ذكَرْنَا أنَّ النَّصارى يعتقدُون أنَّ متى ويوحنَّا ومرقس ولوقا , أصحاب الأناجيل الأربعة , كَتَبُوا أناجيلَهم بإلْهام من الرّوح القُدس , وعصَمهُم اللَّهُ تعالى من الخطأ في الكتابة . وكذلك الحال بالنِّسبة لِبولس وبطرس ويعقوب ويهوذا , أصحاب الرَّسائل . لكنَّ الغريب أنَّ كلَّ هؤلاء الكتَّاب , ما عدى بولس , لَم ينسبُوا الإلهامَ إلى أنفُسِهم ! بل الأغرب من ذلك : تحدَّثُوا عن أناجيلهم ورسائلهم على أنَّها مجهودٌ بشري بَحْت .
فقد كتب لوقا في مقدِّمة إنجيله : إذْ كان كثيرُون قد أخذُوا بتأليف قصَّةٍ في الأمور المتَيَقَّنَة عندنَا , كَما سلَّمَها إلينا الذينَ كانُوا منذُ البدْء مُعاينينَ وخُدَّامًا للكَلِمَة . رأيتُ أنا أيضًا , إذْ قد تَتبَّعْتُ كلّ شيء من الأوَّل بتَدقيقٍ , أن أكتبَ على التَّوالي إليكَ أيُّها العزيزُ ثاوُفيلُس لِتَعرفَ صحَّةَ الكلام الذي عُلِّمت به . (إنجيل لوقا – الإصحاح الأوَّل 1 – 4) .
فلم يذكُر لوقا في مقدِّمته شيئًا عن الإلهام الإلهي , وإنَّما ذكَر بالعكس أنَّ كتابهُ رسالةٌ شخصيَّة , كَتبها بِدَافع شخصي !
ولو تأمَّلْنا في الرَّسائل لَوَجدنا فيها العديد من المواضيع الشَّخصيَّة التي لا علاقة لها بالوحي أو بالإلهام !
فمثلاً , جاء في رسالة بولس : الرِّداءُ الذي تركْتُه في تَرواس عند كارْبُس , أحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ , والكُتُب أيضًا ولا سيَّما الرُّقُوق . (تيموثاوس 2 – الإصحاح الرَّابع 13) .
وجاء في رسالة يوحنَّا : سلامٌ لك , يُسلِّم عليكَ الأحبَّاء , سَلِّم على الأحبَّاء بأسمائهم . (يوحنَّا 3 – الإصحاح الأوَّل 15) .
ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا بعض العبارات التي من المستحيل أن تكون وحيًا !
فمثلاً , جاء في إنجيل لوقا : ولَمَّا ابتدَأ يَسُوعُ كانَ له نَحْو ثلاثينَ سَنَة , وهو , على ما كان يُظَنُّ , ابن يُوسُف بن هالي . (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث 23) . فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى الذي ألْهَم لوقا في كتابة إنجيله , لا يعرفُ بالتَّدقيق متى ابتدأ يسوع , فقال : نَحْو ثلاثين سنة , ولا يعرفُ نَسبه بالضَّبط , فقال : وهو , على ما كانَ يُظَنُّ , ابن يُوسف ؟!!
وجاء في رسالة بولس : لستُ أقولُ على سبيل الأمر , بل باجْتِهاد آخَرين , مختبرًا إخلاصَ مَحَبَّتكُم أيضًا . (كورنثوس 2 – الإصحاح الثَّامن 8) . فهذا الكلام بالتَّأكيد ليس بإلهام !
ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا أخطاء , شهد التَّاريخُ بخطئها !
فقد جاء في إنجيل متى : فإنَّ ابنَ الإنسان (أي المسيح) سوفَ يأتي في مَجْد أبيه مع ملائكَته , وحينَئِذ يُجازي كُلّ واحد حَسبَ عَمَلِه . الحَقَّ أقولُ لكُم , إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان آتِيًا في مَلَكُوته . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 27 – 28) .
وجاء في موضع آخر من إنجيل متى : ومَتَى طَردُوكُم في هذه المدينة فاهرُبُوا إلى الأخرى , فإنِّي الحقَّ أقولُ لكُم , لا تُكَلِّمون مُدُنَ إسرائيلَ حتَّى يأتي ابنُ الإنسان (أي المسيح) . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 23) .
وجاء في موضع آخر أيضًا من إنجيل متى : وفيمَا هو جالسٌ على جَبل الزَّيتون , تقدَّم إليه التَّلاميذُ على انفراد قائلين : قل لنا متَى يكونُ هذا وما هيَ علامةُ مَجيئكَ وانقضاء الدَّهر ؟ فأجاب يَسُوع : ... وحينَئذ تَظْهرُ علامةُ ابن الإنسان في السَّماء . وحينَئذ تَنُوح جميعُ قبائل الأرض ويُبصرُون ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا على سَحاب السَّماء بقُوَّة ومَجْد كثير ... الحقّ أقولُ لكُم : لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه . (إنجيل متى – الإصحاح الرَّابع والعشرون 3 – 34) .
ففي هذه النُّصوص , يزعُم كاتب هذا الإنجيل أنَّ عيسى عليه السَّلام أخبر تلاميذه عن قُرب نهاية العالَم , وحدَّدها بأنَّها ستكُون في جيلهم : " لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه " , حتَّى أنَّه ذكَر بأنَّ بعضهم سيكون حاضرًا : " إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا في مَلَكُوته " .
ولكنَّ الواقع يشهدُ بأنَّ الجيل الأوَّل انقضَى , وانقضتْ بعده أجيال وأجيال , ومَرَّت أكثر من ألفَيْ سنة , ولم تتحقَّق هذه النُّبوءة المنسوبة كذبًا إلى عيسى عليه السَّلام !