الجمال الظاهري ـ والحديث هنا عن جمال الانسان ـ الذي يطالعنا لأوّل وهلة قد يكون لافتاً يبهر الأبصار ، لكنّ هناك جمالاً آخر قد لا تلتقطه عيوننا إلاّ بعد حين ، أو أ نّنا نراه بعيون أخرى ، وهو الجمال الباطن الذي يمكن أن نسمّيه بجمال الروح أو الجاذبية أو خفّة الدم ، وهو الذي يضفي على جمال الجسد جمالاً أبهى وأدوم .
فإذا كان جمال الظاهر يتمثّل في حسن الطلعة وفي النظافة وفي الأناقة وفي الزينـة ، فإنّ جمال الباطن يتجلّى في حسن السمت وهو الوقار وطلاقة الوجه وجمال البيان ورجاحة العقل والأخلاق الفاضلة الحميدة، أي أن هناك جمالين: حمالاً مادياً حسِّياً يُمثِّل العشرة الخارجية، وجمالاً روحياً معنوياً يُمثِّل اللّباب . ولسنا نقلّل من أثر الجمال الظاهري في النفس الانسانية التي تهشّ له ، لكنّ الجمال الباطني هو الذي يشع ببهائه على الجمال الظاهري، فالجمال ـ كما يرى علماء النفس ـ ذو تأثير سريع وآني، في حين تحتمل الجاذبية التأمّل والإمعان ، ويمكن أن تظهر على شكل حركة أو إيماءة جذّابة ، أو نظرة ساحرة ، أو ابتسامة خلاّبة، ولاتخضع الجاذبية لأيّ مقاييس فهي شيء سرّي نكتشفه عند الآخرين ويؤثّر فينا .
إنّ الفرق بين الجمالين هو كالفرق بين ورود اصطناعية موضوعة في مزهرية على طاولة ، وبين ورود طبيعية تبعث برسائل أريجها المنعش فنستشعر بأنفاسها الزكيّة وهي تلطّف الأجواء من حولنا وتشيع البهجة في نفوسنا .
ولكن لنتساءل هنا : ألا يمكن أن يُصاب الجميل أو الجميلة بتشوّه في أحد أعضائه أو في جسمه كلّه جرّاء مرض أو حريق أو حادت سيارة ؟ ألا يعني ذلك أنّ جمالنا الظاهري عرضة للاستلاب والزوال في أيّة لحظة ؟! وحتّى لو لم نتعرّض لذلك أليست الشيخوخة ستداهمنا ذات يوم لتمتصّ نضارة هذا الشباب الغضّ الجميل ؟ وإن دود القبر في النهاية سيأكل وجوهنا المنعّمة المترعة بماء الجمال فلا تبقي منها سوى عظام نخرة ؟!
أمّا الجمال الباطنيّ وهو فضائل الانسان ومناقبه وطيبته وأخلاقه وأعماله الصالحة فهي التي تبقيه في شباب دائم لا يهرم ولا يشيخ بل ولا يفنى حتّى بالموت ، ذلك لأنّ فضائله سترافقه بجمالها المشرق ووجوهها النيّرة حتّى ساحة القيامة في اليوم الآخر .
إنّنا يجب أن لا نخفي حقيقة أنّ الجميل أو الجميلة يشعران بالرضا النفسي عن الهيئة أو الخلقة التي منحهما الله إيّاها ، أي أ نّهما بعكس الدميم أو الدميمة اللّذين قد يشعران بالحرج الاجتماعي وربّما يميلان إلى الانطواء والعزلة ، كما أنّ جمال الهيئة يفتح أسارير النفس المشاهدة فترتاح إليه وتأنس به، لكنّ هذا ينبغي أن يكون داعياً للشكر والامتنان والعرفان لا سبباً للعجب والغرور والتباهي والخيلاء والافتتان .
وللأسف ، فبسبب النظرة المتدنّية للقيم في بعض مجـتمعاتنا ، فإنّ الجميل قد يكون محبوباً لجماله الخارجي حتّى ولو كان غبيّاً ، أو يحمل أخلاقاً قبيحة ، أو لا يمتاز بأيّة ميزة أو مهارة معيّنة ، وقديماً قالت العرب : قبل أن نراك يعجبنا منك إسمك ، وحين نراك وجهك ، وحين تتكلّم منطقك !! فالنظرة الاُولى أو الانطباع الأوّل غير كاف لتقييم الجمال فهو غالباً خادع .
إذاً هناك جمال لا تستطيع المرايا أن تكشفه وهو الذي يُعبّر عنه في علم النفس بـ (سحر الشخصية) أو المغناطيس الشخصي الذي ينبع من الحياة الداخلية للانسان والتي تتمثّل في المزايا النبيلة والصفات الشريفة والشـمائل الوديعـة ، حتّى يمكن القول إنّ الجمال هو التوازن والانسـجام بين هذه العناصر وبين تلك ، أي أنّ الجميل في خلقـته الدمث في أخلاقه الذي يتوافر على خصال جميلة يكون قد حاز على الحسنيين ، وإذا كان لا بدّ من التقديم فالجمال الثاني مقدّم على الأوّل :
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده***فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللحمِ والدمِ
وإذا كان هذا هو حال الفـتى ، فإنّ حال الفتاة يختلف لجهة أنّ جمالها الظاهري يكتسب أهمّية أكبر ، لكنّنا بتنا نلاحظ ـ كجزء من تطوّر الشخصيّة ـ أنّ نسبة كبيرة من الفتيات لم يعدن يعتمدن فقط على حسنهنّ الخارجيّ ، وإنّما يحاولن أن يضفن إلى رصيدهنّ منه رصيداً لا ينفد من حسن خُلق وحسن عمل وحسن عقل وحسن تصرّف وحسن معاشرة وحسن أمومة ، لأ نّهنّ أدركن أنّ الجمال الحقيقي هو سحر الشخصية وجاذبيتها لا السطح الظاهر منها .