نداء من أجل الجنة
الجنة هي أحلى وأغلى وأقصى ما يتمنَّاه المسلم، ولها في قلبه - وهو على قيد الحياة - مَكانة أسمى ممَّا حُبِّب إلى النفوس من أموال ومناصب ومباهج، هي الفوز الأكبر في حركة السَّيْرِ إلى الله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
ويوم الحصول على تأشيرة دخولها هو يوم السعادة والبهجة والحبور؛ ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 106- 107].
وقد انتَبَه العارفون بالله - تعالى - إلى مقامها الرفيع فحجَبَهم الشوق إليها عن جميع المطالب مهما سمَتْ؛ فهذا إبراهيم - عليه السلام - يغتنم خُلَّته مع الله - عزَّ وجلَّ - ليطلبها: ﴿ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾ [الشعراء: 85]، وهذه زوج فرعون تعرف الحقيقة فلا تستَزِيد من حظوظ الدنيا وإنما ترنو إلى مستقرٍّ في الجنة: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ﴾ [التحريم: 11].
ويجد الصحابي رِيحَها وهو في ساحة الوَغَى، ويسأل الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أليس بينه وبين الجنة إلاَّ أن يُقتَل ها هنا في سبيل الله - تعالى - لينالها، فيُجِيبه: أنْ نعم، فيُلقِي التمرات التي بيده ويبدو له الأمَد بعيدًا إن انتَظَر حتى يأكلها، ويدخل المعركة وهو يُرَدِّد بلسان المقال أو الحال: "هُبِّي ريح الجنة هُبِّي، فُزتُ وربِّ الكعبة".
وكان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَعرِض دعوته على الناس، فإذا سألوه المقابل إنْ هم اتّبعوه وتَمَّ له التمكين، قال: ((الجنة))، فلا يعدهم بأيِّ مَغْنَم دنيوي، وكان يمرُّ بآل ياسر والمشرِكون يفتنونهم في دِينهم في بطحاء مكَّة فيثبِّتهم بقوله: ((صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة))، ذلك أن هذا الوعد يُخَفِّف الأذى ويُثَبِّت القلوب ويجعل من المِحَن مِنَحًا، ويرفع النفوس ويباركها.
وماذا في الجنة حتى تحتلَّ في نُفُوس المؤمنين المكانَةَ الأرفع وتجعلهم يتفانون في طلبها، ويتحمَّلون أنواع المَكَارِه للفوز بها؟ إنه نعيم مادي ومعنوي لا نعرف منه إلا الاسم؛ ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطَر على قلب بشَر))؛ حديث رواه البخاري ومسلم.
قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾ [النبأ: 31- 34].
وقال: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ﴾ [الواقعة: 27- 34].
وقال: ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 21- 24].
ومثل هذا الوصف كثير جدًّا في كتاب الله - تعالى.
أمَّا النعيم المعنوي، فإن أَسْمَى صُورَة له هي تجلِّي ربِّ العالمين - جلَّ جلاله - لأهل الجنة لينظروا إلى وجهه الكريم، وهذا أفضل نعيم وأعظم تكريم: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22- 23].
وعلى الراغب في دخول الجنة دفع المهر المناسب :
♦ ((ألا مشمِّر للجنّة؟))؛ حديث رواه ابن ماجه.
♦ ((مَن خاف أَدْلَج، ومَن أَدْلَج بلغ المنزِل، ألاَ إن سلعة الله
غالية، ألاَ إن سلعة الله الجنة))؛ حديث رواه الترمذي.
ومثل كل الغايات الساميَة والمطالب الرفيعة فإنَّ دُون وِراثة الجنة مَفاوِز تنقطِع فيها أعناق الإبل، تتخلَّل السَّيْرَ فيها ألوانٌ من الابتلاءات والمِحَن، تصهر المعادن وتزكِّي النفوس؛ لتؤهِّلها للفردوس والخلد والنعيم والمأوى؛ قال الله - تعالى -: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا... ﴾ [البقرة: 214].
فالطريق الطويل المتشعِّب المحفوف بالمخاطِر يحتاج إلى زادٍ من التقوى ورصيد من بَذْلِ الأموال والأوقات والجهد والأنفس؛ ﴿ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].
إنَّ الذي يرنو إلى ﴿ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 55] يستصحب العملة الصعبة الرائجة هناك، وهي الثواب والأجر، ولا يستسلم لحلو الأماني، فالفوز هو أولاً من فضل الله ورحمته ومنِّه، ثم بالعمل الصالح: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
وقال الراسخون من عُلَمائنا: إن المؤمنين يدخلون الجنة بفضل الله، وتتفاوَت منازلهم فيها بحسب أعمالهم.
أجل؛ العبرة بفضل الله - تعالى - على عباده، فهو لا تنفعه طاعاتهم ولا تضرُّه مَعاصِيهم، لكن العبرة أيضًا بامتثالهم أمره، واجتنابهم نهيه، وصبرهم على مراقي السُّؤدَد، وبذل ما يُرضِيه، وقد ورد في الإسرائيليات أن الله - تعالى - قال لموسى - عليه السلام -: "ما أقلَّ حياءَ مَن يطمع في جنَّتي بغير عمل، وكيف أَجُود برحمتي على مَن يبخل بطاعتي؟!".
وقال بعض الصالحين: "سؤال الجنة بلا عمل ذنبٌ من الذنوب".
إنَّ الجنة تستحقُّ أن نَغرِس حُبَّها في قُلُوبنا ونحبِّبها لأبنائنا ولكلِّ الناس، حين ندعوهم إلى الإسلام أو إلى الالتزام، كما تستحقُّ أن يَهُون من أجلها العطاء والبذل والتضحية، ومَن صَعُب عليه المُرتَقَى، فليتذكَّر صورة وَفْدِها والملائكة تستقبلهم وتحتَفِي بهم: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 73- 74].
فما مدى استعدادك - أخي المسلم - لدَفْعِ المهر ونيل المنزلة العالية الرفيعة، ولقاء الأحبَّة محمد وصحبه؟