بداية القصة مع الصور الجوية
:. كنت وما زلت شغوفاً في تصفح وتأمل الصور الجوية والفضائية، فهي زاد (كامل الدسم) ونصوص عالية السند وقوة في المتن، يتغذى منها الجغرافي على وجه الخصوص .. ففي عام 1416هـ كنت أتصفح أطلس المياه من إصدارات وزارة الزراعة والمياه (سابقاً) .. وكان بحق إصداراً رائعاً متقناً مفعماً بالصور الجوية والفضائية والخرائط والأشكال العلمية الرصينة والمفيدة .. وكنت لا أفوت صورة فضائية إلا وأتفحصها عن كثب .. فعندي نهم وشغف لمعرفة الظواهر الجغرافية والطبوغرافية في بلادي أعزها الباري .. وبينما أنا كذلك وقعت عيني على شكل طبوغرافي ذي شكل هندسي غريب! وملفت للانتباه، وذلك فوق سفوح جبال طويق الجنوبية وبالتحديد إلى الجنوب الغربي من الأفلاج .. هذا الشكل الهندسي أخذ صورة دائرية تماماً ولها حواف ظاهرة وفي وسطها سواد كأنه تل صغير .. وبادي ذي بدء انتابني شعور بأن الشكل عبارة عن مضرب نيزك Meteor Impact وكبير جداً على الطبيعة .. لدرجة أنه ظهر في صورة فضائية صغيرة .. وتفحصت الصورة تكراراً ومراراً فلم أر إلا آثار مضرب نيزك قديم .. ولكن وفي الوقت نفسه لم أسمع أو أقرأ عن مضرب نيزك بهذا الحجم في تلك المنطقة من قبل!.
*****
مراجعة معهد بحوث الفضاء
:. وبعد مضي فترة من الوقت وفي العام نفسه قمت بزيارة لمعهد بحوث الفضاء بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالرياض، من أجل الإطلاع على صورة فضائية للمنطقة المستهدفة بشكل أقرب وأوضح وأدق .. وهكذا فعلت والأمل يحدوني للكشف عن حقيقة الشكل الدائري المميز! هل هو مضرب نيزك قديم جداً؟ أم مظهر جيومورفولوجي عادي فحسب؟ .. وتم إطلاعي من قبل المركز على صور للموقع بشكل مفصل آنذاك (وبدقة قريبة من صور "قوقل إيرث" حالياً، إذ لم يكن قد ظهر للوجود آنذاك) .. وحقيقة الصور الفضائية التي شاهدتها في المركز لم تقدم لي إلا مزيداً من الاستفسارات والحيرة من هذا الشكل الهندسي الغريب .. وبالنهاية لم تقدم لي أي إجابة! .. لذا اتضح لي ضرورة القيام بزيارة ميدانية للوقوف على الظاهرة بنفسي وكشف لغز الدائرة الهندسية العظيمة والتي يبلغ قطرها حوالي 2 كم!.
*****
مراجعة Google Earth
:. واستمر منظر الشكل في ذهني وفكرة الزيارة تراودني، ولكن الأشغال تترى وتتعاقب ولا تنتهي .. والمكان بعيد نسبياً .. ودراسة الماجستير آنذاك أشغلتني .. تلاها الابتعاث إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه حيث دفعني هذا إلى مزيد من التأجيل لموضوع الزيارة الميدانية الاستكشافية .. وبعد حين وعندما ظهر برنامج "قوقل إيرث" على صعيد الانترنت (وهو من وجهة نظري أفضل برنامج جغرافي تعليمي ظهر على الإطلاق) قمت مباشرة بالبحث عن الشكل الدائري المميز فوجدته وفحصته من جميع الاتجاهات وببعدين وثلاثة أيضاً .. فلم تزدني الصور إلا مزيداً من الحيرة فلم ترو لي غليلاً ولم تشف لي عليلاً كما يقولون.
*****
مراسلة جهات مختصة :
. وفي مرحلة جديدة ومتأخرة (1428هـ) في هذا الشأن عزمت على مكاتبة جهات علمية غربية متخصصة في شأن ضربات النيازك ومنها على سبيل المثال Planetary and Space Science Centre.. وجاءتني الردود من أكثر من جهة علمية أجمعت كلها على أن الشكل الدائري قد يكون من أثر سقوط نيزك فضائي أو عامل أرضي جيولوجي أو جيومورفولوجي (تضاريسي) .. والكشف عن الحقيقة النهائية قد تحتاج إلى زيارة علمية ميدانية للموقع والوقوف على الظاهرة وتحليلها.
*****
مخاطبة الجامعة:
. وبعد دراسة النتائج الواردة من الجهات المختصة في أوروبا وأمريكا خاطبت جامعة القصيم ـ حيث أعمل ـ لكي تدعم رحلة الاستكشاف المقترحة منذ زمن .. فكان عميد البحث العلمي سعادة الدكتور يوسف السّلِيم عوناً لي بسرعة الموافقة والدعم للفكرة والبحث الحقلي .. بعدها قمت بتشكيل فريق علمي ليرافقني في الرحلة
*****
:. وقبل الرحلة بوقت كنت قد ناقشت الأمر مع خبراء الجيولوجيا الدكتور عبدالرؤف والأستاذ محمد الثقفي بشأن الموقع والصور والخرائط وذلك عبر البريد الإلكتروني للترتيب للرحلة .. وعندما أطلع الأخوان على صور للموقع كان لهما وجهة نظر أخرى .. وهي أن الشكل الهندسي الدائري بادي ذي بدء قد يكون عبارة عن انهيار وانزلاق كتل صخرية جيرية .. ولكنهم مع ذلك رأوا أن الشكل محير فعلاً ويحتاج إلى زيارة ومناورة فكانت الرحلة.
*****
بداية الرحلة ووصفها:
. انطلقت الرحلة يوم (5/5/1430هـ) ضحى خميس جميل في صفاء جوه، وذلك بثلاث سيارات الأولى من القصيم أنا وبصحبتي الزميل عبدالكريم اليوسف .. والثانية من الشرقية يقودها الزميل الأستاذ محمد الثقفي حيث التقينا بالرياض ظهراً وكان بالانتظار هناك الدكتور عبدالرؤف جادو فكانت مدينة الرياض محطتنا الأولى للاستراحة وتناول وجبة الغداء .. وفيه تناقش الفريق حول تفاصيل الرحلة.
*****
:.وبعد أن اطمأن الفريق على الترتيبات المعدة تحرك ظهر الخميس من الرياض باتجاه الخرج ومنه اتجهنا ناحية الجنوب حيث محافظة حوطة بني تميم، ثم محافظة ليلى .. وعند غروب الشمس وصلنا البديع ومنه انعطفنا غرباً صوب قرية الهدار حيث توقفنا قبلها بحوالي 70كم .. فأقمنا ليلتنا هناك وبتنا ليلة جميلة بهدوئها وصفاء أجوائها، فهي حقيقة ليلة نجدية لا تنسى مع صحبة خيرة متعاونة ومتطلعة للمغامرة.
*****
يوم الجمعة
:. وبعد أن أدينا صلاة الفجر وتناولنا الإفطار .. ومع بزوغ نهار يوم الجمعة تحركنا متوكلين على الله صوب قرية الهدار المميزة بموقعها الجغرافي على أعتاب جبال طويق العظيمة .. حيث قطعنا حوالي 70كم ومناظر جبال طويق الشامخة تكاد تأسرنا بجمالها وعظمتها .. فالأودية التي قطعتها رسمت لوحات جغرافية جيولوجية طبيعية ناطقة بأن الله أكبر وأعظم وأجل سبحانه جل جلاله .. أودية رصعتها أشجار الطلح والسمر .. وزينتها حافات (كويستا) صخرية شاهقة ومائلة تكشف عن أحقاب ماضية وأزمان فانية .. وترى فيها ـ أحياناً ـ الكهوف هنا وهناك في مشهد طبيعي أسر الجميع بجلاله وجماله .. وكنا أثناء الرحلة نتصل بالزميل الدكتور الطيار عبدالله الطريقي والذي تحرك لوحده من الرياض فجر يوم الجمعة فكان يسابق الريح لبلوغنا قبل اختفائنا في معمعة أودية طويق الجنوبي ومجاهيله.
*****
:. وصلنا قرية الهدار الوديعة والواقعة في أحضان طويق فلفت انتباهنا جمالاها وتنسيقها ونظافتها .. ومنها تزودنا بالوقود والماء .. ومن ثَّم راجعنا الخرائط وأجهزة الملاحة والاتصال .. وكانت الخطة تقضي بأن نصل إلى سفح طويق عبر وادي الحشرج الضيق الوعر والموحش لننفذ من خلاله وعبر حافة طويق Tuwaiq Escarpment إلى أعالي جبل طويق حيث الظاهرة المستهدفة.
*****
:. أخذنا نسير في وادي الحشرج حتى بدأ يترنح فيأخذنا تارة عن اليمن وتارة عن الشمال .. ومررنا على غدران من مطر متخلف منذ أيام واستمر الفريق في السير في هذا الوادي العجيب حتى أخذ يضيق بنا .. وتزاحمنا جوانبه وسفوحه المتصدعة الشاهقة النائفة والتي تضفي إلى المشهد رهبة ووحشة.
*****
:. والوادي بحق كتاب جيولوجي تاريخي يحكي لنا قصة دهور وعصور مفعمة بالحراك الطبيعي {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} وتوقف الفريق أكثر من مرة ليتأمل ويتدبر ويتفكر في خلق الله عز وجل في بيئة بكرية قلما تواجد بها إنس.