المكتبات الورقية وأهميتها الحضارية والتربوية
في استطلاعات للرأي بين الكتاب والأدباء والعلميين تبين أهمية مكتبة الأسرة وألفة الكتب ورؤية الوالدين يقرآن أثر في حب الأبناء للكتب والقراءة والعلم والعلماء.
وقد نمت عندي دافعية عالية لاقتناء الكتب والبحث فيها حتى زحفت إلى المطبخ وزينت جدر البيت، ولما جاء أصدقاء ابني إلى البيت عندما أرسلناه للدراسة في القاهرة وقال له أصدقاؤه: إن أباك مصاب بعقدة اقتناء الكتب وتجميعها .
فقال لهم: والدي يقتني الكتب، ويقرأ ويبحث فيها ويؤلف منها والكتب عندنا جزء من حياتنا مهم، وبعد ترددهم على ابني وتصفح الكتب فوجئ الأصدقاء بأن كل كتاب في البيت مقروء ومستعمل وبه علامات واضحة دالة على ذلك، فقد تعودت أن أصنع لكل كتاب فهرسا خاصا بهوبه بطاقة "كارت" بما أريده منه، والعجيب أن الكتب كانت في البيت ولم يعبث أي ابن لي بها، لأنني كنت أحضر لهم كتبا خاصة بهم للعب بها، وقراءتها، والاحتفاظ بها فشبواعلى احترام كتبي خاصة أنهم كانوا يرونني أتعامل معها بحب عجيب واهتمام بالغ.
وعندما ذهبت ابنتي للدراسة في الجامعة قالت أود تفريغ المكان من الكتب ونقلها إلى شقتنا المجاورة، وبعد حوار مع والدتها ومعي قررت الإبقاء على الكتب، لأن بيتنا زينته وحليته تلك الكتب، وعندما جاءتها زميلة لها لزيارتها هالها المنظرالجميل للكتب وتنوعها وتنظيمها .
فقالت لابنتي: كتب من هذه؟
قالت: كتب أبي والعائلة .
فقالت زميلتها الثرية: هذه الكتب أغلى من كل مقتنيات بيتنا الفخم، أنتم أسرة عظيمة ووالدك رجل عظيم، وعندما أعطتها ابنتي بعض مؤلفاتي قالت هذه نواة المكتبة في بيتنا الجديدة بإذن الله.
الكتب الورقية في المكتبة تتزين لك وتغازلك وتقول لك امدد يدك خذني اقرأني، فأنا خير جليس لك، لا أكلفك شيئاً خلاف ثمن طباعتي لا أستهلك كهرباء ولا أحتاج إلى صيانة دائمة، ولا افسد سريعاً وأحمل بين طياتي ذكرياتك، أما تلك الأقراص المرنة والمدمجة فهي لا تناديك ولا تتزين لك ولا ترى شيئا منها إلا بعد إدخالها في الجهاز ويستوي مظهر المفيد وغير المفيد منها وهي عرضة للتغيير والتبديل والفساد سريعا بالمؤثرات الفيزيائية والكيميائية، وتحميلها على الجهاز عرضة للتلف معتلف برمجة الجهاز، وكم من وثائق الكترونية فسدت وأنقذتها تلك النسخ الورقية!
هذه ليست دعوة إلى التخلف أو إهمال التوثيق الالكتروني ولكنها دعوة إلى الحفاظ على مكتباتنا الورقية، ووثائقنا التاريخية والعلمية فالكلمة المكتوبة على الورق أثبت وأعظم تأثيرا في الأجيال والنفوس.
الكتب الالكترونية تصلح للبحث والدراسة، أما الكتب الورقية فهي للقراءة الصحية الآمنة ولترويض النفس على القراءة المتأنية والتعليق على الصفحات والتربية للأبناء والحفر على سبورة الحياة والتاريخ.
إذا فقدنا تراثنا المطبوع فسوف نفقد ميزة كبرى، نعم نستطيع نقل هذا التراث الكتروني اليسهل حمله وتداوله والاستفادة منه ولكنه لا يربي أبناءنا على القراءة المتأنية والبحث المتأني وحب العلم والعلماء والارتباط بهم.
لقد أدت القراءة الالكترونية إلى نشر المعلومات ولكنها قضت على مهارات الكتابة اليدوية والتقليب والتمحيص وقللت من المتميزين والعلماء , وفي أحايين كثيرة تنشر الجهل والأخطاء العلمية بين القراء فكلمن يقرأ معلومة وتعجبه يسارع إلى نقلها من دون علم ودراية , وكم من أخطاء علمية سرتبين الناس سريان النار في الكحول والبنزين وأسرع من سريانها في الهشيم! والطامة الكبرى أن غير المختصين ينقلون المعلومات كحاطب ليل وينشرونها من دون علم ودراية.
المعلومات متوافرة والعلماء والعالمون قليل وقد شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحالة في الحديث الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" رواه البخاري ومسلم.
العلم منتشر ولكن أين العلماء؟
الكل يدعي العلم ولكن أين العلميون الحقيقيون؟
لو كان الأمر بيدي لجعلت هناك حصصا إلزامية للقراءة في المكتبات الورقية والبحث فيها لأن المجهود في البحث عن المعلومة يجعلها عزيزة وتميز العالم من مدعي العلم ويرتبط الباحث بها ارتباطا نفسيا عجيبا.
عندما يكلف المعلم الطلاب بالبحث في موضوع يذهب الطالب إلى الانترنت ويكتب المطلوب ويأتيه سيل المعلومات التي لا يقرؤها ولا يمحصها ويصنع لها غلافا جميلا، ويكتب عليها اسمه واسم معلمه في دقائق وفي أحايين كثيرة تكون المعلومات نفسها ومن المصدر عينه في جميع أنشطة الطلاب والمعلم لا يقرأ لكثرة مشاغله وأعبائه المدرسية، وبذلك قتل التمايز، وخفتت القدرات، وضاع المتميزون في هذا الركام الإلكتروني المخيف وسيل المنقولات من الإنترنت.
ربوا أبناءكم على اقتناء الكتاب يشبوا على حب القراءة والله تعالى قال "اقرأ". القراءة في الكتاب اقلضررا على العين والصحة والبيئة والاقتصاد، والكتاب يتزين للقارئ وهو كالصناعةاليدوية الفريدة في سوق الكتابة الالكترونية الصناعية الرخيصة.
للكتب رائحة مازلت أشمها، وأتذكر الكتب في بداية العام الدراسي ونحن نحملها بحب عجيب ونجلدها ونزينها ونرتبها ونقرأ فيها في الحقول والقطارات وفي الطريق الزراعي ونحن ذاهبون إلى المدرسة وآيبون منها.
أنا أذهب إلى المطابع لأشم رائحة الورق ورائحة الأحبار وصوت المطابع والعمال يتشوقون لكل ورقة جديدة كأنها مولود جديد.
اهتموا بالتوثيق الالكتروني ولكن من الخطأ الفادح أن نهمل الكتاب الورقي وفعله العجيب في تربية الأجيال على التمايز والتميز وحب القراءة والبحث المميز والفرح بالحصول على المعلومة وكما قال الشاعر:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
علموا أبناءكم الغوص في بحر الكتب والتنقيب عن الدرر المكنونة فيها تحافظوا على تميزهم وتعلموهم الصبر والمثابرة وتجعلوا منهم نواة علماء المستقبل العربي وباحثيه المتميزين والمميزين.
ــــــــــــــــــــــ
أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى
أخبار الخليج- الملحق الإسلامي - العدد 11970 - الجمعة 31 ديسمبر 2010