منتصف آيار
عزيزي إبراهيم
لست ادري لمن سوف أرسل هذه الرسالة... لقد كان عهدي لك آن احمل إلى قبرك في كل منتصف أيار بعض أزهار الحنّون فأنثرها فوقه .. وها قد وصل منتصف أيار دون أن أجد ولو زهرة حنون واحدة.. ولو وجدتها ..فكيف لي أن أصل إلى قبرك كي اعطكيها ؟ ..لقد مضت اثنتا عشرة سنة ..واعتقد انك بعدت كثيرا عن كل شيء .. فكما أنت تغور إلى أعماق الأرض وتتفتت ، فأنت أيضا تغور في ذاكرتنا، وتتلاشى .. ملامحك ،حتى ملامحك ،لم اعد أذكرها جيداً ..أما صوتك فلست اعرف كيف كان ..عيونك، لم اعد اذكر كيف كان بريقها.. ويصعب عليّ كثيرا أن أتصور حركتك.. كل الذي بقي منك في ذهني:جسد جامد.. كفّاه فوق صدره ..وخيط رفيع من الدم يصل بين طرف شفتيه وأذنه، واذكر_ بوضوح هنا_ كيف حملوك وألقوك في الحفرة بملابسك كلها..ثم أهالوا التراب، بينما مزق صمود رفاقك صوت نحيب مجروح أخذ يعلو خلفنا شيئا فشيئا،ثم صمت..
والسؤال الآن هو :لماذا اكتب لك ؟ ..ألم يكن الأجدر بي ،وقد فشلت في حمل أزهار الحنون إلى قبرك.. أن استمر في الصمت الذي بدأ منذ اثنتي عشرة سنة ؟ يبدو لي انه من المستحيل أن استمر في صمتي... إن منتصف أيار يضغط على صدري وكأنه قدر مجنون، اخطأ ذات مرة.. فقتلك بدل أن يقتلني..
إن خيوط القصة بدأت تنحل في رأسي.. وأخشى أن أنساها .. هل تصدق أني _حقا_ أخشى أن أنساها! وربما نسيتها أنت ..فما الذي يعنيك منها ألان ؟... ولكني أريد أن أساعدك،وأساعد نفسي في نسج خطوطها من جديد.
معظم القصص ليس لها بداية ..ولكن الغريب أن قصتنا معا لها بداية واضحة .. بل أكاد اقسم أن بدايتها من الوضوح بحث تستطيع أن تعتبرها فصلا مستقلا عن جريان بقية أحداث حياتنا..
كان الوقت بعيد العصر بقليل، وقد وقفنا_أنت وأنا_ إلى جانب الحجر الكبير الذي كان يشكل مقعدا أمام بيت جدك...كنا بدأنا التعلم على استعمال الأسلحة.. وحتى تلك اللحظة ،كانت أهدافنا علب الأطعمة المحفوظة الفارغة .. وصفائح الزيت العتيقة.. وإذا لم تخني ذاكرتي استطيع أن أقول أننا استعملنا "ضوء الكاز" كهدف لرصاصنا مرتين أو ثلاث.
كان الوقت عصرا.. نعم، سوف أؤكد على هذا مرة أخرى لان الصورة لا يمكن أن تكتمل عناصرها إلا إذا دخل إليها ضوء العصر.. لقد وقفنا إلى جانب الحجر الكبير، ثم سمعت صوتك:
_ ألست تريد الانتقام؟
وتبعت سؤالك سلسلة من الضحكات القصيرة قبل أن أسال بدوري:
- "مم" ؟
ورفعت اصبعك تجاه الحائط المقابل ..وأشرت إلى شيء ما وقلت والضحكة ما تزال تمسح كلماتك:
- من القط الذي سرق زوج حمام من البرج..
وضحكت أنا الآخر.. وتذكرت كيف استطاع هذا القط الملعون آن يصل إلى البرج في الحديقة في ليلتين متتاليتين ويسرق منه زوجا من أجود الحمام الذي يحرص جدي ،ونحن على تربيته..وقبل أن أصل إلى قرار سمعتك مرة أخرى..
- سوف اقتله أنا إذا خانتك شجاعتك..
ورفعت بندقيتك إلى كتفك..وأطلقتها ،ومن خلال الدخان ذي الرائحة الغريبة ،شاهدنا القط المسكين يقفز مذعورا إلى الوراء ..ثم يطلق ساقيه للريح إلى سور الحديقة المجاورة ،ويقف فوقه متحفزا يحدق بعيون مدهوشة إلى حيث خدشت الرصاصة جزءا من الحائط العتيق . لست ادري أي شيطان جعلني اهتف:
- أخطاته..سوف أجرب حظي..
إنني اذكر كيف صوبت إلى رأسه.. وحينما رايته مقعيا على السور من خلال انفراج علامة التصويب في مقدمة بندقيتي ، شعرت برجفة.. واضطرب التصويب لفترة.. كانت عيونه تحدق – ما تزال - حواليه بجزع ودهشة.. بينما اخذ ذيله يضرب الأرض بانتظام ،وأذناه تنتصبان وتميلان بحثا عن الخطر.. وفي لحظة ثانية رايته تماما في منتصف علامة التصويب ..فضغطت الزناد.. لقد لطمته الرصاصة في وجهه.. فانقلب وتشنجت أرجله في الهواء تتحرك زاحفة ..ثم هوى إلى جنبه واخذ الدم يتدفق..
وقدتني إليه ،وقلبته بمقدمة سلاحك..وهتفت..
-إصابة رائعة .. في منتصف رأسه ..لقد قطعت سلسلة أفكاره ..
ولكني كنت قد بدأت أتقيأ ..ثم لزمت الفراش أكثر من أسبوعين ..
وحينما زرتني أنت بعد فتره.. سألتني ضاحكاً:
-ماذا؟ القط المنقط اللص ..يجعلك تذوي هكذا؟.شيء مضحك!.الم تعد نفسك لخوض معارك نقتل فيها رجالا قططا؟
شعرت بالعار.. ولست ادري كيف كنت تكونت الكذبة تلك الساعة .
- القط ؟ أنت مجنون .. لقد كنت اقتل قططا بالحجارة وأنا طفل!.. كل ما هنالك أن كتف البندقية انزلق بعد الإطلاق، فلمس حلقي .. وهذا هو السبب الذي جعلني اتقيا.. ثم أني كنت مريضا من قبل ..
هل انطلت عليك الكذبة ؟ لست ادري إلى الآن .. ولكن الذي طمأنني يومها ،انك عدت إلي في المساء ..وهمست في أذني أن اعد نفسي لهجوم ما..خلال يومين ..
وفي السيارة التي حملتنا إلى المستعمرة المجاورة ..كنت تغني كالعادة.. بينما كنت ما أزال أعاني من وطأة الحادث.. ولكزتني فجأة ملفتا نظري إلى الحقول وقد بدأ يعطيها لون حياة جديدة:
_ هذا الحنون ..لقد كنا نفتش داخله عن حشرات ملونة لطيفة ..وكنا نقطع ألف زهرة حنون حمراء كي نجد حشرة واحدة.. يا سلام.. سوف.. أكون سعيدا لو عاهدتني على أن تحمل إلى قبري في كل أيار باقة حنون..أتعاهدني؟
-أنت سخيف. ولكن إذا كان عهدي سوف يسكتك فأنني أعاهدك..
ماتت الضحكة على شفتيك ،وضممت بندقيتك إلى صدرك ،وقلت بصوت واه ،ولكنه عميق:
-شكرا..
لقد نزلنا ،عند الظهر ،في حقول المستعمرة ..كانت الخطه جريئة ،ولكنها ممكنة.. احتلال البيوت المتطرفة من المستعمرة ثم نسفها.. والعودة إلى بلدتنا من جديد...
ولكن الذي حدث كان غير ذلك.. لقد فاجأنا اليهود في حقولهم ،ونشبت معركة ضارية ..كنت إلى جانبك.. وكنت اطلق نيران سلاحي كيفما اتفق ،فلسنا نرى أحدا نصوب عليه ..وكنا – خلال ذلك – نستمر في الزحف بين الأشواك والزرع..
هل كنت خائفا يومها؟ لست اذكر الآن..ولكن ذلك اليهودي الذي انتصب أمامنا واقفا على حين فجأة ،شل تفكيري ..كان يحمل قنبلة يدوية القاها فوقنا.. وسمعت صوتك والدخان يكاد يعمينا:
-اقتله ..لقد علق مشطي..
وانجلى الدخان .. كان ما يزال واقفا هناك يحمل قنبلة ثانية ويفتش بين الزرع عنا ..ورأيته من خلال علامة التصويب يقف هناك .. بعيون مذعورة ..ومرت لحظات دون أن يستطيع إصبعي شد الزناد .. كنت ارتجف ..وبقي الهدف واقفا في منطقة تصويبي .. كنت أشاهده من خلال أداة التصويب .. ومن خلال هذه الأداة ، شاهدته يكتشفك .. ويلقي فوقك بقنبلته الثانية ، ويولي الأدبار..
وهكذا أرجعناك إلى بلدتنا حيث دفنوك بكامل ملابسك كما يجب أن يدفن الشهداء .. وكانت أمك تبكي خلف رفاقك... بينما أخذت أنا- في غمرة عاري – ازرع فوق التراب الندي باقة حنون جمعناها في طريق عودتنا .
لقد مر اثنا عشر عاما على ذلك اليوم .. وأنا ملاحق من عاري .. كل أيار يثقل صدري ككابوس لا يرحم ..
والسؤال الذي يجأر رأسي .. هو : لماذا أذكرك الآن .. وأكتب لك .. أما كان الأجدر بي أن استمر في صمتي ؟؟
كلا .. إني لا استطيع .. الأيام تمر .. وأنت تغور في الرمل .. اخشى أن أنساك .. إني لا أريد أن أنسى ، رغم كل العذاب الذي يحمله التذكر .. فقد يستطيع هذا العذاب أن يجعلني أحسّ يوما بمدى ما هو ضروري أن أعود إلى قبرك .. فأنثر فوقه بعض أزهار الحنون ..
لست اعرف مبلغ تطوري الآن .. هل استطيع أن اقتل يهوديا دون أن ارتجف؟ لقد كبرت ..وجعلتني الخيمة اشد خشونة .. ولكن كل هذا لا يعطيني يقينا ..
يقيني الوحيد هو أني اشعر بالعار ملتصقا بي حتى عظمي.. هل يكفي هذا؟؟ اعتقد انه يكفي .. فالقط الذي قتلته لم يفعل سوى انه سرق زوج حمام كي يأكله .. وكان السبب هو جوعه حتما .. أما الآن فانا بإزاء جوع الاف من الرجال والنساء .. أقف معهم أواجه لصا سرق كل شيء..
أيكون هذا هو السبب الذي جعلني انفك عن صمتي .. كي أزيد التصاقي بك؟ .. سوف تغفر لي اعترافي .. لقد اكتشفت أنا – كما يجب أن تكون اكتشفت أنت منذ بعيد – كم هو ضروري أن يموت بعض الناس .. من اجل أن يعيش البعض الآخر.. إنها حكمة قديمة .. أهم ما فيها الآن.. أني أعيشها.
غسان كنفاني