه الخيل لا تشبي.
ومن طرق المحافظة في القديم على أصول الخيل ما ذكره بعض الرحالة الذين زاروا بادية الشام، ومنهم وردهارت في عام 1929 فقال: إنه يجتمع عدد من الشهود عند ولادة كل مهر أصيل فتكتب حجة أو شهادة توضح فيها صفاته المميزة واسم أبيه وأمه، ولا يذكر في هذه الحجة النَسَبيّة عادة اسم جديه وما قبلهما، ذلك أن كل فرد من أبناء القبيلة يعرف حسب التقاليد أصالة النسل كله, وليس من الضروري دائماً أن توجد هذه الشهادة النسبية مكتوبة، فكثير من الخيل ذكوراً وإناثاً تنتمي إلى ذلك الأصل الشهير، بهذا يمكن أن تثبت نقاوة دماء الآباء منها. وكانت العرب تهتم وتعتز بالخيل العراب، فقد تواترت الأنباء أنه في إحدى معارك الإسلام كتب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عُمَّاله عند تقسيم الغنائم بينهم أن يقسّم العطاء إلى الفارس والفرس، وأن يفضل الفرس العربي العتيق بسهمين على الفرس الهجين.
وكانت العرب تعتز بعرابة خيولها، قال ابن هشام في كتاب «السيرة النبوية» الشريفة: حدثني أبو عبيدة قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى سلمان بن ربيعة الباهلي وهو بأرمينيا يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العراب على أصحاب الخيل المقارف (المقارف الذي أبوه هجين وأمه عتيقة)، فعرض الخيل فمر به فرس عمر بن يثرب، فقال سلمان: فرسك هذا مقرف. فغضب عمر وقال: «هجين عرف هجيناً مثله». فوصل إليه غيث بن مكشوح المرادي فتوعده. ومن هنا يتبين لنا حرص العرب وقادتهم على الاعتناء وتكريم الخيل العراب، وأنه قد يغضب أحدهم إذا اتهم فرسه بأنه غير أصيل، لأنه يعتبره اتهاماً وقدحاً في نسبه هو.