من أسرار القرآن:
(348)- (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*)
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار
هذه الآيةالقرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة القلم وهي سورة مكية وآياتهااثنتان وخمسون(52) بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم القلم وبمايسطرون وذلك تعظيما للعلم وتكريما لأدواته.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وفي مقدمتهاالإيمان بالله ـ سبحانه وتعالي ـ ربا واحدا أحدا فردا صمدا بغير شريك ولا شبيه ولامنازع ولا صاحبة ولا ولدا والتصديق بجميع أنبيائه ورسله وعلي رأسهم خاتمهم أجمعينسيدنا محمد بن عبدالله سيد الأولين والآخرين من بني آدم, واليقين بحتميةالآخرة, ومافيها من أهوال البعث, والحشر, والعرض, والحساب والجزاء بالخلودإما في الجنة أبدا, أو في النار أبدا.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة القلموماجاء فيها من ركائز العقيدة, ونركز هنا علي وجه من أوجه الإعجاز في ذكر قصةأصحاب الجنة للاعتبار بما جاء فيها من دروس وعبر.
من أوجه الإعجاز الإنبائيوالتاريخي في ذكر أصحاب الجنة
جاءت هذه القصة في الرد علي أبي جهل( عمرو بنهشام) الذي رفض الإسلام عصبية وتكبرا وتجبرا, وانطلاقا من كونه هو زعيم بنيمخزوم من قريش وكون المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من بني عبد مناف, وذلك كماورد من قصته مع كل من الأخنس بن شريق, وأبي سفيان بن حرب, حين خرج ثلاثتهممنفردين يستمعون القرآن خفية من تلاوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي مدارثلاث ليال, وهم في كل ليلة يتواعدون علي عدم العودة خشية أن يراهم الناس فيقع فينفوسهم شيء من الميل إلي قبول الإسلام دينا.
فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهلرأيه فيما سمع من القرآن الكريم كان جوابه: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد منافالشرف: أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتي إذا تجاثيناعلي الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتيندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!.
وكان من دوافع رفض مشركيقريش دين الإسلام أن التوحيد الذي جاء به هذا الدين السماوي يهدم كل صور الشرك التيكانوا هم وأهل الأرض ـ في غالبيتهم الساحقة ـ قد وقعوا فيها إلي آذانهم حتي ضلواوأضلوا, وملأوا الأرض انحرافا وفسادا.
وكان من دوافع مقاومة كفار ومشركيقريش لدعوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عدد من الاعتبارات الاجتماعية التيكان في مقدمتها الخوف من انتزاع الزعامة من بين مشايخهم في بيئة قبلية تجعل للزعامةالاجتماعية كل الاعتبار, وذلك لأن رسول الله ـ مع علو قدره, وشرف نسبه في قريشـ من قبل أن يأتيه الوحي ـ لم تكن له زعامة اجتماعية فيهم, بينما كانت الزعاماتالاجتماعية موزعة بين مشايخ كل من مكة والطائف, وكانوا يخشون من انتزاع تلكالزعامات من أيديهم بانتشار الاسلام, ولذلك قال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عليلسانهم: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف:31) خاصة وأن القرآن كان يتنزل بالدعوة إلي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ وبتسفيه كلصور الشرك من عبادة الأصنام والأوثان والقمر والنجوم والكواكب والملائكة والجن,وبتسفيه كل الطقوس المبتدعة المرافقة لذلك, ومن هنا بدأ الكفار والمشركون فيمقاومة الدعوة الإسلامية, وفي التطاول علي شخص النبي الكريم, وفي تعريض القلةالتي آمنت معه إلي أشد ألوان التعذيب, وأغراهم بذلك كثرة أموالهم وأولادهم,ونسوا أن ذلك كله من نعم الله عليهم, وماأشنع أن تقابل نعم الله ـ تعالي ـ بالكفربه وبالتطاول علي رسوله وعلي أوليائه.
وللرد علي ذلك يضرب القرآن الكريم لهممثلا بقصة أصحاب الجنة وهي قصة تذكر بعواقب البطر بالنعمة, وبأخطار مقابلتهابالاستعلاء والكبر بدلا من الحمد والشكر, وتؤكد أن ماوهبهم الله ـ تعالي ـ منأموال وبنين هو من ضروب الابتلاء لهم,, كما ابتلي أصحاب هذه القصة التي تكشفأحداثها عما وراءها من تدبير الله وحكمته, وإحاطة علمه وطلاقة قدرته.
وتبدأالقصة بشيخ صالح كانت له جنة في الأرض, عبارة عن بستان ذي شجر يستر الأرضلكثرته, وقد تسمي الأشجار الساترة نفسها جنة أرضية وكان هذا الشيخ الصالح يخرجزكاة ثمار جنته بانتظام حتي وافاه الأجل المحتوم, وجاء أولاده من بعده فأغراهمالشيطان بالامتناع عن إخراج زكاة زروعهم, وأغواهم بذلك, وزينه في قلوبهم,فبيتوا الاستئثار بثمار تلك الحديقة عند تمام نضجها.
وعندما قرب موعد جنيالثمار اجتمعوا بليل وقرروا الخروج إلي حديقتهم في الصباح الباكر ليقطفوا ثمارهاولا يتركوا منها شيئا لمستحقي الزكاة علي عكس ماكان يفعل أبوهم من قبل وتعاهدوا عليتنفيذ ذلك وأقسموا عليه, وباتوا ليلتهم وقد عقدوا النية علي تنفيذ مخططهمالشيطاني ولكن القرار الإلهي بتدمير جميع ثمار ذلك البستان كان قد سبقهم إليه,فنزل ببستانهم بلاء محيط فأصبح كالذيقد صرمت( أي: قطعت) ثماره فلم يبق منهاشيء, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلاَيَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَوَهُمْ نَائِمُونَ*فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *) ( القلم:17 ـ20).
وفي الصباح الباكر نادي بعضهم علي بعضمن أجل الاستعداد لتنفيذ المخطط الذي أجمعوا كلمتهم عليه, ثم تحركوا في تستر وصمتكاملين حتي لا يدركهم أحد من الفقراء والمساكين فيتبعهم إلي البستان أملا في الحصولعلي شيء مما يجمعون كما كانوا ينالون ذلك علي زمان أبيهم من قبل, وفي ذلك تقولالآيات:(فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُواوَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ *) (القلم:21 ـ25).
و(الحرد) هو القصد أو التنحي, ومعني ذلك أنهم في الصباحالباكر ساروا إلي بستانهم سرا, متنحين عن قومهم, عازمين علي تنفيذ المخطط الذيرسموه, وعلي تنفيذ ماأجمعوا أمرهم عليه قاصدين ذلك ومصممين عليه, وهم واثقون منقدرتهم علي تنفيذه, وهو جمع ثمار البستان منفردين لا يراهم أحد من الناس, حتيلا يعطوا المساكين من قومهم شيئا منها ولكنهم عندما وصلوا إلي بستانهم لم يعرفوهلأنهم وجدوا ثماره قد قطعت بالكامل حتي لم يبق منها ثمرة واحدة علي فرع من فروعه أوعلي الأرض من حول أشجاره, فظنوا أنهم قد ضلوا الطريق إلي بستانهم الذي لم يعرفوهلتجريده من ثماره تجريدا كاملا, ثم بالنظر فيما حولهم من معالم أدركوا أنهبستانهم, وتنبهوا إلي أنهم قد حرموا ثماره جزاء تآمرهم الشيطاني من أجل حرمانالمساكين من حولهم من الحق الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم, فقال أرجحهمعقلا, وأعدلهم رأيا من بينهم: هلا ذكرتم الله وتبتم إليه, وتضرعتم له أن يغفرلكم خطاياكم بما بيتم من نوايا سيئة وقررتم حرمان مساكين قومكم من حقهم في ثماربستانكم الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم فنالنا من العقاب الإلهي مانالنا!وكان قد نصحهم من قبل ألا يفعلوا ذلك فعصوه فأخذ بعضهم يلوم البعض الآخر عليماكانوا قد خططوا له, وأقسموا عليه بقصد حرمان المساكين حقهم الذي فرضه الله ـتعالي ـ حتي فاقوا من غفلتهم فتابوا إلي بارئهم, واستغفروه, وأنابوا إليه,وفي ذلك تقول الآيات:( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ* كَذَلِكَ العَذَابُوَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *)
فتاب هؤلاء الأبناء أصحاب الجنة إلي الله تعالي بعد أن رأواعذاب مانع زكاة الزروع بأعينهم, وتعلق الآيات بأن العذاب الذي نزل بهم بإهلاكثمار بستانهم وهم في قمة الثقة بقدرتهم علي قطعها وجمعها, فإن إهلاك كفار ومشركيقريش ليس بالأمر المستغرب خاصة وأنهم كانوا قد فجروا في كفرهم وشركهم, وبالغوا فيمعارضة الإسلام, وفي إيذاء خاتم أنبياء الله ورسله, وفي تعذيب القلة التي آمنتبه في بدء دعوته.
وماأحوج المسلمين اليوم إلي تأمل هاتين القصتين: قصة أصحابالجنة الذين قد قرروا عدم إخراج زكاة زروعهم فعاقبهم الله ـ تعالي ـ بحرمانهم منثمارها, ثم تابوا إليه, واستغفروه, وعادوا عن غيهم, وقصة كفار ومشركي قريشوقد أغرتهم وفرة أموالهم وكثرة أولادهم عليرفض الحق الذي جاء به نبيهم الصادقالمصدوق, والأمين المؤتمن عندهم, فتهددهم ربهم بسوق قصة أصحاب الجنة اليهم,تهددهم بأن مايملكون من مال وعيال قابل للزوال في لمح البصر, أو في أقل من ذلك,وفي الوقت ذاته يطمئن المسلمين بأن كل مايرونه علي الكفار والمشركين من آثار النعمفي المال والعيال إنما هو ابتلاء من الله ـ تعالي ـ له عواقبه في الدنيا إذا لميؤدوا حقه ولم يتوبوا إلي بارئهم وينيبوا إليه ويتطهروا من دنس الكفر والشرك ولذلكيتهددهم القرآن الكريم بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ إليهم: (كَذَلِكَ العَذَابُوَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ( القلم33).
ومن الدروس المستفادة من قصة أصحاب الجنةمايلي:
1 ـ ضرورة محاربة الإنسان في ذاته لأمراض شح النفس, والبخل, لأنفي المال حق معلوم للسائل والمحروم, وأن الذي لايخرج هذا الحق الشرعي معرض للعقابالإلهي.
2 ـ إن عدم إخراج الحق الشرعي من الزكاة مثل زكاة المال والزروع هوصورة من صور غمط الحق وبطر النعمة الذي لايرتضيه الله ـ تعالي ـ من عباده, وكمايكون ذلك الانحراف عن الحق مرضا في الأفراد يكون في المجتمعات التي إن ضلت عن منهجالله ـ تعالي ـ وانحرفت عنه فإن الله ـ تعالي ـ يبتليها بالحرمان من نعمة حتي تفيقمن غيها, وتصحح من أخطائها, وتعود إلي كنف الله.
3 ـ إن من وظائفابتلاءات الناس في الدنيا هو إيقاظهم من غفلتهم واحياء ضمائرهم من أجل تصحيح مسارحياتهم.
4 ـ إن الابتلاء كما يكون بالشر يكون بالخير, فليست إفاضة المالوالجاه والسلطان هي دوما من علامات رضي الله, وليس الفقر والمرض وغيرهما منالابتلاءات هي دوما من علامات سخط الله.
5 ـ إنه علي كل إنسان أن يكتشفأخطاءه في هذه الحياة الدنيا, وأن يقوم بتصحيحها فور اكتشافها وباب التوبة مفتوحلكل تائب إلي أن يغرغر, ومن هنا كان واجب العقلاء من عباد الله أن يداوموا عليالاستغفار والتوبة والإنابة إلي الله.
6 ـ إن تكافل المجتمع الإسلامي هوفريضة من الله يجب علي كل مسلم يقوم بها وأن يساعد علي إحيائها بكل مايستطيع من جهدومال, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة.
7 ـ إن مايخفي علي العباد لا يخفي عليرب العالمين الذي يكافيء المحسن علي إحسانه, ويجازي المسيء بإساءته, وأن اللهسريع الحساب.
8 ـ إن الحرمان الحقيقي في الدنيا هو في البعد عن أوامرالله, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة, ولايمكن للزارع فيها أن يفلح بغير الهدايةالربانية.
9 ـ إن الرزق من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وكل ماهو من الله لا يمكنأن يطلب بمعصية, بل لابد أن يطلب بتقديم الطاعات له.
من هنا كان في استعراضقصة أصحاب الجنة وجه من أوجه الاعجاز التاريخي في كتاب الله لأنه لم يرد لها ذكر فيأي من كتب الأولين, ولو أنها جاءت علي عادة القرآن الكريم من أجل الاستفادة بماجاء فيها من دروس وعبر دون الدخول في تفاصيل الأسماء, والأنساب, والأماكنوالأزمنة, والله يقول الحق, وهو يهدي إلي سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد للهرب العالمين, وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداهودعا بدعوته إلي يوم الدين.