كثرة النقد تضجر
النقد شيء تنفر منه النفوس، فلا أحد يحب أن يكون مثار انتقاد الآخرين. لكن هناك من يتخذه منهجاً له في الحياة وفي معاملة الناس، فتراه دائماً ينتقد من حوله ومن يتعامل معهم، حتى أنه ليستخرج السيئة منهم استخراجاً بأسلوبه المنفر ونقده اللاذع، وطبعاً هذا النقد لن يأت بأي نتائج إيجابية، بل على العكس، سينفر الناس من صاحبه ومن التعامل معه. ولكنه لو اتبع أسلوباً آخر أفضل من النقد، فحتماً ستكون النتائج مختلفة، على الأقل مع بعض الأشخاص. وهذا الأسلوب الآخر يحتاج كل واحد منا أن يدرب نفسه عليه، إن أراد فعلاً أن يغير في المجتمع والناس.
كلنا مثلاً، يرى شباباً ممتلئين طاقة وحيوية ونشاطاً، ولكن في ماذا؟.. في أمور لا طائل تحتها، فلو أننا وجهنا لهم الانتقاد، فهذا ربما يستفزهم ويزيدهم تعنتاً وإصراراً على ما هم عليه من الخطأ، ولكن لو أننا حاولنا أن نتحاور معهم ونناقشهم بأسلوب يخاطب عقولهم وقلوبهم، ونفهم ظروفهم وأحوالهم، حتى نضعهم على أول الطريق، لوجدنا أن لديهم طاقات مكنونة، وأن لكل واحد منهم ما يحسنه، إلا أن أحداً لم يهتم بتوجيههم أو مساعدتهم بطريقة عملية، أو كان ، إلا أن أسلوبه منفر. فلا ينبغي أن نغفل أثر البيئة التي نشؤوا فيها، ومدى تأثيرها عليهم. وتأثير البيئة هذا ربما يكون هو نفسه السبب وراء وجود أناس ـكما ذكرناـ يتخذون النقد أسلوباً لهم في الحياة وفي معاملة الآخرين، فالذي ينتقد الناس ربما تربى بأسلوب النقد، وعاش في بيئة لا تعرف سوى النقد.
ذكرت مرة إحدى الفتيات أن جيرانهم يتركون القمامة أمام البيت، ولا يلقونها في الحاوية، مع أنها ليست بعيدة. فقدموا لهم النصيحة، بأن وجود القمامة أمام البيت أمر غير مرغوب به، هذا عدا عن قبح منظرها ونتن رائحتها، فلم يستجيبوا لهم. فوجدوا أن لا فائدة من الكلام، وطبعاً لو أنهم انتقدوهم لكسبوا عداوتهم، إذ أن النصيحة لم تجد معهم، فهل سيجدي معهم النقد؟! ولكن الموقف أحياناً يتطلب فعلاً وليس قولاً، وهذا ما كان. صاروا كلما ذهبوا لإلقاء قمامتهم في الحاوية، أخذوا معهم قمامة جيرانهم. وبعد أيام، يبدوا أن الجيران شعروا بالخجل، فصاروا يلقون بقمامتهم في الحاوية، ولا يتركونها أمام البيت، وانتهت المشكلة.
هذا الموقف يشير إلى أن الفعل أحياناً يكون أجدى من القول، وأبلغ تأثيراً، وهو الذي يقود إلى التغيير، وهذا هو المطلوب.
إن حسن تقدير الموقف، ومعرفة مدخل ومفتاح الشخص الذي أمامك، وظروفه وأحواله، وكيفية مخاطبته، من الأسس المهمة في عملية التغيير، وهي كذلك قواعد أساسية في منهج الدعوة..﴿ ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والموْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجـٰدِلْهُمـ بالتي هي أحْسَنُ..﴾..{النحل:125}.
يقول سيد قطب-يرحمه الله-((والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له ولا تقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويُشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها، في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!)).
اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا...والحمد لله رب العالمين.
كثرة النقد تضجر