يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ
زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون (98) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول التي أوردت السورة الكريمة معجزة حملها بابنها عيسي دون أن يمسها بشر( من أم بلا أب) ووضعها إياه طفلا يتكلم وهو في المهد.
ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة مريم وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات العلمية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وفي غيرها من الآيات القرآنية الكريمة التي أشارت إلي نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, وقد عاشا قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة.
من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في ذكر القرآن الكريم لنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام:
جاء ذكر نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام في خمس من آيات القرآن الكريم يمكن تصنيفها على النحو التالي:
1 ـ منها ما جاء يبشر بميلاده, وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُوَهُوَ قَائِمٌ يُصلى فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِوَسَيِّداًوَحَصُوراًوَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ( آل عمران:38 ـ39).
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ ﴾ ( مريم:7).
﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداًوَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُوَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىوَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِوَيَدْعُونَنَا رَغَباًوَرَهَباًوَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ ( الأنبياء:89 ـ90).
2 ـ ومنها ما وضعه ضمن كوكبة الأنبياء المعروفين لنا, وفي ذلك يقول رب العالمين: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَوَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَاوَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُوَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَوَسُلَيْمَانَوَأَيُّوبَوَيُوسُفَوَمُوسَىوَهَارُونَوَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّاوَيَحْيَىوَعِيسَىوَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَوَالْيَسَعَوَيُونُسَوَلُوطاًوَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْوَذُرِّيَّاتِهِمْوَإِخْوَانِهِمْوَاجْتَبَيْنَاهُمْوَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (الأنعام:83 ـ87).
3 ـ ومنها ما يؤكد منزلة نبي الله يحيى الذي فقهه الله في الدين, وعلمه التأويل, وفهمه أحكام رب العالمين, وهو لا يزال في طور الصبا, وأمره بأن يعمل بما جاء في التوراة بجد وعزم, وطبعه على التواضع والزهد وسمو النفس, وعلى تقوي الله تعالى في السر والعلن, وعلى الاجتهاد في العبادة من أجل تزكية النفس, وعلى الرفق بالمخلوقين والعطف عليهم, والحنان لهم, كما جعله الله تعالى كثير البر بوالديه, وكثير الإحسان إليهما, ولم يجعله متجبرا على الخلق, ولا عاصيا للخالق في شيء, لذلك جعل الله تعالى له سلاما وأمنا وحفظا من الأذى لحظة ولادته, ويوم وفاته, ويوم بعثه حيا, وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّاوَزَكَاةًوَكَانَ تَقِياًّ * وَبَراًّ بِوَالِدَيْهِوَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياًّ * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَوَلِدَوَيَوْمَ يَمُوتُوَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياًّ ﴾ ( مريم:13 ـ15).
ويقول المصطفي صلى الله عليه وسلم عن العبد الصالح,والفتي العابد يحيى بن زكريا عليهما السلام ما يرويه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بالنص التالي: ما من أحد يلقي الله عز وجل إلا وقد هم بخطيئة أو عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعمل.
وقال صلى الله عليه وسلم: من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ابن آدم يلقي الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه, إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين, ثم أومأ النبي إلي قذاة من الأرض فأخذها وقال: وكان ذكره مثل هذه القذاة.
وتعددت الروايات عن استشهاد يحيى بن زكريا, لكن الثابت أنه قتل دفاعا عن دين الله الحق, وما يدعو إليه من التزام بمكارم الأخلاق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل الأنبياء, قال قائل: موسي كليم الله, وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته, وقال قائل: إبراهيم خليل الله, ومضيى الصحابة يتحدثون عن الأنبياء, فتدخل الرسول عليه الصلاة والسلام حين رآهم لا يذكرون يحيى قائلا: أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر, ويأكل الشجر مخافة الذنب, أين يحيى بن زكريا؟.
الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله يحيى بن زكريا.
من الدروس المستفادة من الإشارات القرآنية الكريمة إلي بعض الأحداث في سيرة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام ما يلي:
1 ـ إن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, ومن هنا كان التقرب إلي الله بالدعاء هو مفتاح كل خير.
2 ـ إن الاستقامة على أوامر الله هي طوق النجاة للعبد في الدنيا والآخرة.
3 ـ إن الهدف من عبادة الله سبحانه وتعالى هو تربية النفس الإنسانية وإشعارها بمراقبة الله, وتأكيد حقيقة عبودية العبد لله الخالق البارئ المصور, وحقيقة ألوهية الله وربوبيته ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه في قلب وعقل الإنسان العابد, وهذا من أعظم وسائل التربية للإنسان, ومن أيسر العوامل الفاعلة في ضبط سلوكه وسط معركة صراعه مع الشيطان, والتضارب بين أهل الحق وأهل الباطل على طول الزمان.
4 ـ إن تقوي الله وحسن الخلق والعمل الدءوب على تزكية النفس, وحب الخلق, والحنان لهم, والعطف عليهم هي من أعظم القربات إلي الله, ومن مفاتيح القلوب عند المخلوقين.
5 ـ إن الثبات على الحق والتمسك به والاستعداد للتضحية من أجله هو من منازل الشهادة في سبيل الله, فقد أهدر دم نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام بسبب كلمة حق قالها في بلاط ملك فاجر, فاسق, ظالم يقال إن اسمه هيرود, وبقي ذلك الموقف النبيل من نبي الله يحيى بن زكريا مثلا يحتذي لأهل العلم والدين والالتزام إلي آخر الزمان.
وهذه الإشارات القرآنية الكونية إلي نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, والدروس المستفادة منها, تمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في كتاب الله.
ووجه الإعجاز التاريخي يتجسد في صدق الإشارات القرآنية والنبوية عن هذا النبي الصالح, فعلى الرغم من التشابه بين ما جاء في القرآن الكريم وما أوردته بعض كتب الأولين عن نبي الله يحيى بن زكريا أو يوحنا المعمدان, فإن الفرق بين كلام الله وروايات البشر هو أوضح من الشمس في رابعة النهار.
وأما الإعجاز التربوي فيتمثل في النقاط الخمس التي أوجزتها آنفا تحت عنوان الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, وأما الإعجاز العلمي فيتجسد في إنجاب طفل من أبوين طاعنين في السن مصابين بالعقم, يائسين من إمكان النسل مما فتح الباب أمام الأطباء بإمكان علاج تلك الحالات, وإن كانت المعجزات خوارق للسنن لا يقوي عليها إلا رب العالمين.
وواضح الأمر أن ذكر القرآن الكريم لنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام يشهد بأن هذا الكتاب العزيز لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو بيان الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية, في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) وحفظه على مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله عليه وسلم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.