ذكريات أعظم حياة
هذه وثيقة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أهديها لكل مسلم في أنحاء المعمورة.
إنها ليست ترجمة له صلى الله عليه وسلم، فهو أعظم من أن يُترجِم له مثلي، وأنا أقول كما قال شوقي الشاعر المشهور لما أتى يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
أبا الزهراء قد جاوزت حدي بمدحك غير أن لي اتساء
وليس مدحاً له صلى الله عليه وسلم، فهو أرفع من المدح، فالله هو الذي مدحه، وزكّاه، وطهره، وشرفه، وأعلى قدره..وليست الوثيقة تاريخاً، وسرد لحياته صلى الله عليه وسلم كالمجلدات، والمؤلفات، والندوات، والمحاضرات؛ فهي كلها لا تفي بجزئية من حياته صلى الله عليه وسلم.
ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
ولكن هي: فيء في خاطر، وقطرة من قلم، وهمسة من فؤاد.
إنها تعبير لغربة المسلم أمام إمامه، وعظيمه، وزعيمه، وأستاذه،وشيخه، صلى الله عليه وسلم.
والله يقول له من فوق سبع سماوات:
((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))
وأريد بهذه الرسالة أن يسمع سامع، أو يعي واعٍ، أو يستفيق نائم؛ ليعلم ماذا يجب عليه نحو الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
.
يقول بعض العلماء: لما قال سبحانه وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))
ولم يقل: للناس فيخرج الحيوانات.
ولم يقل: للمؤمنين، فيخرج الكفار.
ولم يقل: رحمة للكبار، فيخرج الصغار.
ولم يقل: للصغار، فيخرج الكبار.
بل قال: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))، ليكون للجميع.
وهو صلى الله عليه وسلم معنا دائماً وأبداً في مشاعرنا، وآمالنا، وطموحاتنا.
يعيش معنا دائماً، ونحن نراه، دائماً قدوةً، وأسوةً، وإماماً، ومعلماً، وأباً، ومرشداً، وقائداً، وأستاذاً، يعيش معنا وقد أحببناه.
فعاش في ضمائرنا عظيماً، وفي قلوبنا رحيماً، وفي عيوننا آمراً وناهياً، وفي آذاننا مبشراً، ومنذراً.
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)).
إن تسل عن أعمارنا أنت عمرنا أنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر.
كلما كبرت الدعوة، وكلما انتشر الصلاح، وكلما أذن المؤذنون، وكلما أفطر الصائمون،وكلما سجد المصلون، وكلما أحرم الحجاج، والمعتمرون، ذكرنا محمداً صلى الله عليه وسلم.
كلما ارتفعت السبابة تقول: لا إله إلا الله، وكلما استغفر المستغفر، وكلما تاب التائب، وكلما عاد المنيب إلى الله، ذكرنا محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي هو رجل: يأكل ويشرب، وينام ويستيقظ، لكن لا كالرجال.
رجلُ، ولكنه يحمل هموم الرجال، وعظمة الرجال كل الرجال.
وإنسان لكن لا كالناس، إنسان يجمع مناقب الإنسانية، يتحدث عنه القرآن، فإذا هو الخلوق القريب من القلوب،
((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
من الذي زكّاه، من الذي مدحه وأعلاه، إنه الله: الذي مدحه: زين، وذمه: شين.
أتى وفد بني تميم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فطرقوا عليه الباب، فقالوا: اخرج إلينا يا محمد، فإنّ مَدْحنا زين، وذمنا شين.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك هو الله) (صحيح/أخرجه احمد)
ويذكر، سبحانه وتعالى، رحمة رسوله، وشفقة مبعوثه، وحنانه، فيقول عنه: ((بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))
وإذا هو اللين السهل الميسر: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ))، فكنت قريباً تعيش في القلوب، وتعيش في الأرواح، يحبك الناس جميعاً، أهل الجزيرة، وأهل العراق ، وأهل اليمن ، وأهل السودان ، وأهل المغرب ، والعجم يوم يسلمون، والشقر يوم يؤمنون، والحمر يوم يهتدون، كلهم يحبونك؛ لأنك إمامهم.
إنه الأمام الذي على الأمة كل الأمة، أن تذعن لإمامته، إماماً في الصلاة، وإماماً في الحياة، وإماماً في التربية، وإماماً في الأخلاق، وإماماً في الاقتصاد، وإماماً في علم النفس، وإماماً في العسكرية، وإماماً في السلم، وإماماً في الحرب.
((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً))، أما الذي لا يرجو الله، فليس إمامه محمداً صلى الله عليه وسلم.
أما الرعديد، أما الجبان، أما السكير، أما المنحرف، أما الضال، أما الغاوي، فليبحث له عن إمام غير محمد صلى الله عليه وسلم.
فهل يحق لنا شرعاً أو عقلاً أن نبحث عن غيره؟
.
لا، لن نبحث عن غيره.
هل لنا أن نبحث عن سواه؟
.
لا، لن نبحث عن سواه.
حرام أن نتجه لغيره، فنجعله إماماً.
وحرام أن نبحث عن سواه فنجعله قدوة.
يعيش صلى الله عليه وسلم لحظات الحياة، ودقائق الزمن، وثواني التاريخ، يعيش بما يجب أن تعاش. في الصلاة خاشع، قانت أوّاب، منيب.
((وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً))
يقول المفسرون: يقول الله: يا محمدّ صلّ بالقرآن في الليل، والخشع في صلاة الليل، فإن الله سوف يبعثك يوم القيامة مقاماً محموداً.
المقام المحمود، الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، حتى الملائكة.
المقام المحمود، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والجن والإنس، والكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والملوك والمملوكين، غرلاً، بهماً، جرداً، حفاةً، فينتظرون الله حتى يفصل بينهم في القضاء.
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
يأتون إلى آدم فيقولون: اشفع لنا إلى الله ليحكم بيننا في هذا اليوم يوم الفصل.
فيقول: نفسي، نفسي.
فالأمر أعظم من أن يشفع فيه.
فيأتون إبراهيم فيقول: نفسي، نفسي.
ويعتذر موسى ، عليه السلام.
ويعتذر عيسى ، عليه السلام.
فيأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتخطى الصفوف، ويتقدّم، ويقف أمام الأجيال، وينحني تحت العرش، ويقول: (أنا لها، أنا لها).
ويسجد أمام العالمين، ويثني على الله ويبكي، ويسأل، ويدعو، ويتضرع، فيقول الله: (ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفَّعْ) (أخرجه البخاري)
فيسأل الله أن يفصل بين الناس فيفصل الله بين الناس.
((وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)).
زيادة لك في أجرك، وأما ذنبك: فمغفور، وعيبك:مستور، وسعيك: مبرور، ((لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً)) نصراً سمعه التاريخ، وأذعنت له البشرية.
أتظن أنه النصر على المدينة أو مكة أو الحجاز؟
لا، بل هو نصر دخل به إلى إشبيلية ، وقرطبة ، ونهر اللوار ، وسيبيريا ، والجنج ، والهند ، والسند .
ونأتي إليه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فإذا هو الشجاع المبارز المقدام الصنديد الذي يقول له الله: ((فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ)).
فإذا خرَّ الأبطال فلا تهرب من المعركة، وإذا تأخر الشجعان فحرام عليك أن تتأخر.
يقول علي ، رضي الله عنه وأرضاه: [كنَّا إذا اشتدَّ الهول، وحمي الوطيس في المعركة، واحمرت الحدق -يعني العيون-، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أقربنا إلى القوم].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في جفن الردى أبطالها
وقف صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرين معركة بالسيف، والموت حوله، والاغتيالات تدبر له صباح مساء، فقد تعرض لأكثر من إحدى عشرة محاولة اغتيال، وكلها باءت بالفشل.
الخناجر حوله، والسيوف، والرماح، والله يقول له: ((وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)).
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
يدخل الغار والموت حول الغار، ويطوَّق بخمسين شاباً، كل شاب منهم يوازي جيشاً فتاكاً في القوة والشجاعة، فيخاف أبو بكر ، فيقول له: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا)).
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
هزم عشرة آلاف من غطفان، ووقف يبتسم، والكتائب تمر من بين يديه، وهم يلقون السيوف يبن يديه، يستسلمون، ويقيدون بالسلاسل مهزومين.
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم.
ويعيش صلى الله عليه وسلم كريماً، معطاءً، باذلاً، منفقاً، يسألونه كل شيء فلا يقول: لا.
وفي حديث سهل بن سعد أن رجلاً أتى إليه صلى الله عليه وسلم فسأله ثوبه، فأعطاه إياه، لأنه لا يعرف كلمة لا.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يقول جابر : (أتى أعرابي إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أعطني مالاً.
فقال: لا، وأستغفر الله) (حسن/أخرجه النسائي)
فإذا لم يكن عنده مال، قال: أستغفر الله من كلمة لا.
وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما، قال: [كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس -وهذا عموم لا خصوص له-. وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة].
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرّته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
ويعيش صلى الله عليه وسلم في الفقر صبوراً، متماسكاً، محتسباً، فقد عاش فترة من حياته فقيراً، لا يجد كسرة الخبز من البر.
يبحث عن التمر، فلا يجد التمر.
يأتي الملك من السماء بمفاتيح كنوز الدنيا، فيقول له: أتريد أن أحول لك بإذن الله الجبال ذهباً وفضة؟
قال: (لا، أجوع يوماً، وأشبع يوماً، حتى ألقى الله) (حسن/اخرجه الترمذي)
يعيش فقيراً، لا يجد فراشاً حتى يثنيه ثنيتين.
وينام على الحصير، فيؤثر في جنبه.
يدخل عليه عمر ، رضي الله عنه، فيجد سعف النخل قد أثَّرَ في جنب المصطفى الشريف صلى الله عليه وسلم، فيبكي عمر ، وتسيل دموع عمر ، ويهتز عمر ، فيقول صلى الله عليه وسلم: (مالك يا عمر؟
.
قال: يا رسول الله! كسرى و قيصر : ملوك فارس والروم ، وهم أعداء الله، يعيشون في الذهب، والفضة، والحرير، والديباج، وأنت حبيب الله تعيش في هذه الحالة. فقال: يا ابن الخطاب أفي شك أنت؟
أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) (أخرجه البخاري)
قال: بلى.
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة من الروح مطعهما هدي من الروح أو عذب من الكلم.
أما في الرقة والرحمة، فهو صاحب الدمعة الحانية، والشفقة البالغة.
يرى العجوز المسنة فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم.
يرى الشيخ الكبير، فيحترمه، ويوقره، ويقف معه.
يرى الطفل فيحمله، ويضمه، ويشمه، ويقبله، ويمازحه، ويقبّل رأسه، صلى الله عليه وسلم.
((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)).
توقفه امرأة عجوز في سكة من سكك المدينة ، في حرارة الشمس، فيقف معها ساعة كاملة، حتى تنتهي، وهو إمام العالمين.
وهو صلى الله عليه وسلم الإنسان، الذي أتى إلى الأمة الضعيفة، المسلوبة، المنهوبة، المظلومة، فرفع رأسها بين الرؤوس، وبنى منابرها بين المنابر، بل أعلى منارتها على كل المنارات.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأخرجنا من الجزيرة العربية حيث لا أنهار، ولا حدائق، ولا بساتين.
أخرجنا بلا إله إلا الله، لنسكن على ضفاف دجلة ، والفرات ، وفي مصر : أرض الكنانة، أرض النيل ، وفي الشام : أرض الفواكه، والخضراوات، و الغوطة ، وما أدراك ما الغوطة ؟
وفي صنعاء اليمن : أرض البن، وأرض الزهراوات وأرض الورود، وفي إشبيليا ، و قرطبة ، و الزيتونة ، و قرطاجة ، وفي السند ، و تركستان ، وفي طشقند ، وفي كل البلاد أسكننا هناك بلا إله إلا الله.
((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).
لقد كانوا في ضلال ما بعده ضلال.
أتى صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، وهي ترعى إبلها، وغنمها، وبقرها في الصحراء القاحلة، وأسمعها بلا إله إلا الله، مشارق الدنيا.
وهدمت دين الشرك يا علم الهدى ورفعت دينك فاستقام هناك
يعيش معنا صلى الله عليه وسلم بعد خمسة عشر قرناً من وفاته، فكأنه بين أظهرنا الآن.
نصلي فنتذكر قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (أخرجه البخاري)
نحج البيت العتيق فإذا هو يقول لنا: (خذوا عني مناسككم) (أخرجه مسلم)
نأكل ونشرب،ونستيقظ، وننام، وهو يقول لنا: (من رغب عن سنتي فليس مني) (أخرجه البخاري)
نبدأ الطعام فإذا هو يقول: (بسم الله) وننتهي من الطعام، فإذا هو يقول: (الحمد لله).
لباسنا على سنته، ومشينا على هديه، وجلوسنا على منهجه.
علمنا التوحيد بعد خيبة الشرك.
وعلمنا الحرية بعد ذل العبودية والتبعية لـكسرى و قيصر .
وعلمنا النبل، والشرف، والعزة بعد المذلّة.
إنه يتحدث عن دقائق حياتنا وسلوكنا فهو يتحدث إليك عن لحيتك وشاربك.
ويتحدث لك عن أظفارك، ويطالب منك أن تقلمها.
ويتحدث عن غُسلك من الجنابة، ويوجب عليك أن تغتسل بعد كل جنابة، ويسن لك أن تغتسل للجمعة.
يتحدث لك عن ثوبك، وما لونه، وما طوله.
يتحدث لك عن السواك، وعن الطيب، وعن الجلوس، وعن المشي، فإذا هو معك دائماً.
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخر
سهرنا وفكرنا وشابت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنت تحضر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
إنه صلى الله عليه وسلم يعيش أطوار الحياة، وأيام العمر، في الأعمال والمهن.
فهو قد تاجر صلى الله عليه وسلم بالمال، فباع، واشترى.
ورعى الغنم، ثم رعى الأمم.
حلب الشاة، وخصف النعل، ورقع الثوب.
اغتنى فشكر، وافتقر فصبر.
حارب، فكان الشجاع الذي يرهب الأبطال، وتنهزم أمامه الجيوش.
وسالم، فكان الوفي، الملتزم بالمعاهدات.
سافر وأقام.
مرض وصح.
سقم وشُفي.
بكى وضحك.
ليكون لك قدوة في هذه المراحل جميعاً.
كان يجلس مع الفقراء، والمساكين، ويحب الأيتام، ويزور الأرامل، ويقف مع العجائز، ويأخذ بألباب عقول الناس: ((وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
ذاك هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي ربّى الأطفال، وضاحكهم، ومازح الأهل وسامرهم.
وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ طفلة، هي: أمامة بنت ابنته زينب ، فيحملها في الصلاة، ويصلي بالناس، وهو في الفريضة، والطفلة على كتفه، فإذا سجد، وضعها، وإذا قام رفعها. (أخرجه البخاري)
لماذا؟
.
لأنه أبو الأطفال.
ويخطب صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فيأتي الحسن ، وعمره: أربع سنوات، فيتعثر في ثوبه،فيقع مرة، ويقوم مرة، فينزل صلى الله عليه وسلم، ويترك الخطبة ويحمل الحسن ، ويجلسه معه على المنبر ويضع يده الشريفة على رأس الحسن : ابن ابنته فاطمة ، ويقول: (إنّ ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) (أخرجه البخاري)
وبالفعل يصبح الحسن سيداً، ويصلح الله به بعد أربعين سنة، أو خمسين بين أهل الشام ، وأهل العراق ، في الواقعة المشهورة، فيحقن الدماء، ويضع الحرب، والحمد لله.
ويكون صلى الله عليه وسلم مكرماً للضيوف، يتحفهم، ويسامرهم، ويقطع لهم اللحم، ويبش في وجوههم، ويعانقهم.
قاد الأمة، فكانت قيادته: دستوراً للقادة، ومنهجاً للزعماء، ووثيقة للساسة.
يا زمن.
يا تاريخ.
يا أرض.
يا دهر.
إن أعظم نبأ هز العالم، هو: نبأ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فليست المعجزة في اكتشاف القنبلة الذرية، والهيدروجينية، ولا الصعود على سطح القمر، ولا حرب النجوم.
لا، إن المعجزة، هي: مبعثه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ))، ما بال العالم يتساءل؟
ما هو الحديث الذي أيقظ الدنيا؛ وأطار نومها وسلب فكرها؟
.
إنه محمد صلى الله عليه وسلم: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)).
ولم يسم الله النبأ لأنه أعظم من أن يُسمَّى.
((الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)).
اختلف العالم في مبعثه، وهذا دليل على عظمته.
يقول العقّاد : إذا اختلف الناس في رجل بين مادح وقادح فاعلم أنه عظيم.
أنام ملأ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصموا
فمحمد صلى الله عليه وسلم نام، ولكن العالم ما نام، فقد انشغل العالم يوم بعث صلى الله عليه وسلم، فالكرة الأرضية مشغولة كلها بمبعثه صلى الله عليه وسلم، وهو نائم في مكة .
ولما بعث صلى الله عليه وسلم، أرسل الله الشهب من النجوم، ترمي الشياطين: ((دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ)).
كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم يتسمعون الوحي، وكان الشيطان يصعد على رأس الشيطان، حتى يصلوا إلى السماء، فيستمعوا كلام السماء.
فلما بعث صلى الله عليه وسلم حرس الله السماء، فأصبح الاستماع محرماً عليهم.
((إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)).
أتى شيطان يستمع بعد مبعثه، فإذا النجوم تتهاوى بالقذائف عليه.
فقال وإخوانه: ((وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً)).
قال ابن عباس : [ما بقي من نجم إلا وعليه ملك يرمي شيطان].
فرجعت الشياطين تتحدث عن رسالته.
((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)).
يقول أحد المفسرين: عجباً حتى الجن يتذوقون القرآن، حتى الجن يعيشون مع القرآن، حتى الجن يعرفون بلاغة القرآن.
وأتى صلى الله عليه وسلم يتحدث للإنسانية، فإذا الجن يلحقونه من وادي إلى وادي.
((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)).
انتهى القرآن ولم ينتهوا بعد، فولُّوا منذرين قومهم.
لقد بعث صلى الله عليه وسلم للثقلين للجن والإنس، وقال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) (أخرجه مسلم)
أيتها القارات الست، اسمعي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وهو يقول:
بأنّ من لم يؤمن به لن يدخل الجنة أبداً، ولن يجد النعيم، والسعادة مهما كان تخصصه وعقله، ومهما كانت مهارته، وذكاؤه، ونبوغه، مهندساً، أو عالماً، أو طيباً، أو جيولوجياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً، أو أدبياً، أو فناناً.
قال ابن تيمية : من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدي غير هدي الله الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، وكل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة، فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يرى نور هذا الدين،فهو قلب مغضوب عليه.
وما الأصم أو الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان السمع والبصر
لما بُعث صلى الله عليه وسلم، ألغى الله بمبعثه إمبراطورية كسرى و قيصر .
ما كان عنده دبابات، ولا صواريخ، ولا جيوش، كجيوش كسرى ، وقيصر الجرارة.
أتى إلى المدينة ببردته، فنزل، وتكلم، فاهتدى الصحابة، ثم قال: (هيا على اسم الله اركبي يا خيل الله) فدخلوا على أولئك الظلمة الفجرة، فتساقطت عروشهم: ((فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ))، ((وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)).
أيها الإنسان، يا ابن آدم: إن سعادتك رهن باتباعه صلى الله عليه وسلم.
إن أبواب الجنة، بعد مبعثه، أوصدت، وغلقت، فلا تفتح إلا لأتباعه على دينه، وأنصاره في دعوته، ومحبيه في مبادئه.
يا قوم، إن محمداً صلى الله عليه وسلم سيعيش معكم بسنته، إذا أردتم أن يعيش معكم، وسوف تجدونه يتحدث إليكم في جلساتكم، متى ما أردتم أن يتحدث إليكم.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نُلام على محبتكم ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
يا مسلم، يا مؤمن، يا عبد الله، إن باستطاعتك أن تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش معك دائماً، في الطائرة، في السيارة، على ظهر السفينة، في البيت، في الحديقة، في السوق، في الدكان، في المكتبة، في الفصل، بذكره وبالصلاة عليه، وباتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وبالعيش معه، وباقتفاء أثره.
تعيش معه، وأنت تسمع لسيرته في الشريط الإسلامي، وتقرأ سيرته في الكتاب الإسلامي، وتقرأ عظمته في القرآن العظيم..تعيش معه، وأنت فقير؛ لأنه سيّد الفقراء.
وإذا اغتنيت، ورأيت المال معك، والصحة والقصور، والأبناء، والأولاد، والسيارة، فاشكر الله، واعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اغتنى، وجمع الأموال، فكان شاكراً لله، مخبتاً، منفقاً، متصدقاً.
إذا انتصرت على الباطل، فلا يجمع بك الهوى، ولا تعجبك نفسك، فقد انتصر صلى الله عليه وسلم، فخفض رأسه لله، ودمعت عيناه.
إذا غُلبت في الجولات، فعليك بالسكينة والصبر، واعلم أنه صلى الله عليه وسلم غلب فسكن، وصبر لله عبودية.
إذا مات ابنك، فاحتسبه عند الله، فقد احتسب صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم: أحبُّ الأبناء إليه.
هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم سيعيش معكم متى ما أردتم أن يعيش معكم.
وسوف يحرم الإنسان العيش معه صلى الله عليه وسلم، يوم يغلق بابه عن دخول سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم يقول للمصحف: اخرج من بيتي، ويضع مكانه المجلة الخليعة، ويوم يخرج الشريط الإسلامي المفيد النافع، ويأتي بشريط الغناء الآثم المحرم.
وسوف يخرج محمداً صلى الله عليه وسلم من بيته يوم يترك الحلال من الطعام، ويأكل الربا والحرام، ويوم يتخلف عن الصلوات الخمس، ويوم يهاجم السنة في ملبسه، ومظهره، ومجلسه.
هذه آهات محبّ نثرتها بعد أن ملأت قلبي بتذكره صلى الله عليه وسلم، لعلنا أن نستعيد سيرته، وأيامه، ويحركنا ذلك نحو الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
اسأل الله لي ولكم الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم وأن يجعلنا من أتباعه في الدنيا والآخرة.
للشيخ الدكتور/عائض القرني