لا تكن من القاعدين..
بينما كانت ابنتي في طريقها إلى المنزل إذ شد انتباهها منظر مثير ؛ فقد وجدت امرأة تقف بجوار صندوق للقمامة تهتف بأطفال يسيرون خلفها أن أقبِلوا سريعا..هيا..هيا.. فسارع الأطفال إليها ، وإذا بهم يلتفون جميعا حول الصندوق ، ويفتشون فيه بلهفة ليخرجوا بقايا طعام و كسرات خبز، ثم يفترشون الأرض ويتناولونه وهم فرحون مبتهجون بتلك الغنيمة!!
عادت ابنتي إلى المنزل و هي منهارة ينطلق لسانها بالدعاء على الظالمين المستبدين الذين فتنوا شعبهم و أجبروا جزءاً منه للأكل من القمامة حفاظاً على حياتهم، و عندما وصفت لي هذا المشهد تأثرت تأثراً شديداً و تذكرت العديد من مشاهد الظلم و الاستبداد التي نتعرض لها كل يوم.. تذكرت أقسام الشرطة و كيف تُمتهن فيها كرامة الإنسان.. تذكرت بناتنا وأخواتنا وهن يبكين عندما أُجبرن على خلع النقاب عند أبواب الجامعات كشرط لدخولها، أما عن إهانتهن و التعدي على بعضهن فحدِّث ولا حرج..
تذكرت الدعاة الذين مُنعوا من الخطابة وإلقاء الدروس في المساجد وإبعاد البعض منهم خارج البلاد.. تذكرت الغاز الطبيعي الذي يقوم النظام بإمداده إلى الكيان الصهيوني بما يقل عن ربع سعره العالمي ..
تذكرت قانون الطوارئ الذي أذل البلاد و العباد..
شعرت بمرارة شديدة وظللت أدعو الله عز و جل أن يفرّج الكرب ويخلصنا من هؤلاء الظالمين المستبدين..
وفي ليلة من الليالي الماضية كنت أشاهد برنامجاً عن التعذيب في مصر فهالني ما شاهدت..
رأيت رجلاً يحكي عما حدث له من تعذيب في قسم الشرطة لأنه أبى أن يدفع جزءاً مما يكتسبه من عمله لأفراد من الشرطة فأخذوه إلى القسم و عذبوه بوحشية لا يمكن للعبارات أن تصفها –كما يقول- ثم أجبروه على ارتداء ملابس نسائية فاضحة وأخذوه إلى مكان عمله و طرحوه أرضاً بين زملائه..
أحسست بالقهر الشديد أمام هذه المشاهد ، وقلت في نفسي : إلى متى تستمر هذه الفتنة التي نعيش فيها؟؟
لقد فتن هذا النظام المستبد غالبية طوائف الشعب، فتنهم بإفقارهم .. فتنهم بإذلالهم و امتهان كرامتهم .. فتنهم بموالاته و محاباته لأعدائهم ..
الأمل:
ظننت أن هناك أمداً بعيداً يفصل بيننا وبين حريتنا ، وأن الفتنة التي وضعنا فيها هذا النظام قد نجحت إلى حد بعيد في تحقيق أهدافها ، ولكن الله عز و جل أكرمنا بنفحة من نفحات جوده و فضله بأن أيقظ عدداً كبيراً من الشباب ليقولوا كلمتهم .. كلمة الحق في وجه السلطان الجائر ، قالوا بكل جرأة و شجاعة : أنهم يريدون إسقاط هذا النظام الفاسد المفسد المستبد الظالم ، فخرج معهم الملايين من جميع طوائف الشعب ممن اصطلوا بنار الفتنة.
فأُسقط في أيدي سدنة النظام ، و شرعوا في حملة إعلامية شرسة لتبييض وجهه الكالح، و بدأوا في حملتهم الكاذبة يخاطبون كل فئة بما يقلقها من هذه الثورة ، فتارة يدَّعون بأن هناك قوى خارجية تحرك الثوار، و تارة يقولون أن هذه الثورة ستحدث فتنة وفوضى و خسائر ضخمة..
و بفضل الله عزوجل لم تُثنِ هذه الأراجيف من همة الشباب الثائر..و لكن ثمة فئة من الشعب تجاوبت معها ؛ خوفاً من الوقوع في الفتنة ، و رأوا أن يلوذوا بالقعود و الصمت حتى تمُر تلك الفتنة ، و ظهر فريق من الناس ممن التبس عليهم الأمر يضربون بشدة على وتر الفتنة و الفوضى ..
تعجبت كثيراً من هذا الإدعاء ، و قلت في نفسي: ألسنا نعيش منذ عقود طويلة في فتنة تتصاعد وتيرتها يوماً بعد يوم حتى أصبحنا نتنفسها في صدورنا وتضج به حياتنا؟؟ ما الذي ننتظره إذن حتى ندفعها؟
شعار قديم:
إن الزج بشعار: إياك أن تقع في الفتنة شعار قديم استخدمه البعض لتبرير قعودهم عن نصرة الحق ، ولدينا في السيرة النبوية أمثلة عديدة لذلك، فعندما استنفر رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين للخروج لقتال الروم (غزوة تبوك) قال الجد بن قيس لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله : أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عُجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه و سلم ، وقال : قد أذنت لك ، فنزلت فيه وفي غيره قوله تعالى : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا)[التوبة:49]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على هذا الموقف : فبين القرآن أن إعراضه عن الجهاد : فتنة عظيمة قد سقط فيها ، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟!
و يستطرد قائلاً : وهذا حال الكثير من المتدينين ، يتركون ما يجب عليهم من أمر أو نهي أو جهاد ليكون به الدين كله لله ، وتكون كلمة الله هي العليا ، لئلا يُفتنوا بالشهوات ، و هم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه. [1]
و عندما قاتل عبدالله بن جحش ومن معه من الصحابة –رضوان الله عليهم- بعض المشركين في آخر يوم من أيام شهر رجب –و هومن الأشهر الحرم- ، قالت قريش: قد استحل محمد و أصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال، فكان من نتيجة ذلك أن شعر عبدالله بن جحش ومن معه بحرج شديد ، فأنزل الله عزوجل : (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل:قتال فيه كبير، و صد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) [البقرة:217]
أي إن كنتم قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، و أخرجوكم منه وأنتم أهله ، وهذا أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم (و الفتنة أكبر من القتل) أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل.[2]
الفتنة الحقيقية :
مما لا شك فيه أن هناك مفاسد حدثت و ستحدث كنتيجة متوقعة لهذه الثورة المباركة ، و لكن المصالح المترتبة على نجاحها أكبر بكثير من تلك المفاسد و ستشملنا جميعاً بعون الله ، وذلك على مستوى الفرد والمجتمع والأمة ، فإياك إياك أن تكون من القاعدين .
.. إياك أن تخذل هؤلاء الشباب وتعطي للمستبدين فرصة للقضاء عليهم بقعودك... إياك أن تنجرف وراء إرجاف المرجفين ، فالحق أبلج ، و قد تبين الرشد من الغي ..
و أخيراً.. فإني أقول لنفسي و لك -أخي- : إن الفتنة الحقيقية هي قعودنا عن نصرة الحق فإياك أن تقع في تلك الفتنة..هيا .. هيا لا تردد..ولا تكن من القاعدين..
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد
و صلِّ الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين..
[1] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (167/28-165)
[2] السيرة النبوية لابن هشام 399-397/2