العطري بن عزوز
من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان حسن الخلقة والتسوية، قال تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}(1).
فالإنسان هو قبضة من طين ونفخة من روح، وقد خلقه الله تعالى بصورة تناسب الاستخلاف في الأرض، فهو منصب القامة ليرفع رأسه إلى الأعلى ليفكر بعقله وجعل الله له عينين ولسانا وشفتين ..ولو نقص عضو أو زاد لكان المنظر قبيحاً، وكل تلك الأعضاء يغلفها ستار محكم بديع يحجب الأسرار التي تجري بداخله، هذا الستار هو الجلد، وهو من أدق وأروع الآيات المحكمات الدالة على جليل صنع الخالق، لذا سوف نتوقف عندها قليلا لنتعرف على بعض أسراره، فحينما ننظر إلى جلد الإنسان، نجده يتأقلم مع كل المناخات ويتبدل دوريا كما يقول الدكتور كاريل: ( إن الجلد الذي يغطي السطح الخارجي للجسم غير قابل للاختراق بواسطة الماء والغازات، كما أنه لا يسمح للجراثيم بالدخول إلى الجسم، فضلا عن أنه قادر على تحطيم هذه الجراثيم بمساعدة المواد التي تفرزها غدده، بيد أن تلك الكائنات القاتلة التي نطلق عليها " فيروس " قادرة على عبوره .. )(2).
فالغريب أن هذا الجلد يسمح بخروج الماء ولا يسمح له بالدخول كما يقول الدكتور عبد الرزاق نوفل : ( ..فالجلد لا ينفذ منه الماء ولا الغازات، رغم مسامه التي تساعد على إخراج الماء من داخل الجسم فهو يخرج الماء ولا يسمح بدخوله ! والجلد معرض لهجمات الميكروبات والجراثيم التي تسبح في الجو، لذلك يسلح بإفرازات قادرة على قتل تلك الميكروبات .. ويضيف قائلا : ( ومن أهم وظائف الجلد، حفظ الجسم عند درجة ثابتة من الحرارة، إذ أن أعصاب الأوعية الدموية في الجلد تنشطها عندما يشتد حر الجو، كي تشع منه الحرارة.وتفرز غدد العرق ما يزيد على لتر من الماء فتخفض درجة حرارة الجو الملاصق للجلد.أما إذا اشتد برد الجو انقبضت الأوعية الدموية فتحتفظ بحرارتها ويقل العرق...هذا الجهاز أعد بعناية وتقدير.. )(3)
وكما هو معلوم فإن الجلد هو أكبر عضو في جسم الإنسان، إذ تبلغ مساحته 2 م2 وتنمو خلايا الجلد وتموت وتستبدل نفسها باستمرار، وقد بين علم التشريح أن الجلد ليس كما كان الناس يتصورونه، بأن جسم الإنسان حساس كله للألم بل الحقيقة هي كما يقول الدكتور خالص جلبي : (.. إن انتشار الأعصاب تحت الجلد شيء لا يكاد يصدق، وتنتهي الألياف العصبية بجسيمات خاصة يختص كل نوع منها بنقل حس معين، فهناك جسميات تنقل الحر، وأخرى تنقل البرد، وثالثة للمس والضغط، ورابعة الحس الألم، وخامسة تختص بنقل الحس العضلي أو ما يسمى بالحس العميق ، وهكذا تتنوع الإحساسات وتتباين..)(4).
وهذا ما أثبته العلم الحديث، حيث توصل العلماء المجتمعون في المؤتمر الذي عقد أخيرا بمدينة نيويورك، وكان الهدف منه إظهار ما تفعله خلايا البشرة وكيف تعمل، فكانت النتائج أنه عندما يصاب المرء بحروق شديدة، فإن بعض وظائف الجلد البيولوجية والكيمائية تتوقف أو تتعطل، وقد يكون توقفها أخطر من فقد الجلد نفسه )(5). قد تناول كثيرون بالدراسة دلالة القرآن الكريم على وجود تركيبات دقيقة في الجلد تقوم بوظيفة الإحساس وإذا تدمرت تلك التركيبات عند حريق الجلد يتعطل نقل الإحساس ولا سبيل لإعادته سوى بتجديد الجلد وتبديل التالف, يقول العلي القدير: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }(6) .
فإذا دخل الكافر النار يوم القيامة وأكلت النار جلده، فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد ويقول الكفار : تخوفونا من النار ! فالنار تأكل الجلد ثم نرتاح.لكن القرآن يخبرنا بأنه سيبدل الجلد جلدا آخر ليذوقوا عذاب النار. وما كان بوسع أحد من البشر قبل اختراع المجهر وتقدم علم التشريح الدقيق أن يعرف هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً مضت.وفي هذا المعنى يقول الشيخ الشعراوي: ( ..القرآن مسها على أنها حقيقة واقعة والعلم لا يخلق الحقائق وإنما يكتشف الحقيقة الموجودة، فالإذاقة موطنها الجلد والحس موطنه الجلد وما تحت الجلد، إذن القرآن قد تكلم عن الحقيقة العلمية حقيقة مستقرة ثابتة صحيح أنه لم يعلمنا أنه تعمل تجربة للمخ وتجربة للنخاع الشوكي وأعرف الحركة العكسية لا .. أبدا إنما تكلم على أنها حقيقة واقعة ملموسة عرفها الإنسان أو لم يعرفها ولكن الوسيلة إلى معرفتها ذلك هو النشاط الذهني للإنسان)(7).
ومن جهة أخرى يحذرنا الدكتور ألكسيس كاريل من المخاطر التي قد يتعرض لها الجلد في حياتنا نتيجة التعديلات الطبيعية والكيميائية التي نقوم بها دون دراية بعواقبها فيقول : ( ... أننا بعيدون كل البعد عن الإلمام التام بالتأثير الذي يحدثه التعرض لأشعة الشمس على نمو الجسم كله.فإلى أن نتمكن من معرفة طبيعة هذا التأثير بالضبط، فإن العري والمغالاة في ( دبغ ) الجلد بالأشعة الطبيعية أو بالأشعة فوق البنفسجية يجب ألا يقبل دون تدبر فإن الجلد وملحقاته يلعبون دور الحارس الأمين لأعضائنا ودمنا ... ويضيف قائلا : ..وهكذا يتكون من جسمنا عالم مغلق يحده الجلد من أحد جانبيه، والغطاء المخاطي لسطوحنا الداخلية من الجانب الآخر. فلو أضعفت هذه الأغشية في إحدى النقط لتعرض كيان الإنسان للخطر، فقد ينتهي مجرد الحرق السطحي بالوفاة إذ امتد فوق منطقة كبيرة من الجلد ..إن هذا الغطاء يفصل أعضائنا وأخلاطنا عن البيئة الكونية ومع ذلك فإنه يسمح باتصالات مادية وكيميائية غزيرة بين هذين العالمين، إنه يحقق معجزة وتلك أنه مغلق ومفتوح في آن واحد)(8)، وقد أثبتت دراسة حديثة في اليابان أن جلد الإنسان وجسمه ينقل المعلومات ويحفظها كما لو كان ناقل للبيانات الرقمية بل يمكن أن يعمل كشبكة معلومات شخصية متحركة عالية السرعة تربط بين هاتفك المحمول
وسماعة الأذن اللاسلكية والكاميرا الرقمية ومشغل الفيديو وحاسبك الدفتري وغيرها من الأجهزة التي تملها معك لتنتشر بيننا مقولة : (( ما نقل بياناتك مثل جسدك. ليس هذا من قبيل الخيال العلمي ولكنه تحول بالفعل إلى حقيقة مع تكنولوجية " ريد تاكتون Red Tacton التي طورتها شركة الاتصالات اليابانية (إن تي تي دوكومو ) والتي تمكنت بالفعل من نقل بيانات كالموسيقى والفيديو الرقمي عبر كابلات عبر الجلد من اللحم والدم .. وتقوم تقنية " ريد تاكتون " بتحويل سطح الجسم البشري (الجلد ) إلى مسار ينقل المعلومات بسرعات تصل إلى 10 ميجا بيت في الثانية بين أي نقطتين، وبهذا الشكل يمكنك أن تتبادل مع آخر المعلومات من خلال مصافحة اليدين.. )(9).يبدو أن هذا الكلام هو تفسير لقول الله تعالى:{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}(10).
ومعنى هذا أن الجلد والسمع والبصر وما يتصل بهم من أعصاب وأجهزة أخرى تقوم بدور حفظ المعلومات وكل ما يقوم به الإنسان في حياته، ويوم القيامة حين يجحد الإنسان أعماله التي قام بها في حياته الدنيوية تصدر هذه الأجهزة البيانات المخزنة طيلة حياته، وتظهر الحقيقة مبينة.وتكون هذه الآية خير شاهد على إصرار الإنسان على المعصية وعدم الاهتمام بهذا النداء والتحذير الإلهي.وما زالت الأسرار تكتشف لتضع الإنسان موضع العجب والحيرة التي لا يملك بعدها إلا التسليم بعظيم قدرة الله في الإنسان وفي الكون.