فالحديثُ يَدْعو إلى حُسْنِ مُعاشَرَةِ الآخَرِينَ، وحُسْنُ الْمُعاشَرةِ تُؤَدِّي إلى نَشْرِ الْمَحَبَّةِ بينَ النَّاسِ، والْمَحَبَّةُ تُؤَدِّي إلى التَّآلُفِ والتَّرابُطِ).
مَسْكُ زِمامِ اللِّسَانِ:
(1) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
قالَ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (معنى الحديثِ: إذا أرادَ أنْ يَتَكَلَّمَ فلْيُفَكِّرْ، فإنْ ظَهَرَ أنَّهُ لا ضَرَرَ عليهِ تَكَلَّمَ، وإنْ ظَهَرَ أنَّ فيهِ ضَرَرًا أوْ شَكَّ فيهِ أَمْسَكَ).
وقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (ومعنى الحديثِ: أنَّ المرءَ إذا أرادَ أنْ يَتكلَّمَ فلْيُفَكِّرْ قبلَ كلامِهِ، فإنْ عَلِمَ أنَّهُ لا يَترتَّبُ عليهِ مَفسدةٌ، ولا يَجُرُّ إلى مُحَرَّمٍ ولا مَكروهٍ فَلْيَتَكَلَّمْ، وإن كانَ مُباحًا فالسَّلامةُ في السُّكوتِ؛ لِئَلاَّ يَجُرَّ الْمُباحُ إلى الْمُحرَّمِ والمكروهِ).
وكذلكَ للنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في شرحِ (صحيحِ مسلمٍ)كلامٌ بهذا المعنى. والخُلاصةُ كما قالَ ابنُ رَجَبٍ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالكلامِ بالخيرِ، والسُّكوتِ عمَّا ليسَ بخيرٍ).
والصَّمتُ عندَ أهلِ اللغةِ: يُقالُ صَمُتَ -بضمِّ الميمِ- صَمْتًا وصُموتًا وصِماتًا؛ أيْ: سَكَتَ.
قالَ الْجَوْهَرِيُّ: (ويُقَالَ: أَصْمَتَ بمعنى صَمُتَ، والتَّصْمِيتُ السُّكونُ، والتَّصْمِيتُ أيضًا التَّسْكِيتُ).
المقصودُ بنفيِ الإيمانِ في الحديثِ:
قالَ الطُّوفيُّ: (ظاهرُ الحديثِ انتفاءُ الإيمانِ عمَّنْ قالَ ذلكَ، وليسَ مُرادًا، بلْ أُرِيدَ بهِ المبالَغةُ، كما يقولُ القائلُ: إنْ كنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي، تَهَيُّجًا لهُ على الطَّاعةِ؛ لأنَّهُ بانتفاءِ طَاعَتِهِ لا يَنتفِي أنَّهُ ابْنُهُ).
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) فلْيَفْعَلْ كذا وكذا، يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الآدابَ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.
وأعمالُ الإيمانِ:
منها: ما يَتعلَّقُ بحقوقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، كفِعلِ الواجباتِ وتَرْكِ المحظوراتِ.
ومنها: ما يَتَعَلَّقُ بحقوقِ العِبادِ، كَكَفِّ الأذى وإكرامِ الضَّيفِ وصِلَةِ الرَّحِمِ.
ومفهومُ التَّخْيِيرِ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ فيهِ الحافظُ رَحِمَهُ اللهُ: (سْتُشْكِـلَ التَّخْيِيرُ الَّذي في قولِهِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)؛ لأنَّ الْمُباحَ إذا كانَ في أحدِ الشِّقَّيْنِ لَزِمَ أنْ يكونَ مَأمورًا بهِ، فيكونَ واجبًا أوْ مَنْهِيًّا، فيكونَ حرامًا.
والجوابُ عنْ ذلكَ أنَّ صِيغةَ الفعلِ في قولِهِ: (فَلْيَقـُلْ).
وفي قولـِهِ: (لِيَصْمُتْ)لِمُطْلَقِ الإذْنِ الَّذي هوَ أَعَمُّ مِن الْمُباحِ وغيرِهِ.
نَعَمْ، يَلْزَمُ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ المباحُ حَسَنًا لدخولِهِ في الخيرِ).
إكرامُ الجارِ:
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)).
فالحديثُ يَدُلُّ على إكرامِ الجارِ، والنَّهيِ عنْ إيذائِهِ، وهنا لا بُدَّ مِنْ بَيانِ الأُمُورِ الآتيَةِ:
1- الوِصَايَةُ بالجارِ: قالَ تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}.
فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَنَ بيْنَ حَقِّهِ على العِبادِ، وحُقوقِ العِبادِ على العبدِ، الَّتي منها حَقُّ الجارِ، وهذا فيهِ بيانُ أهمِّيَّتِهِ وعِظَمُ حقِّ الجارِ.
وَعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
ومعنى سَيُوَرِّثُهُ أيْ: يَجْعَلُ لهُ مُشارَكةً في المالِ بفَرْضِ سَهْمٍ يُعْطَاهُ معَ الأقاربِ.
2- غِلَظُ حُرمةِ أَذَى الجارِ: يَحْرُمُ على المسلمِ أنْ يُؤْذِيَ أحدًا دُونَ حقٍّ، ولكنَّ أَذَى الجارِ أشدُّ حُرمةً.
عن الْمِقدادِ بنِ الأسودِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لأََنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلأََنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ)).
فالزِّنَا مِن الْفَوَاحِشِ الَّتي حَرَّمَها رَبُّنَا تَبَارَكَ وتعالى، ووَضَعَ التَّشريعاتِ الرَّادِعَةَ لِمُرْتَكِبِيها، ولكنَّ الزِّنَا بحَليلةِ الجارِ أشدُّ حُرمةً وفُحْشًا وجُرْمًا، وكذلكَ السَّرقةُ.
وعنْ أبي شُرَيحٍ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ (وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ))
قِيلَ: مَنْ يَا رَسولَ اللهِ؟
قالَ: ((الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
وَالْبَوَائِقُ: جَمْعُ بَائِقَةٍ، وهيَ الدَّاهيَةُ، والشَّيءُ الْمُهْلِكُ، والأَمْرُ الشَّديدُ الَّذي يُوافِي بَغْتَةً.
قالَ ابنُ بَطَّالٍ: (في الحديثِ تأكيدُ حقِّ الجارِ؛ لِقَسَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلكَ، وتَكْرِيرِهِ اليَمينَ ثلاثَ مَرَّاتٍ. وفيهِ نفيُ الإيمانِ عمَّنْ يُؤْذِي جارَهُ بالقولِ أو الفعلِ، ومُرادُهُ الإِيمانُ الكاملُ، ولا شَكَّ أنَّ العاصيَ غيرُ كاملِ الإيمانِ).
3- مفهومُ الإحسانِ إلى الجارِ:هوَ أنْ يقومَ بإيصالِ ضُرُوبِ الإحسانِ إلى جارِهِ، بِحَسَبِ الطَّاقةِ: كالهديَّةِ، والسَّلامِ، وطَلاَقةِ الوجهِ عندَ اللقاءِ، وتفقُّدِ حالِهِ، ومُعَاوَنَتِهِ فيما يَحتاجُ إليهِ، إلى غيرِ ذلكَ، وكفِّ أسبابِ الأذى عنهُ على اختلافِ أنواعِهِ؛ حِسِّيَّةً كانتْ أوْ مَعْنَوِيَّةً، وأَوْلَى النَّاسِ بالإِحسانِ الأقربُ فالأقربُ.
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِما أُهْدِي؟ قالَ: ((إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)).
ولذلكَ بَوَّبَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ في صحيحِهِ قالَ: (بابُ حقِّ الْجِوَارِ في قُرْبِ الأبْوَابِ) وهذا مِنْ عُمْقِ فَهْمِهِ للنُّصوصِ.
4- مَرَاتِبُ الْجِيرَانِ: التَّقسيمُ الآتي يُفيدُ مِنْ حيثُ تَرتيبُ إيصالِ الإحسانِ إلى الْجِيرانِ:
- الجارُ المسلمُ ذُو الرَّحِمِ: فهذا لهُ حقُّ الجوارِ والإسلامِ والقَرابةِ.
- الجارُ المسلمُ: فهذا لهُ حقُّ الْجِوارِ والإسلامِ.
- الجارُ غيرُ المسلِمِ: وهذا لهُ حقُّ الجوارِ، وذلكَ لعُمومِ النُّصوصِ، كما حَمَلَ ابنُ عمرَ الجارَ على عُمومِهِ، بحيثُ يَشْمَلُ المسلمَ وغيرَهُ؛ ولذلكَ لمَّا ذَبَحَ شاةً أَمَرَ أنْ يُهْدِيَ منها لجارِهِ اليَهُودِيِّ، وكما هوَ واضحٌ في قِصَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معَ جارِهِ اليَهُودِيِّ.
إكرامُ الضَّيفِ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))يَدُلُّ على أنَّ إكرامَ الضَّيفِ مِنْ خِصالِ الإيمانِ، ومِن العِباداتِ الَّتي يَتَقَرَّبُ بها العبدُ إلى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
وهنا لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الأمورِ الآتيَةِ:
1- حُكْمُ إكرامِ الضَّيفِ ومُدَّةُ الضِّيافةِ: ذَهَبَ بعضُ العُلماءِ إلى القولِ بوُجوبِ الضِّيافةِ، منهم أحمدُ واللَّيْثُ وابنُ حَزْمٍ والشَّوْكَانيُّ وغيرُهُم.
قالَ ابنُ حَزْمٍ في (المُحَلَّى): (لضِّيَافَةُ فَرْضٌ على الْبَدَوِيِّ والحَضَرِيِّ، والفقيهِ والجاهلِ: يَوْمٌ ولَيْلَةٌ مَبَرَّةٌ وَإِتْحَافٌ، ثُمَّ ثلاثةُ أيَّامٍ ضيافةً ولا مَزِيدَ، فإنْ زادَ فليسَ قِرَاهُ لازِمًا، وإنْ تَمَادَى على قِرَاهُ فحَسَنٌ، فإنْ مَنَعَ الضِّيافَةَ الواجبةَ فَلَهُ أَخْذُهَا مُغالَبَةً، وكيفَ أَمْكَنَهُ ويُقْضَى لَهُ بذلكَ).
وقالَ الشَّوكانِيُّ: (الحقُّ وُجوبُ الضِّيافَةِ، وقولُهُ: ((فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ))، فإنَّهُ صريحٌ أنَّ ما قَبلَ ذلكَ غيرُ صَدَقةٍ، بلْ وَاجِبٌ شَرْعًا.
كما أنَّ في الحديثِ تَحْدِيدَ مُدَّةِ الضِّيافَةِ الواجبةِ، وهيَ ثلاثةُ أيَّامٍ فَقَطْ، ولا يَحِلُّ للضَّيفِ أنْ يُحْرِجَ أَخَاهُ بعدَ هذهِ الْمُدَّةِ إلاَّ إذا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِ أَخيهِ لَهُ).
2- مِنْ آدابِ الضِّيافَةِ:إعدادُ الطَّعامِ لهُ، والتَّكلُّفُ وخاصَّةً في اليومِ الأوَّلِ، ولكنْ دُونَ إِسْرَافٍ وتَبذيرٍ؛ لأنَّا نُهِينَا عنْ ذلكَ. والَّذي يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا الآتي:
قالَ البخاريُّ في (صحيحِهِ): (بابُ صُنْعِ الطَّعامِ والتَّكلُّفِ للضَّيفِ) وذَكَرَ في البابِ حديثَ أبي جُحَيْفَةَ في قِصَّةِ سَلْمَانَ وأبي الدَّرداءِ.
ومَوْضِعُ الاستدلالِ فيهِ: (فجاءَ أبو الدَّرْدَاءِ فصَنَعَ لهُ طعامًا).
وكذلكَ: في قِصَّةِ الأنصارِيِّ أبي الهَيْثَمِ بنِ التَّيِّهانِ الَّتي يَرْوِيهَا مسلمٌ في(صحيحِهِ) عنْ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: خرجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ أوْ ليلةٍ، فإذا هوَ بأبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قالَ: ((مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السـَّاعَةَ؟))
قالاَ: الْجُوعُ يا رسولَ اللهِ.
قالَ: ((وَأَنَا وَالـَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأََخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا)). فقامُوا مَعَهُ، فأتى رَجُلاً مِن الأنصارِ، فإذا هوَ ليسَ في بيتِهِ.
فلَمَّا رَأَتْهُ المرأةُ قالَتْ: مَرْحَبًا وأَهْلاً، فقالَ لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ فُلاَنٌ))؟
قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لنا مِن الماءِ.
إذْ جاءَ الأنصاريُّ، فنَظَرَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصَاحِبَيْهِ، ثمَّ قالَ: الحمدُ للهِ، ما أَحَدٌ اليومَ أَكْرَمَ أَضيافًا مِنِّي.
قالَ: فانْطَلَقَ فجاءهُم بعِذْقٍ فيهِ بُسْرٌ ورُطَبٌ.
فقالَ: كُلُوا هذا، وأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيـَّاكَ وَالْحَلُوبَ)).
فذَبَحَ لَهُمْ فأَكَلُوا مِن الشَّاةِ، ومِنْ ذلكَ العِذْقِ، وشَرِبُوا.
فلمَّا أنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ)).
فَإِقْرَارُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصاريَّ على هذا دليلٌ على مَشروعيَّتِهِ.
وكذلكَ: في قِصَّةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ عندَما جاءَتْهُ الملائكةُ على صُورةِ شُبَّانٍ قامَ بضِيافَتِهِم على أَكْمَلِ وَجْهٍ، فصَنَعَ لهم عِجْلاً مَشْوِيًّا على الرَّضْفِ، وهيَ الحجارةُ الْمُحَمَّاةُ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وقالَ تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.
قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ: (وهذهِ الآيَةُ انْتَظَمَتْ آدابَ الضِّيَافةِ؛ فإنَّهُ جاءَ بطَعامِهِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُونَ بِسُرْعَةٍ، ولمْ يَمْتَنَّ عليهم أَوَّلاً فقالَ: نَأتيكـُمْ بِطَعامٍ؟
بلْ جاءَ بهِ بسُرعةٍ وخَفاءٍ، وأتى بأَفضلَ ما وَجَدَ مِنْ مَالِهِ، وهوَ عِجْلٌ فَتِيٌّ سَمينٌ مَشْوِيٌّ، فقَرَّبَهُ إليهِمْ، ولمْ يَضَعْهُ.
وقالَ: اقْتَرِبُوا، بلْ وَضَعَهُ بينَ أَيْدِيهِمْ، ولمْ يَأْمُرْهُم أمْرًا يَشُقُّ على سامعِهِ بصيغةِ الْجَزْمِ، بلْ قالَ: أَلاَ تَأْكُلُونَ؟
على سبيلِ العَرْضِ والتَّلطُّفِ.
كما يقولُ القائلُ اليومَ: إنْ رأيْتَ أنْ تَتَفَضَّلَ وتُحْسِنَ وتَتَصَدَّقَ فَافْعَلْ.
كما قامَ الخليلُ عليهِ السَّلامُ وزَوْجُهُ بخِدْمَتِهِم بنَفْسَيْهِما؛ لذلكَ عندَما بَوَّبَ البخاريُّ في صحيحِهِ قالَ: بابُ إكرامِ الضَّيفِ وخِدْمَتِهِ إيَّاهُ بنفسِهِ.
وقولُهُ تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} إلى آخرِهِ).
فوائدُ مِن الحديثِ:
1- الإسلامُ يَدْعو إلى كلِّ ما يُشيعُ الْمَحَبَّةَ والأُلْفَةَ بينَ أفرادِ المجتمَعِ الإِسلاميِّ.
2- الحديثُ يَدُلُّ على خُطورةِ الكَلِمَةِ؛ لأنَّ العبدَ قدْ يَتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لا يُلْقِي لها بَالاً يَهْوِي بسببِهَا في النَّارِ سَبعينَ خَريفًا.
3- في الحديثِ الحثُّ على التَّخلُّقِ بِمَكارمِ الأخلاقِ، والبُعدِ عنْ سَيِّئِها.
4- كما فيهِ الحثُّ على حُسْنِ مُعاشَرَةِ الآخرينَ.