ذاكرة لا تغفل
** يوسف السباعي **
وانتظرته كثيرا .. كنت الانسان
الوحيد الذى افتقده .. والذى أحس
غيبته .. والذى لم ييأس من
عودته .. ولم يغفله من ذاكرته
ابدا..
انحدرت بنا العربة من النقب رقم 13 ، ولم يكن عبور النقب بالأمر الهين ولاسيما قبل أن تمتد اليه يد الاصلاح وقبل أن ينسف المهندسون العسكريون جوانبه و يدكون أرضه .
عبرنا النقب بسلام وتحركت بنا العربة فى الطريق الضيق الذى رسمته عجلات العربات بين الاعشاب والآكام ، وقد أخذت
تعلو بنا و تهبط متأرجحة بين موجات الأرض كأنها زورق تتقاذفه الانواء
كان ذلك فى عام 1939 وقد عسكرنا على المرتفعات المشرفة على الواحات البحرية بالقرب من النقب 13 المؤدى الى الطريق الواصل الى سيوة ، وكان كل ما حولنا يبعث على الملل .. فقد سئمت نفوسنا صفرة الرمال والفراغ والوحدة .. ولم يكن هناك ما يهيىء لنا بعض التسلية الا تلك الزيارات التى كنا نقوم بها من آن لاخر لرجال الحدود والمأمور فى استراحتهم فى بلدة الباو يطى و الزبو و منديشا فنبتاع منها بعض البرتقال والبلح .
ولم يكن هبوطنا من معسكرنا الى منخفض الواحات فى ذلك اليوم بقصد زيارة استراحة الجنود أو التجول فى إحدى القرى .. وهما المتعتان الوحيدتان اللتان كان يمكن أن نباشرهما فى ذلك الوقت .. بل كان لأمر جديد لا أكتمكم القول أنه بعث فى نفوسنا غبطة وحبورا .
كنا فى طريقنا الى مسز أندروز .. ولست أشك أن كلمة – مسز – فى ذلك الوقت وفى ذلك المكان كانت من خير الكلمات
التى تقع فى النفس موقعا حسنا وترن فى الاذن رنينا موسيقيا .
كان وجود " مسز اندروز " فى الواحات البحرية أمرا عجيبا ، ولا سيما اذا ما علمنا أنها قذ استوطنت وزوجها الواحات منذ مدة ليست بالقصيرة وأنهما يقطنان فى دار قد شيدت فوق الجبال المسماة جبال مندشيا .
ومع ذلك فلست أظن وجود الزوجين فى مثل هذا المكان هو الحدث الأول من نوعه .. فقد سمعت من قبل عن غيرهما من المستشرقين الذين يقطنون الصحارى المصرية .. ويستوطنون فيها ويجعلون منها مأواهم حتى آخر العمر .. بل انى قد زرت من قبل رجلا يدعى " براملى " يقطن هو وزوجته وابنته فى بيت فى جوف الصحراء على مقربة من برج العرب ووجدت الدار من الداخل والخارج ، آية فى الفخامة والجمال .
وقد وقع بصرى على " مسز اندروز " أول مرة عندما صعدنا لمشاهدة جبل منديشا وتسلقنا الصخور المؤدية الى المواقع التى كان يحتلها السنوسيون عندما استولو ا على الواحات فى الحرب العالمية الأولى سنة 1917 .
وشاهدنا دار " أندروز " المبنية من الصخور السوداء المقطوعة من الجبل نفسه وأخذنا نطوف حولها ، وكانت الدار فى الواقع على شىء من الروعة .. زاد من تأثيرها الجو المحيط بها والموقع المشيدة عليه .
لست أدرى اذا كانت السيدة ربة البيت أحست بوقع أقدامنا فهبطت الينا لتتبين من نكون ، ام أن خروجها من الدار كان محض صدفة .
على أية حال لقد وجدنا باب البيت يفتح ولمحنا السيدة تواجهنا وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة وأشارت لنا برأسها محيية ، فأجبنا التحية ، وتقدمنا اليها مصافحين .
كانت السيدة فى العقد الرابع من عمرها لم تحاول أن تستر بالأصباغ ذلك الشيب الذى وخط رأسها ، وحسنا فعلت فلقد منحها الشيب وقارا جميلا .. أو جمالا وقورا ، اذ لم يكن جمالها من نوع سريع الأفول .. بل كان جمالا يتعذر على السنين أن تنال منه ، وحتى لو استطاعت أن تنال منه .. فإن اثاره وبقاياه كانت كافية لأن تعلن لك : أن المرأة كانت ساحرة فاتنة ، وكان جسدها على شىء من الضآلة والنحول ، الذى يبديه قويا متماسكا بلا استرخاء ولا ترهل .
ولا أظن هناك خير ما ألخص به وصف المرأة من أنها كانت – رغم يقين الناظر اليها ، من انها بلغت الاربعين ، أو جاوزتها ذات رقة تسبى ولطف يأسر .. وأن الانسان لا يستطيع الا أن يحس رغبة فى الجلوس اليها و الحديث معها .
أم ترانى كنت واهما ..؟ وأن طول حرماننا من رؤية نساء متمدينات متعطرات متأنقات كان هو سبب اعجابى بالمرأة .. وأنها لم تكن أكثر من كعكة فى يد اليتيم – والكعكة فى يد اليتيم عجبة - !!
قد .. وقد .. فانى لا أكتمكم القول ، أننا فى تلك الفترات التى كان يطول بنا البقاء خلالها فى الصحراء .. كان مجرد رؤيتنا لثوب ملون .. يبعث فى نفوسنا نشوة و يملؤ نا طربا .
دعتنا المرأة الى التفضل بزيارة دارها .. ولكن موعد عودتنا كان قد ازف ولم يكن لدينا من وقتنا فسحة تهيىء لنا مجالسة السيدة ومشاهدة دارها فأعتذرنا عن الدخول ، واعدين أياها أن نعود فى الغد ، لنتناول معها الشاى فى الساعة الخامسة .
لبينا الدعوة مرحبين وعدنا فى اليوم التالى .. ووقفت العربة أمام سفح الجبل وقفزنا منها انا ورفيقى .. وأخذنا نتسلق الجبل ، وبعد دقائق كنا واقفين أمام الدار نطرق بابها .
وفتح الباب خادم من أهل الواحة ، وقادنا الى حجرة الجلوس وجلست وصاحبى نقلب البصر فيما حولنا ، مأخوذين بجمال الرياش وحسن تنسيقه .. وبعد لحظات اقبلت السيدة وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث حتى احضر الخادم الشاى ، فأخذنا فى احتسائه .
وكان ذهنى يشرد من حين لآخر فى سؤال حيره : أين مستر اندروز ؟
لقد فهمت من المأمور : أن الرجل يقطن مع امراته فى الدار .. ومع ذلك فاننا لم نصادفه فى المرة السابقة .. ولم يخف لاستقبالنا مع زوجته فى هذه المرة .
وكنت اتوقع أن يحضر الينا بين آونة واخرى ، ولكن الوقت مر ، وطال بنا الحديث .. وبدأنا نتأهب للانصراف ولا اثر للرجل فى الدار .
وقبل ان ننصرف جالت السيدة بنا فى حجرات الدار .. وتملكنا العجب مما شاهدنا .. فقد كانت الدار اشبه بمتحف ، ملئت جدارنه بمختلف أنواع الحيوانات المحنطة ، واسلحة الصيد ، والصور الزيتية الرائعة ، والتماثيل الدقيقة
ووقفنا أمام دهليز طويل مظلم ، يؤدى الى باب مغلق .. وأشارت السيدة الى الباب قائلة :
- هذه حجرة مكتب زوجى .. انى شديدة الاسف لأنه لم يخرج للقائكما ، فهو منهمك هذه الايام فى كتابة مذكرات له وهو دائم الخلو بنفسه .. حتى لا يزعجه أحد ، ويقطع عليه حبل افكاره .
وتمتمنا ببضع كلمات نقبل بها اعتذار المرأة .. ولم يكن هنا أسهل من قبوله .. فما كان بنا كثير شوق الى لقاء الرجل .
وترددنا بعد ذلك على السيدة بضع مرات فى أوقات متفاوتة فقد وجدنا فيها كما وجدت فينا : كثيرا من التسلية .. والواقع أنها كانت محدثة ماهرة .. وكانت دائما تملك ناصية الحديث ، فقد كانت أقاصيصها لا تنفد .. وكانت تبدو لنا كلها واقعية ، لا اثر فيها للخيال .
وفى كل تلك المرات التى ترددنا فيها على السيدة لم يبد لنا زوجها اللهم الا ذبالة تتراقص فى حجرته من وراء النافذة فتفيض علينا جوا رهيبا موحشا وتوحى الينا بأن الحجرة مليئة بالأشباح والأرواح .. وأن الرجل المختفى بها ساحر بحرق من حوله البخور ويحضر الجان والشياطين .
وفى ذات يوم دعتنا السيدة لتناول العشاء .. وذهبنا اليها قبل الغسق وجلسنا فى شرفة الدار الرحبة .. نرقب الغروب
وتمدد ثلاثتنا على مقاعد طويلة وشغلنا عن الحديث بمراقبة القرص الاحمر ينزلق ببطء وراء الأفق مخلفا وراءه حواشى وذيولا من الشفق الاحمر .
وسحرنا المنظر المحيط بجماله .. وبدا لنا كلوحة أبدعتها ريشة فنان .. وهل هناك ابدع وأروع من فن الخالق وسحر الطبيعة ؟ ..
بدت الواحة منبسطة امامنا .. وقد قامت فى ركن منها بلدة الباويطى ، واختفت أكواخها المتواضعة ، خلف نخيلها الباسق وأشجارها الكثة الداكنة وبدا العرب عائدين بحميرهم العجفاء ، وقد وضعوا عليها زنابيل العجوة وفى الناحية الاخرى : بدت غرود الرمال الناعمة ، القائمة فى الطريق الى الربو ، وقد ظهرت عليها آثار أقدام الرجال والجمال ، واضحة جلية .. وخاصة بعد أن أنعكست عليها اشعة الشمس المنزلقة ، فتركت لها ظلالا طويلة داكنة .
وتناثرت فى الأفق المرتفعات بمختلف الاشكال والأحجام والألوان ففى اقصى اليمين بدا المرتفع المخروطى الأسود وفى الوسط قامت تلك القباب المستديرة الصفراء ، وفى اليسار بدا جبل آخر كأنه رأس أبى الهول .
وهوى القرص الأحمر وهوت من بعده ذيوله وحواشيه وأخذت الظلمة تتسرب رويدا رويدا .. كأنها اللص يسترق الخطا أو النوم يتسلل الى الجفون .. حتى أحسسنا فجأة أن الليل قد أقبل وأن النهار قد ولى .
وأخيرا تحدث صاحبى فقال للسيدة :
- لقد سلبنا الغروب متعة حديثك .. وأغرقنا فى صمت عميق .. والآن هات بعض أقاصيصك الممتعة .
وضحكت السيدة ، ومدت يدها الى صندوق سجائرها فتناولت واحدة ، وأعطت صاحبى واحدة ... وأخذت أرقب السيجارتين المشتعلتين فى الظلمة .
وبدأت السيدة حديثها قائلة :-
- لا أظن أنكما قد سمعتما عن جالن .
وصمتت برهة حتى تتلقى جوابا بالموافقة .. ولكننى لم أتكلم ، فما كنت أعرف من يكون " جالن " هذا .. وشعرت بخجل من جهلى ، وتمنيت لو أن صاحبىكان يعرفه حتى لا نظهر أمام السيدة بهذا الجهل .. ولكنه لم يتكلم هو الآخر .. وأخيرا عاودت السيدة حديثها :
- حسنا .. ان هذا سيجعل مهمتى أكثر صعوبة .. كان جالن من كبار المكتشفين الذين اكتشفوا مجاهل أفريقيا ، وكان صاحب النظرية القائلة بأن حملات الاكتشاف الصغيرة التى لا تحمل من المهمات والأمتعة ما يثقل حركتها ، أفضل كثيرا فى أعمال الكشف من تلك الحملات الضخمة التى تثقل نفسها بأثقال من المؤن والتوابع .
قام جالن بآخر رحلاته منذ بضعة أعوام فى أوائل الصيف مصطحبا معه زميلا له يدعى هيلز فى مثل شدته وحنكته . وكان فى رفقتهما اثنان من المواطنين السود .. وكان غرضه من الرحلة هو عبور بعض مناطق لم تكتشف بعد فى اتجاه الشمال الغربى من أوغنده .
وكانت المنطقة التى ينويان عبورها منطقة جرداء لا أثر بها للحياة ، أو على الأقل هكذا كانت تبدو على الخريطة ، رغم أن الأقاصيص كانت تقول أنها نقطة آهلة عامرة ، يقطنها قوم لم يستطع أن يصل اليهم مخلوق على قيد الحياة .. وكان هناك من الأدلة ما يثبت صحة هذه الأقاصيص .. فمنذ ما يقرب من عامين قبل بدء الرحلة ، التقى جالن فى احدى رحلاته التى كان يحاول فيها اختراق المنطقة بأحد المواطنين الذى أراه بضع قطع من العملة الذهبية ، وخاتما فضيا ركب فيه فص من حجر أخضر داكن لم يستطع جالن أن يميز كنهه .
وعندما سأل الرجل عن مصدر القطع الذهبية والخاتم أنبأه أنه قد عثر عليها منذ سنوات فى أحد الجبال الكائنة فى اتجاه الغرب ، ولم يرد الرجل أن يعطيه القطع الذهبية ، ولكنه تنازل له عن الخاتم فى لقاء بعض الخرز والحلى .
ومنذ ذلك اليوم والخاتم لا يفارق أصبعه ، وقد أخذت رغبته تزداد فى عبور المنطقة ، واكتشاف المدينة ، حتى كان ذلك اليوم الذى بدأ فيه رحلته فعلا .
بدأ الاربعة الرجال رحلتهم وحلكة الظلام لم تنقشع بعد ، وسار الرجلان الأبيضان يتبعهما التابعان ، وقد حملا أخف ما يمكن حمله من الزاد والمؤن والأمتعة .. وعندما قطعا من رحلتهما ستين ميلا عاد التابعان . واستمر الرجلان فى سيرهما وحيدين .
لم تكن هناك أنهار معروفة فى تلك المنطقة ، ولكن الرجلين العائدين كانا يحملان رسالة من جالن بأنه يتبع فى سيره نهرا صغيرا يجرى فى اتجاه الغرب .
مضت أيام و أسابيع وأشهر ، وما من نبأ عن الراحلين ، وأرسلت فى أثرهما قافلة للبحث عنهما ، وقادها التابعان الى النقطة التى تركا عندها الرجلين .. وقضت القافلة بضعة أسابيع فى البحث والتنقيب ، ثم عادت أدراجها دون أن تعثر لهما على أثر ، ومنذ ذاك الوقت لم تبصرهما عين ولا سمعت عنهما أذن .
ولست أشك فى أن خاتمة جالن بهذه الكيفية لا تبدو الا امرا طبيعيا فما كانت ترجى لمغامر مثله دأب على أن يلقى بنفسه الى التهلكة سوى هذه الخاتمة .. ولقد تقبل الناس نبأ اختفائه ببساطة كأنه شىء كان لابد من حدوثه .. ولا أظن أن هناك مخلوقا قد أفتقده ، أو أحس بغيابه .. اللهم الا مخلوق واحد .
كان هذا المخلوق الذى افتقد جالن هو أنا .
لا أريد أن أندفع فى تحليل مشاعر .. أو وصف أحزان وأشجان .. فتلك أشياء مضت .. سلبها الزمن جدتها ، فلم يبق منها الا ذكريات باهتة شاحبة ، كنت فى ذلك الوقت أعيش فى أوغندة حيث كان والدى يقوم بالتبشير فى مجاهل أفريقيا
والتقيت بجالن لأول مرة قبل أن يبدأ رحلته الأخيرة ببضعة أشهر .
كان مخلوقا عجيبا .. أشبه بأبطال الأساطير .. كان جميل النفس والقلب والوجه والجسد فسرعان ما احببته ولست أدرى اذا كان قد احبنى لأنى المرأة الوحيدة التى يستطيع أن يحبها وقتذاك .. ام انه قد احبنى لفضل فى وميزة بى ؟!
ولكن الذى كنت موقنة به هو أنه احبنى كما احببته .. واتفقنا على الزواج بعد أن يرجع من رحلته وانتظرته كثيرا ..كنت الانسان الوحيد الذى افتقده .. والذى أحس غيبته .. والذى لم ييأس من عودته .. ولم يغفله من ذاكرته ابدا .
وأيقن الناس أن جالن وصاحبه قد ماتا .. حتى بدأت الاشاعات تزعزع ذلك اليقين .. فلقد صادف بعض منهم بعض الرجال السود الذين أنباوهم بأنهم صادفو اخرين أنبأوهم بأنهم سمعوا أن هناك من رأى رجلين من البيض يسيران فى الادغال
لقد كانت هناك دائما اشاعات تغذى النفس الساغبة وتحيى فيها موات الامل ، كانت الاشاعات لا تكف أبدا ، هذا سمع من هذا الذى سمع من ذاك الذى صادف هولاء الذين التقوا بأولئك .. وهكذا دائما .
ومضى عام دون أن يعتبر الراحلان قد ماتا رسميا .. حتى تواترت بعض الأدلة التى استطاعت أن تثبت شيئا حقيقيا عنهما
كان أحد الرجال البيض يبحر للصيد فى أحد الأنهار فعثر على رجل من المواطنين أثبت أنه قد رأى جالن وصاحبه بعد أسبوعين من اختفائهما .
قال الرجل أنه رأى هيلز الذى وصفه بأنه الرجل الأشقر . –
كان هيلز أشقر الشعر ، وكان جالن اسوده – مصابا بعرج شديد ناتج عن تسمم جرح فى ساقه ، وأنهما سارا فى اتجاه الشمال الغربى رغم أن الطريق كان من المستحيل عبوره .
ثم قال أنه سمع من بعض رجال القبائل المجاورة بـأن هيلز قد مات بعد يومين وأن جالن قد عاود السير فى طريقه وحيدا وعندما سئل الرجل أن يصف جالن قال : انه يلبس فى احد اصابعه خاتما فضيا ذا حجر أخضر .
فلو كانت رواية الرجل صحيحة فان جالن يكون قد شوهد آخر مرة فى البقعة التى مات فيها صاحبه ، وهى تبعد حوالى مائة ميل عن أحد الأنهار وكان يقال ان القبائل التى تسكن شمال هذه المنطقة قبائل متوحشة ، ومن المستحيل أن يكون جالن نجا من براثنها اذا كان قد حاول عبور المنطقة .
ومع ذلك فقد قامت حملة للبحث عنه ، واستطاعت الوصول الى النقطة التى مات فيها هيلز وعثرت على ما أثبت وفاته ، وأكد صحة قول الرجل .
ونجحت الحملة فى التقدم بعد ذلك ما يقرب من ثلاثين أو اربعين ميلا فى طريق شديد الوعورة ، واستمرت فى تقدمها حتى تعذر عليها السير فاضطرت الى العودة دون ان تعثر على اى اثر لجالن .
ولم يكن هناك شك فى أن هذه الحملة مجهزة خيرا من جالن وأنه لا يمكن أن يكون قد أستطاع التقدم حيث تعذر عليها هى التقدم .وكانت كل الدلائل تجزم بأن الرجل يستحيل عليه أن يكون قد عبر المنطقة واستطاع الوصول الى النهر الكائن فى الشمال الغربى ، وعلى ذلك فقد اعتبروه – رسميا – ضمن الوفيات .
وهكذا انتهى جالن .. ولم يعد ثمة شك فى وفاته .. حتى الاشاعات نفسها قد كفت عن ذكره .. فما عاد أحد يقول أنه رأى من سمع أنه راى من رآه ... وتزوجت أنا فى ذلك الوقت زوجى الاول .. وهو رحال يدعى آشلى وكان صديقا لجالن .
وجلسنا ذات يوم نتحدث عن الرجل المفقود فأنبانى أنه يتمنى لو أستطاع أن يكشف سر أختفائه ، وأنه يود أن يقوم برحلة لتتبع آثاره .
وظلت الفكرة تساور نفسه بعد ذلك حتى استيقظ ذات صباح فأخبرنى أنه قد نوى أن يقوم بالرحلة .. لأن هناك فكرة جديدة طرأت على ذهنه .
قال آشلى : أن جالن ربما يكون قد أستعصى عليه السير فى اتجاه الشمال الغربى .. فأتجه الى الجنوب الغربى قاصدا احدى القرى الكائنة على مسيرة مائة وخمسين ميلا .. وأن اختفاءه لا شك كان فى هذا الطريق .
وكانت خطة أشلى هى أن يبدا السير من النقطة التى توفى هيلز عندها مخترقا الأدغال متجها الى الجنوب الغربى بقصد الوصول الى القرية .. وكان على أن أذهب الى القرية رأسا بطريق النهر ، وهو طريق سهل يقودنى من سكننا الى القرية المذكورة دون اى مشقة .. وكان على أن انتظره فى القرية حتى تاريخ معين ، فان لم يصل فى هذا التاريخ ابدا البحث عنه .
وبدأ زوجى رحلته مصطحبا اثنين من المواطنين ، وتحركت أنا الى القرية وفى رفقتى اثنان مثلهما .و وصلت الى القرية أخيرا بعد عشرة ايام قضينا معظمها متحركين فى النهر ، ووجدت القرية لا تزيد على بضعة أكواخ تحيطها الادغال الكثيفة ووجدت فى ناحية منها منشأة أقامها البيض لتعليم المواطنين .
وكانت مكونة من جناحين : جناحى به المدرسة والكنيسة وجناح به بعض حجرات أعدت للسكنى .
كان المكان يبدو رهيبا ، وقد أحاطته الأدغال من كل جانب .. وكانت المنشأة تبدو خربة موحشة بجدرانها التى كانت بيضاء فيما مضى من الزمن ، ثم حطت عليها الأتربة ، وخيمت العناكب ، ولم تكن المساكن التى تبدو بها مساكن أحياء ، بل أجداث أموات .
لقيت عمدة القرية وأنباته بما قد أتيت لأجله فرحب بى وقادنى الى احدى الحجرات فوجدتها خالية الا من عنجريب للرقاد وخزنة خشبية لوضع الامتعة .. وتملكنى رهبة وخشية وأنا أطوف ببقية الحجرات المهجورة الخالية ، حتى وقفت أمام حجرة مغلقة ، وأنبأنى الرجل أنها حجرة حارس المنشأة ..
ورويدا رويدا بدأت اتعود المكان وتبددت من نفسى الخشية وانقشعت الرهبة .. ومضى اليوم دون أن أبصر الحارس ، فقد قيل لى أنه غائب فى قضاء حاجة .
وذهبت الى الفراش وأصابنى أرق فى مبدأ الامر ، ولكن تعب الرحيل سرعان ما تغلب عليه .. ولم أستيقظ فى الصباح الا والشمس قد تسللت من النافذة الضيقة ، وغمرت أرض الحجرة .
نظرت من النافذة فكان اول ما وقع بصرى عليه هو حارس المكان .. كان كهلا أشيب الشعر اشعثه ، لايستطيع الأنسان أن يميز تقاطيع وجهه وسط ذلك الكوم – الهائش – من شعره المسترسل ولحيته المطلقة .
وكان يرتدى ثياب المواطنين وإن كنت قد استطعت الجزم أنه ليس منهم .. فقد كان جسده أسمر لوحته الشمس ، وكانت هيأته توحى أنه اوربى استوطن المكان منذ زمن طويل .
وعندما تحرك الرجل وجدت باحدى ساقيه عرجا وأحسست بدافع قوى يدفعنى إلى أن أهبط من حجرتى .. وأن أقترب للتحقق منه .
ولم تمض لحظة حتى كنت أقف امامه ، وتأملت وجهه مليا وأحسست برجفة تسرى فى بدنى ، وعلت عينى غشاوة ، ومددت يدى لتحيته ، فمد الى يدا قد وضع في احدى اصابعها الخاتم ذا الحجر الأخضر .
وهتفت فى صوت مبحوح :
- جالن ؟....
ولكن الرجل رفع حاجبيه فى دهشة وتمتم معتذرا :
- آسف يا سيدتى .. انى أدعى جيم ...
هكذا أجابنى الرجل ....ومع ذلك فانى كنت واثقة من أنه لا يمكن أن يكون سوى جالن .
لم يكن من المستحيل أن يكون جالن قد وصل الى هذا المكان ، ولم يكن أهل هذه الناحية قد سمعوا من قبل عن جالن فقد كانت الموصلات بيننا تكاد تكون معدومة .. وحاولت أن أتفاهم مع الرجل الذى انكر نفسه ، والذى بدا راغبا عن الحديث معى ، كارها للقائى ، وسرعان ما رفع يده بالتحية ثم أعطانى ظهره وانصرف .
واستمر الرجل ينأى بنفسه ، وحاولت أن استفسر عنه من بعض المواطنين ، فأجابونى بأنهم أبصروه أول مرة أتيا من ناحية الغرب ، ووصفوا لى كيف وجدوه يزحف بين الأدغال على قوائمه الأربع وقد تملكه الاعياء حتى افقده القدرة على النطق والتفكير ، وحملوه بين ايديهم كأنه خرقة بالية أو كوم من العظام .
ومرت بضعة أيام حتى بدأ الرجل يتمالك وعيه .. ويستعيد قواه ، ويصبح كائنا حيا .. ولكنه لم يكن يعرف نفسه ، أو يذكر من أين أتى والى أين يذهب .. وكان يشعر بخوف شديد من الأدغال .. ولا يجسر على الأقتراب منها .. واستمر مستوطنا فى القرية لم يفارقها حتى ذلك الوقت .
ولم أشك مما قيل لى أن الرجل هو جالن نفسه ، وأنه لم يصل الى القرية الا بعد أن أوشك على الأنتهاء .. وأن ما لاقاه من مشاق فى السير والجوع والعطش قد أفقده عقله ، وأصابه بذعر شديد من الادغال .
ولم أعدم بعد ذلك الوسائل التى استدرجت الرجل بها الى مجالستى .. وحاولت جهدى أن ازيل بعض السحب التى تخيم على ذهنه ، وأن أعيد اليه شيئا من ذاكرته الضائعة ، وحاولت أن أتحدث اليه عن جالن ، ولكنه ابدى نفورا شديدا ورفض أن يستمع إلى .
ومرت بى الأيام وأنا منهمكة فى معالجة الرجل حتى حل الموعد الذى كان على زوجى أن يصل فيه .. ولكنه لم يصل .
جهزت المؤن والأمتعة .. وأصطحبت اثنين من المواطنين ، وغادرت القرية الى الناحية التى كان يجب أن يأتى منها زوجى والتى أتى منها جالن من قبل .
كان الطريق شاقا .. والسير منهكا .. ومضت بضعة أيام قطعنا فيها بضعة عشر ميلا .. وفى اليوم السابع التقينا بأحد المواطنين الذى حذرنا من السير خشية أن نقع فى أيدى إحدى القبائل المعادية التى صادفت منذ بضعة أيام أحد الرجال البيض وذبحته .
ولم تكن قصة الرجل مقنعة تمام الاقناع ، ولكن الأمطار بدأت تهطل بغزارة وأجبرتنا على العودة .. ولم أبصر زوجى بعد ذلك ابدا.
عدت الى القرية ومكثت فيها حتى خفت الأمطار ، وحتى أضحت العودة مستطاعة ، ثم عدت الى البلدة ورحلنا بعد ذلك عائدين الى انجلترا ، ثم سافرت الى مصر ، واستقر بنا المقام هنا .
وصمتت السيدة .. ورأيتها تتناول سيجارة ، ولمحت وجهها على ضوء الثقاب الذى اشعلته ، وبه كثير من غموض وابهام
وساد الصمت برهة وقفز الى ذهنى سؤال كنت أعد الاجابة عليه أهم ما فى القصة كلها ، وسرعان ما قذفته إليها قائلا :-
- وجالن .. هل تركتيه هناك ؟!
ونفخت السيدة الدخان من شفتيها بشدة قبل أن تقول :-
- انه لم يعد جالن .. لقد فشلت فى اعادة ذاكرته اليه .. وفشلت فى اقناعه انه هو نفسه حبيب العمر ورفيق الصبا الذى فقدته فى غابر الزمن دون أن تغفل عنه الذاكرة لحظة واحدة . ولم أجد بدا فى النهاية من الموافقة على انه ليس بجالن .
وعادت السيدة مرة أخرى الى صمتها ، ثم اردفت بعد برهة بصوت خافت :-
انى أحس فى بعض الأحيان برغبة شديدة فى العودة الى هناك مرة أخرى .. انى أشعر أنه لابد لى من الحصول على دليل يثبت أن زوجى السابق قد قتل .. وأن هولاء الهمج الذى وقع فى ايديهم قد ذبحوه فعلا .. أجل .. لابد أن تكون هناك أخبار جديدة بعد مضى هذه السنين الطويلة .. انه حقيقة يعتبر بين الاموات ، وعندما أفكر فى جالن .. وكيف وجدته حيا بعد أن أيقنا من وفاته .. يعترينى دائما نوع من الشك .. وأعتقد أنه من المحتمل أن اجده هو الآخر حيا .
وكنت أجد السؤال الذى يلح على نفسى ما زال معلقا بلا أجابة .. كان مصير جالن هو أهم ما اريد ان اعرف من القصة كلها .. فقد كنت آراه على حد قولها حبيب العمر الذى لم تغفل عنه الذاكرة .. وكنت أعجب كيف تركته لمصيره فتسرب من اصابعها بعد أن أطبقت عليه يدها .. وكيف تريد العودة الى الأدغال لتتأكد من ممصير الزوج الميت بدلا من التأكد من مصير الحبيب الحى ، ولم أستطع أن أمنع أفكارى من التسرب من رأسى فى صورة سؤال أطلقته قائلا :-
- لاشك أنك تريدين ايضا معرفة ماذا تم لجالن المسكين ؟
وتصاممت عن سؤالى ولم تعبأ بالأجابة عليه ، بل قذفت بعقب سيجارتها .. ثم نهضت من مقعدها وضحكت ضحكة خفيفة وقالت :
- الى العشاء .. لقد أضعت وقتكما سدى .
وبدأنا الجلوس حول المائدة ، واقتربت السيدة من حجرة زوجها وصاحت تنادى :
- لقد أعد العشاء .. والضيوف فى الأنتظار .
وتطلعت ببصرى الى باب الحجرة ، فقد كانت بى لهفة الى رؤية الرجل .
وفتح الباب وخرج الرجل علينا لأول مرة .. فاذا به كهل أشيب مسترسل الشعر ، مطلق اللحية ، لا يستطيع الانسان
- على حد قولها – أن يميز ملامحه وسط هذا الكوم الهائش من الشعر .. وكان الخاتم ذو الحجر الأخضر واضحا فى أحد أصابعه ، وعرفتنا به السيدة قائلة :
- زوجى .. مستر جيم .. جيم أندروز .
وحاولت جهدى ان أكتم صيحة الدهشة التى أوشكت أن تنطلق من شفتى .. لقد عرفت ماذا تم لجالن .. وعرفت أيضا سبب رغبتها فى السفر للتأكد من وفاة زوجها الأول .. ووجدتنى أقول لنفسى وانا أجر المقعد الى المائدة وعيناى ترقبان المرأة وهى تجلس الرجل برفق وحنان :
- لقد استعادتة مرة أخرى .. يا للمرأة العجيبة .. ويا للذاكرة التى لم تغفل .. لقد أغفل ذاكرته .. ولكن ذاكرتها لم تغفل عنه ابدا .
تمـــــــــــــــــــــــ ــت