الوصية على أبواب الفتن
كلنا يدرك - اليوم- أن الفتن تقرع الأبواب وتدق طبولها إيذانا بالدخول في أمر لا يعلم عواقبه ولا يعلم من وراءه ولا من المستفيد منه إلا الله وحده.
قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (42الرعد)
أرى خلل الرماد وميض جمر ٍ *** ويوشك أن يكون له ضرام
فإن لم يُطفها عقلاء قوم *** يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب أولها كلام
وليعلم أن حكمة الله تأبى أن يضيع دينه.
قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التوبة115)
ونصحاً مني أقدم هذه الوصية التي يتفق عليها العقلاء النبلاء .وأسأل الله أن تكون من القلب إلى القلب فإليكموها :-
أولاً : أوصي نفسي وأخواني بالحذر من العجلة والدخول فيما لم تتبين فيه العواقب. والنظر في المصالح والمفاسد والحذر من العاطفة البعيدة عن العقل.فإن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد. قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الانفال25)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي وَمَنَ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجًَا ، أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِه)
وعند مسلم: (تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي فمن وجد ملجأ أو معاذا فليستعذ). ولقد كانت مواقف السلف الصالح تدل على هذا.ففي الحلية لأبي نعيم قال: أتت الحرورية مطرفا تدعوه إلى رأيهم فقال: لو كان لي نفسان لقدمت أحدهما قبل الأخرى فإن هجمت على خير أتبعتها الأخرى وإلا أمسكتها ولكن إنما لي نفس واحدة ما أدري على ما تهجم خيرأو شر.وقال: أن الفتنة لا تجيء تهدي الناس ولكن تجيء تقارع المؤمن عن دينه.وقال عن عَبْد الله بن عُمَر رضي الله تعالى عنه: إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة فأخذ بعضهم يمينا وشمالا فأخطأ الطريق وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول فعرفناه وأخذنا فيه وإنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا ما أبالي أن يكون لي ما يقل بعضهم بعضا بنعلي هاتين الجرداوين. وقال: قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهدا الأمر من غيرك فقال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد.وقال:لابنه عُمَر: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا لا والله حتى أعطى سيف إن ضربت به مؤمنا نبا عنه وإن ضربت به كافرا قتله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يجب الغني الخفي التقي.
وقال عن قتادة بن دعامة: قد رأينا والله أقواما يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها وأمسك أقواما عن ذلك هيبة لله ومخافة منه فلما انكشفت إذا الذين أمسكوا أطيب نفسا وأثلج صدورا وأخف ظهورا من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها وأيم الله لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير والله ما بعثت فتنة قط إلا في شبهة وريبة إذا شبت رأيت صاحب الدنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط ووالله لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها ليوشك أن تلفظه وتقضي منه. وقال عن مرة بن شراحيل: شهدت فتح ا لقادسية في ثلاثة آلاف من قومي فما منهم من أحد إلا خف في الفتنة غيري وما منهم أحد إلا غبطني.أ.هـ وفي الطبقات الكبرى لابن سعد: أَتَى مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ زَمَانَ ابْنِ الأَشْعَثِ نَاسٌ يَدَعُونَهُ إِلَى قِتَالِ الْحَجَّاجِ ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ هَذَا الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ ، هَلْ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالُوا : لاَ قَالَ : فَإِنِّي لاَ أُخَاطِرُ بَيْنَ هَلَكَةٍ أَقَعُ فِيهَا ، وَبَيْنَ فَضْلٍ أُصِيبُهُ. ويذكر عن مجاهد بن جبر رحمه الله.
أنه قال حين دعي للمشاركة في الفتنة: عده بابا من أبواب الخير تخلفت عنه. وجاء في تاريخ الإسلام للذهبي قال أيوب السختياني في العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث: لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، أو نجا إلا ندم على ما كان منه. وفي سير أعلام النبلاء: عن الشعبي، قال: كان مسروق إذا قيل له: أبطأت عن علي وعن مشاهده، فيقول: أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) أكان ذلك حاجزا لكم ؟ قالوا: نعم، قال: فو الله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم، وإنها لمحكمة ما نسخها شئ. فيجب أن نحسب لعواقب الأمور ومآلاتها والمؤمن كيس فطن. فإن في داخل المجتمع من يتربص به الدوائر.من أصحاب الأهواء والملل والمذاهب الباطلة. وأهل الإفساد والتغريب والأطماع. فيجب أن يحسب لذلك الحسابات.عند اندلاع الفتن وانفلات الزمام. فلا يجني الثمرة إلا الأعداء ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
قال تعالى: (وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (71)
أي: وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا.
ثانياً : على الجميع أن يتحلى بالصبر والحكمة عند الاستفزازات حكاما ومحكومين. وعدم الاستجابة لهوى النفس. وكبح جماحها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (ال عمران200)
وفي البخاري أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم َقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)
ثالثاً : على الجميع حكاما ومحكومين الحذر من كيد اليهود والنصارى وأذنابهم. وعدم اتخاذهم بطانة وعدم الاغترار بصداقاتهم المربوطة بمصالحهم الخاصة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (120ال عمران)
رابعاً : من أسباب النجاة بإذن الله :-
1 - لزوم مجالس العلم والعلماء. قال تعالى: (.. َأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..) (ال عمران7)
قال في الحلية :قال الحسن: إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.
2 - الإقبال على العبادة. فقد قال صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إلىَّ) رواه مسلم.قال النووي رحمه الله: الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس . وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا ، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا ، وَلَا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلَّا أَفْرَاد .أ.هـ
وقال في الحلية: عن ابن جبير قال: لقيني راهب فقال يا سعيد في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت.
3 - البعد عن المثيرات في وسائل الإعلام .فقد أخرج نعيم بن حماد في الفتن عن ابن عمر:إن الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها لا يحل لأحد أن يوقظها ويل لمن أخذ بخطامها.
4 - الإكثار من ذكر الله تعالى.
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الانفال45)
5 - العمل بوصية رسول الله والدعاء والتضرع إلى الله.قال صلى الله عليه وسلم : سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)متفق عليه.
فالدعاء تجلب به الخيرات ويستدفع به البلاء.
6 - إعلان التوبة الصادقة والسعي للإصلاح منا جميعا.حكاما ومحكومين.
قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (11الرعد).
اللهم أعذنا من الفتن.
وصلى الله على نبنا محمد وآله .
د.عبد الرحمن بن صالح بن عثمان المزيني