السيطرة الدماغية عند الأيسر
د. حسان المالح
استشاري الطب النفسي / جدة
يتألف الدماغ من نصفي كرتين ملتصقين من الناحية الداخلية ويكون أحدهما هو المسيطر على الآخر. وعادة ما يكون نصف الكرة المخية الأيسر هو الذي يسيطر على النصف الآخر وعلى جميع الإشارات الصادرة من الدماغ إلى الجسم وذلك في الأشخاص الذين يستعملون اليد اليمنى أكثر.
وأما الذين يستعملون اليد اليسرى فإن نصف الكرة المخية المسيطر هو أيضا الأيسر في كثير من الحالات وهؤلاء يستطيعون استعمال اليد اليمنى في بعض المهارات مثل تقشير الفواكه ورمي الكرة وأحيانا الكتابة.
بينما حوالي 30 - 40% من الذين يستعملون يدهم اليسرى يكون نصف الكرة المخية المسيطر هو الأيمن وهؤلاء هم الذين يصعب عليهم استعمال اليد اليمنى في مختلف المهارات الحركية.
وفكرة السيطرة العصبية فكرة مثيرة ومفيدة ولا يزال الغموض يكتنف الكثير من الأمور المرتبطة بها وبآليتها وتجرى الكثير من الدراسات العلمية لبحث أسرار الدماغ البشري الذي لا نزال لا نعرف عنه إلا القليل. وعلى أن الموضوع لا يرتبط فقط باستعمال اليد اليمنى أو اليسرى، بل يتبعه استعمال العين أيضا والساق. ولذا يمكننا أن نقول إن هذا الشخص الذي يكتب باليد اليسرى هو أيضا يستعمل العين اليسرى بمهارة وسهولة أكثر من الجانب الآخر. ومن الاختبارات البسيطة أن يقف الإنسان ونظره للأمام ويقف الفاحص خلفه بعد حوالي متر وفي امتداد خط وهمي إلى مركز جسم المفحوص ثم يناديه فجأة وعادة يدير الإنسان عينه ورأسه وجسمه إلى الجهة الأكثر مهارة وسهولة أي إلى اليمين أو اليسار. وهناك اختبارات معقدة لتحديد نصف الكرة المخية المسيطر ولا سيما في الحالات التي يكون من الضروري فيها تحديد السيطرة المخية مثل إجراء عملية جراحية في المخ وغير ذلك. ويلعب التدريب دورا في تحديد السيطرة حيث تتوضح السيطرة العصبية عند الأطفال أثناء نمو الدماغ والجسم بشكل عام ويستعمل الطفل كلتا يديه وخلال سنتين إلى أربع تتحدد أكثر السيطرة العصبية. وتلعب الوراثة دورا مهما في موضوع السيطرة لأحد نصفي الكرة المخية. كما تلعب إصابات الدماغ في المراحل الجنينية أو الطفولة الأولى دورا في ذلك.
في الصحة والمرض :
قد يكون لاستعمال اليد اليسرى في بعض المهارات إضافة إلى استعمال اليد اليمنى فوائد إضافية ويدل على مهارات حركية خاصة ولا سيما في ميدان الرياضة. وقد يكون بعض الأذكياء من الذين يستعملون اليد اليسرى وقد يعود السبب إلى عوامل نفسية وردود فعل تعويضية أو عوامل أخرى لا تزال مجهولة. وقد يكون منهم المتخلفون عقليا ولا سيما في حال الإصابات الشديدة للدماغ. والحقيقة أن دراسة موضوع السيطرة العصبية في الدماغ قد فتحت آفاقا واسعة وشائقة لفهم وتطوير النظريات حول عديد من الظواهر العصبية النفسية في الحالات الطبيعية والمرضية. ويعتقد بعض العلماء على سبيل المثال أن مرض الفصام يمكن تفسير أسبابه وتفسير أعراضه من خلال اضطراب السيطرة العصبية في الدماغ وعدم التوازن بين نصفي الكرة المخية. كما يعتقد البعض الآخر أن التأثير الإيحائي في الأشخاص الآخرين في مختلف المجالات التربوية والاقتصادية التجارية والعلاجية يرتبط بتوجيه الإثارة أساسا إلى نصف الكرة المخية غير المسيطر والذي يتميز بالانفعالية والحدس والتصورات العامة غير التفصيلية، وبالتالي فهو يتأثر بالعبارات الرنانة والاستعارات والمبالغات. ومن الملاحظ أن جميع المجتمعات تعتمد في بعض تقاليدها على تنظيم الحياة اليومية وفقا لفكرة الأيمن والأيسر، مثل اتجاه فتحة الأبواب في المنازل والأدوات المتنوعة كالأدوات الكهربائية، وأيضا صعود السلالم المتحركة وغير ذلك. والمجتمع البريطاني يعتمد في نظام المرور وقيادة السيارات على الجانب الأيمن وفقا لفكرة أن السيطرة على مقود السيارة باليد اليمنى هي أفضل. وطبعا فإن التجارب العلمية أثبتت أن ذلك غير صحيح ولكن العادة لا تزال قائمة مخالفة ما يتبع في معظم الدول الأخرى.
وقد يكون تنظيم الحياة اليومية وفقا للأيمن والأيسر مجردا عن الفوائد العملية المباشرة في بعض الأحيان ويعكس الرغبة في التنظيم والترتيب المجرد.
ثقافات ومجتمعات :
وفي ثقافتنا الإسلامية نجد تأكيدا واضحا على استعمال اليد اليمنى في الأمور الحسنة وفي عدد من النشاطات الأخرى. ولابد من التأكيد هنا على أن الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى هم أقلية في كل المجتمعات وبالتالي فهم ليسوا القاعدة العامة التي يبنى عليها تنظيم المجتمع. ولكن لا يعني ذلك مطالبتهم وقسرهم على القيام بأمور لا يمكنهم القيام بها بحكم تكوينهم العضوي وقدراتهم. يقول الله تعالىلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وقد يؤدي القسر والتوبيخ إلى بعض العقد النفسية والشعور بالذنب والاغتراب وغير ذلك من الاضطرابات. والتربية الناجحة تقوم على فهم القدرات الكامنة وتطويرها وتوجيهها وتنميتها عند الأطفال والمراهقين إضافة إلى تقبل ما لا يمكن تغييره. ونجد أن بعض الأشخاص يستطيع الكتابة بكلتا يديه أو أنه قد طور قدرته على استعمال اليد الأخرى بشكل جيد مما يعطيه براعة أكثر ومهارات إضافية مفيدة. كما أن الأشخاص الذين فقدوا إحدى يديهم يمكن لهم أن يكتسبوا قدرات جديدة تعينهم في أمورهم من خلال التدريب والمثابرة. وفي المجال الطبي فإن معظم الأدوات والأجهزة تصنع عادة للذين يستعملون يدهم اليمنى.. ولكن أيضا تمت صناعة أدوات خاصة بالأطباء الذين يستعملون يدهم اليسرى كي لا يعوقهم هذا السبب عن أداء العمليات الجراحية الدقيقة. وفي المجال الاجتماعي يطالب هؤلاء الأقلية في بعض البلدان بمزيد من الحقوق والاعتبار نظرا لاختلافهم عن معظم الناس. كما توقف إجبار الأطفال وقسرهم على استعمال اليد اليمنى في البلدان الأوربية وغيرها حيث كان ذلك شائعا في معظم المجتمعات. ويبقى الدماغ الإنساني سرا كبيرا لا يكتشف محتواه بيسر وسهولة وهو يرتبط بمختلف مجالات الحياة الإنسانية ومشكلاتها المتعددة. ولهذا فإن الجهود العلمية تستمر بشكل حثيث في مجال الطب النفسي والعصبي لتقديم ما ينفع الناس وييسر لهم أحوالهم في الصحة والمرض.
" مأخوذ من كتاب الطب النفسي والحياة الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1995 ، للمؤلف "