السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في صباح يوم مشئوم ٍ، جاء إلى مصر فتى فرنسا المبير (نابليون بونابرت)، جاء بجيش لجب في قلبه من نار الحقد والثأر أكثر مما في يده من نار السلاح والعتاد، وحاول نابليون أن يداهن الشعب ويخادعه، فأعلن الإسلام، وأنه جاء ليخلص مصر من ظلم المماليك، وأنه محبٌّ للسلطان العثماني، (يعني جاء للتحرير).
ولكن أمتنا لم يكن قد سقط وعيها بعدُ، فرفضت الاستماع -مجرد الاستماع- إلى دعاوى ذلك السفاح، وبدأت المقاومة، وأخذ السفاح في الانتقام، فكان يقتل كل يومٍ عددًا من المشايخ، ورؤساء المقاومة، ويطوف برءوسهم محمولة على الرماح؛ إرهابًا وتخويفًا... وكان ما كان حتى خرج السفاح هاربًا بجلده، بعد عامٍ واحد لم تستقر له فيه قدم، ولم يهدأ له ليل.
وترك وراءه خليفته (كليبر) الذي أوصاه أن يفعل مثله، في سفك الدماء، وهدم القصور والدور، ومصادرة الأموال، فثارت القاهرة ثورتها الثانية، وكانت ثورة عارمة، واجهت هذا الجيش الفرنسي الذي كان يُرهب أوربا كلَّها.
صمدت القاهرة أمام هذا الجيش المبير صمودًا منقطع النظير، فتعرَّضت للتهديم والتحريق، ونهب الأموال، مع سفك الدماء بغير وازعٍ ولا رادع.
وهدأت الثورة، وظنَّ كليبر أنه قد أخمدها إلى الأبد، ولكن المقاومة كانت قد اتخذت طريقًا آخر، فأنشئت (خلايا سرّية)، كان من مهمة إحداها تخليص البلاد من رأس الشر (كليبر نفسه).
وقد كان وقتل (سليمانُ الحلبي الأزهري) كليبر. فكيف تصرَّف الفرنسيون أبناء (الثورة) ذات الشعار المثلث؟ الحرية - الإخاء - المساواة.
يقول هيرولد -مؤرخ الحملة الفرنسية، نقلاً عن مذكرات أحد رجالها-: "قتلنا بسيوفنا، وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال"!!
ثم قبض على سليمان الحلبي، وبدأ التحقيق بالضرب والتعذيب، وطال التحقيق، لا رغبة في الوصول إلى العدالة "وإنصاف المتهمين، بل الكشف عن شركائهم في الجريمة"، كما قال مؤرخهم (هيرولد).
وانتهى التحقيق إلى تقديم سليمان الحلبي، والشيخ محمد الغَزِّي، والشيخ عبد الله الغَزي، والشيخ أحمد الوالي، وهم أعضاء خلية الجهاد التي كانت مكلفة بهذه المهمة، والتي لم يستطع التحقيق أن يصل إلى أبعد من حدودها، برغم صنوف التعذيب التي صبّت عليهم صبًّا، ثم قُدِّموا للمحاكمة.
المحكمة:
وشُكلت محكمة عصرية من ممثلٍ للادّعاء، وعدد من الأعضاء، وأمين سر، وجميعهم يرتدون الأوشحة، يعلوهم الوقار، يجلسون على منصةٍ مهيبة، ويقف بين يديهم محامٍ فرنسي جاء للدفاع عن المتهمين، وفوق رءوسهم علم الثورة الفرنسية، ولافتة تحمل شعارها المثلث (حرية - إخاء - مساواة)، وبدأت المسرحية، صال ممثل الادعاء وجال، وانبرى له ممثل الدفاع، وبين هذا وذاك مناقشة الشهود، وانتهى عرض المسرحية؛ وصدر الحكم.
الحكم:
بعد هذه المسرحية الرائعة، أصدرت المحكمة العصرية أعجب حكم في التاريخ، بدأ بالكلام الظريف اللطيف الذي جاء في الديباجة؛ بعد الاطلاع على مرسوم تشكيل المحكمة، والاطلاع على مواد القانون برقم كذا وكذا، وبعد سماع الادعاء، ومناقشة الشهود، والاستماع إلى مرافعة المحامي الذي كلفته المحكمة بالدفاع عن المتهمين، (لم يعترف المتهمون بالمحكمة، وقاطعوها، ورفضوا الإجابة على أي سؤال موجه إليهم)، بعد هذا جاء الحكم العجيب الغريب ينص على الآتي:
1- تقطع رءوس المشايخ الثلاثة: محمد الغزي، وعبد الله الغزي، وأحمد الوالي، وتوضع على نبابيت (عِصيّ طويلة) وتحرق جثثهم بالنار.
2- ويكون هذا أمام سليمان الحلبي، وكل العساكر وأهل البلد الموجودين في المشهد.
3- تُشوى يد سليمان الحلبي اليمنى في النار أولاً.
4- إذا نضجت يده تمامًا واحترقت حتى العظم، يوضع على الخازوق، ويرفع إلى أعلى، حتى يراه الناس جميعًا.
5- تترك جثته هكذا حتى تأكلها الطيور والهوام.
6- يطبع هذا الحكم باللغة الفرنسية والعربية والتركية، ويعمم على البلاد.
هذا هو الحكم الذي ابتكر من فنون الوحشية، ما يعجز عنه الشيطان ذاته.
احترامًا لعقل القارئ الكريم، لن ندعوه إلى المقارنة بين ما حدث عند مقتل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وبين مقتل كليبر ممثل الثورة الفرنسية، التي علَّمت الدنيا الحرية والإخاء والمساواة.
التزييف:
ولكني أقف بالقراء عند فصلٍ من التزييف الذي تعرّضت له الأجيال، وغسيل المخ الذي ابتليت به أمتنا في هذا العصر.
وأول ما في هذا التزوير والتزييف تلك المقولة المسلَّمة سلفًا بأن فرنسا هي التي أخذت بيدنا إلى الدخول في عصر النهضة، والخروج من الظلام والتخلف، وهذه قضية شرحها يطول.
ولكن أن يقول مؤرخ الفكر المصري الحديث، والمستشار الثقافي لجريدة العرب الكبرى - أن يقول: "إن هذه المحاكمة أدهشت الجبرتي، وجعلته يبدي إعجابه بهذه الطريقة العصرية المتحضرة؛ فلأول مرة يرون قاتلاً متلبسًا بجريمته لا يُقتل على الفور"!! نعم، لم يقتل على الفور، ولكن كيف قتل!! وأين الذين قُتلوا بغير محاكمة؟ وكم عددهم، ومن هم؟
يقول هيرولد (مؤرخهم) -نقلاً عن مذكرات أحد رجال الحملة الفرنسية-: "ساعة قتل كليبر اندفعنا إلى الخارج، فقتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال"!! يا لها من حضارة عظيمة تعلمناها!!
أما مؤرخ "الحركة القومية في مصر" فيتحدث عن سليمان الحلبي بلفظ (القاتل، الجاني، الجريمة، دم الجريمة، مكان الجريمة، لاذ الجاني)، وكأنه شرطي فرنسي.
فإذا جاء إلى الحكم وطريقة تنفيذه، أخفى منه مسألة (شوي يد سليمان الحلبي وحرقها حتى العظم بالنار) أخفى هذا تمامًا، ولعلَّه يريد أن يستر على بلاد النور حتى لا يحرمنا من نورها.
والأدهى من ذلك ثناؤه على القضاة الفرنسيين لعدم انفعالهم، وأنهم كان باستطاعتهم أن يأخذوا كثيرًا من الأبرياء بجناية القتل، ولكنهم لم يفعلوا، فكانوا نموذجًا للعدل ومدعاةً للإعجاب.
والشيء الذي لم يسترع النظر -على أهميته- هو أن هؤلاء الأربعة، كانوا من أهل الشام، وباسم الغزو في سبيل الله جاءوا ليدافعوا عن دار الإسلام، فضربوا بذلك المثل في الوقت نفسه للوحدة العربية الحقيقية التي عصامُها ورباطها الإسلام.
والحمد لله لم يكن أصحاب المدرسة الاستعمارية في تفسير التاريخ قد وصل إليهم مصطلح (الإرهاب) بعد، وإلاَّ فإنهم كانوا سيقولون عن سليمان الحلبي والغزَّاوية الذين كانوا معه إنهم إرهابيون أجانب تسللوا عبر الحدود إلى مصر.
****************************************
لم أتخيل ما قرأته أنه حدث ،، وفعلا ً ملة الكفر واحدة ،، و " لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .
----------------------------------------
الكاتب : د . عبد العظيم الديب .
العنوان الأصلى للمقال : حرب التحرير