الخلايا الشمية أو السعاة المبهرة
إنّ الخلايا الشمية في الحقيقة خلايا عصبية، ووظيفتها هي إيصال تأثيرات جزيئات الروائح إلى البصيلة الشمية، والآراء تختلف في الأوساط العلمية حول عدد هذه الخلايا، فبعض العلماء يؤكد أنّ عدد هذه الخلايا يربو على عشرة ملايين خلية 23، والبعض الآخر يعتقد بأن عددها يصل إلى خمسين مليون خلية24، وهذه الملايين من الخلايا الشمية توجد في منطقة لا تزيد مساحتها عن مساحة طابع البريد، وهي مرتبة في تلك المساحة الضيقة بانتظام وتناسق مدهشين، ورب سائل يسأل : هل بالإمكان المرء أن يرتب هذه الملايين من الخلايا ضمن تلك المساحة الضيقة وباستخدام الأجهزة المتطورة ؟
من الطبيعي أن يكون الجواب بـ: لا، فالعلماء لم يتوصلوا بعد ليس إلى كيفية ترتيب مثل هذا العدد الهائل من الخلايا، وإنما إلى تحديد عدد هذه الخلايا، بالرغم من السنوات الطويلة التي يقضونها في إجراء هذه الأبحاث. والخلايا الشمية بدورها تختلف فيما بينها من ناحية الوظائف المؤداة وبشكل ملفت للانتباه، وفي هذا الصدد يقول الباحث المعروف ستيوارت فايرشتاين "إن الخلية الشمية مثل باقي الخلايا الحسية تختلف من ناحية التركيب والوظيفة وتقسم إلى أنواع عديدة " 25 ، وهو بذلك يلفت النظر إلى التصميم المدهش للخلية الشمية، وهذا التصميم المدهش يثبت وجوده لدى فحص الخلية تحت المجهر الإلكتروني، (الشكل 7)، وتتألف الخلية الشمية من ثلاثة أجزاء رئيسية، وهي جسم الخلية، والسويطات التي تقع في أحد طرفي الخلية والمحور الذي يقع في الطرف الآخر للخلية، ( الشكل 8)، وجسم الخلية هو المكان الذي تحدث فيه العديد من الفعاليات الخلوية المعقدة، أما المحور فيتولى نقل الإشارة الكهربائية، والسويط يتولى الارتباط بجزيئات الروائح.
تتألف الخلية الشمية من ثلاثة أجزاء رئيسية، وهي جسم الخلية، والسويط الذي يقع في أحد طرفي الخلية، والمحور الذي يقع في الطرف الآخر للخلية
تعليق على الشكل:
يحتوي الأنف على 15- 20 خليةشمية، وكل خلية من هذه الخلايا تعيش لمدة شهر تقريبا، وبعدها تموت لتحل محلها خلية أخرى.
وعدد السويطات الواقعة في أحد طرفي الخلية الشمية يختلف من 10إلى 30 سويطا، وتتراوح أطوالها من 0.1 إلى 0.15 ملليمترا 26، وتختلف السويطات الشمية عن باقي الشعيرات الموجودة في الأنف، بكونها ثابتة لاتتحرك وكذلك باحتوائها على المستقبلات الشمية، ( الشكل 9) وبعبارة أخرى تختلف هذه السويطات عن باقي شعيرات الجسم بأن لها تركيبا خاصا بها، وكذلك تؤدي هذه السويطات مهمة الإسناد الهيكلي للمستقبلات الشمية. ولو دققنا في الشكل لوجدنا أن لها تصميما يناسب المهمة التي تقوم بها تناسبا مثيرا، فهذا التصميم يتيح للمستقبلة أن تستقبل أكبر عدد ممكن من جزيئات الروائح في أوسع مساحة ممكنة، بالإضافة إلى أن الأبحاث الأخيرة قد أثبتت أن كل خلية شمية لاتحتوي إلا على نوع واحد من أصل ألف نوع مختلف للمستقبلات27، (سوف نبحث هذا الأمر بالتفصيل خلال الصفحات القادمة ).
وينبغي هنا أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة مهمة، ألا وهي كلمة " السويط " التي ربما لا تعني لدى القارئ إلا جسما ذا تركيب بسيط، ولكن الكلمة لا تعني إلا شكل ذلك الجسم، لأن السويطات تتميز باحتوائها على تقنيات راقية جدا للاتصال لا مثيل لها، فجزيئات الروائح التي تذوب في المخاط سرعان ما تقيم اتصالا بالمستقبلات الشمية الخاصة بها.
وسبق أن بيننا بأن العلاقة بين جزيئة الرائحة والمستقبلة الشمية كالعلاقة بين القفل والمفتاح، وبعد هذا الاتصال تحدث سلسلة من التفاعلات الكيمياوية داخل الخلية الشمية تنتج منها إشارة كهربائية عصبية، ولا تزال هذه التفاعلات الكيمياوية قيد البحث ولم يكشف كنهها بعد بصورة كاملة، وبطبيعة الحال تؤدي مجموعة من البروتينات والأنزيمات المهام الملقاة على عاتقها خلال تلك التفاعلات، أي أن عملية تحويل التأثيرات الكيمياوية لجزيئة الروائح إلى إشارة عصبية من قبل الخلية الشمية عملية غاية في التعقيد، ولا نعرف في وقتنا الحاضر سوى شبكتين للاتصال من جملة شبكات الاتصال التي تحتوي عليها الخلية الشمية، ويمكن لنا أن نبسط للقارئ تلك الشبكة الاتصلاتية للخلية الشمية كما يلي:
أولا لنلق نظرة على كيفية إنشاء شبكة الاتصال بواسطة cAMP (أحادي فوسفات سايكليك 3.5 أدينوسين)، (الشكل 10)، فعند ارتباط جزيئة الرائحة بالمستقبلة الشمية تبدأ سلسلة من التفاعلات في الحدوث داخل الخلية وبشكل سريع، أولها تحول بروتين G-OLF إلى بروتين فعال، ويقوم هذا البروتين بتنشيط أنزيم يدعى AC، ويقوم هذا الأنزيم بتسريع الـATP إلى CATP، ويعتبر الـcATP ناقلا للرسائل الكيماوية داخل الخلية. ويرتبط بالقنوات التي تربط السويطات بغشاء الخلية .
وهذا الارتباط يؤدي الى فتح القنوات وانتقال أيونات الكالسيوم إلى داخل السويطات، وانتقال أيونات الكالسيوم يؤدي إلى فتح قنوات الكلوريد وبالتالي انتقال أيونات الكلور إلى خارج السويطات. وهكذا تتحول الخلية السالبة الشحنة إلىخلية متعادلة، وينتج من هذا التحول توليد شحنة كهربائية. ويمكن تلخيص ما حدث بجملة واحدة وهي أن سلسلة من التفاعلات الكيماوية داخل الخلية تنتج منها إشارة كهربائية، وهذه الاشارة الكهربائية تتحرك خلال محور الخلية لتنتقل إلى البصيلة الشمية.
وبعض جزيئات الروائح لا تؤثر على نسبة الـcATP، بل تؤدي إلى زيادة تركيز الـ3p أو (ثلاثي فوسفات النوسايتول 1،4،5)، وهذا التغير في التركيز يؤدي إلى حدوث سلسلة من التفاعلات الكيماوية داخل الخلية والتي تؤدي بدورها إلى توليد شحنة كهربائية أو إشارة كهربائية. أما هذه السلسلة من الاتصالات عبر التفاعلات الكيماوية فلا تزال مجهولة علميا28. ولكن الذي يهمنا هنا معرفة أن الاتصال في الخلية التي لا ترى بالعين المجردة هو نتاج تصميم دقيق ومدهش يبهر العقول.
وبينما يجري هذا الحدث المدهش في أحد طرفي الخلية الشمية، يجري حدث مدهش آخر في الطرف الآخر للخلية، أي عند المحور. وقد ذكرنا في السطور السابقة أن الاشارة الكهربائية تنتقل عبر المحور لتصل إلى البصيلة الشمية.(الشكل)، وتقع هذه البصيلة في مقدمة المخ، وتشكل كل 10-100 محور عصبي حزمة من المحاور تخترق العظم المنخلي للأنف لتصل إلى البصيلة الشمية29. وهنا تبرز أمامنا صفة العظم المنخلي للأنف الذي يحتوي على ثقوب تسمح بمرور المحاور العصبية من خلاله. وهذه الخاصية الموجودة في جمجمة الإنسان هي جزء واحد من أجزاء عديدة في التصميم المدهش لحاسة الشم.
ولولا احتواء تلك الصفيحة العظيمة على تلك الثقوب لما استطاعت الخلايا العصبية أن تقيم اتصالا فيما بينها، وبالتالي استحال الإحساس بالروائح حتى لو أدت باقي أعضاء حاسة الشم وظائفها على أكمل وجه. وهذا يعني أن الأجزاء تعمل في تكامل فيما بينها، ولا يمكن للعمل أن يتم دون وجود الأجزاء كلها متكاملة.
ويمكن أن نلخص ما يخص الخلية الشمية بعبارة واحدة، وهي أن هذا الاتصال الراقي داخل الخلية الشمية هو نتاج تصميمها المدهش والرائع، وهذا التصميم المدهش دليل من الأدلة التي لا يمكن عدّها أو حصرها على حدوث عملية الخلق
البصيلة الشمية : مركز عجيب للاتصالات
تقع البصيلة الشمية في مقدمة المخ إلى الأعلى مباشرة من المنطقة الشمية والجمجمة (الشكل12)، وتوجد بصيلتان شميتان ومنطقتان شميتان. وحجم كل بصيلة شمية بقدر حجم حبة البزاليا، وبالرغم من هذا الحجم الصغير فإنها تقوم بوظيفة محطة اتصال عملاقة لأنها تقوم بتجميع كافة الإرشادات العصبية القادمة من المستقبلات الشمية، وهذا يعني وصول ملايين من المعلومات إليها، وبالتالي تقوم البصيلة بتنظيم هذه المعلومات ليتم إرسالها إلى منطقة الشم في المخ مباشرة بواسطة أعصاب شمية خاصة. وبعبارة أدق ترسل الإشارات العصبية إلى مناطق المهاد وحصان البحر والنواة اللوزية الموجودة في قشرة المخ (الشكل13)، أي أن البصيلة الشمية الصغيرة الحجم تقوم بمهمة التنسيق بين الملايين من الخلايا الشمية. ولنطلع معا على كيفية حدوث الاتصالات داخل البصيلة الشمية، وعندئذ يتبين لنا السر في تسميتنا لها بالمركز العجيب للاتصالات.
إن الخلايا المستقبلة للروائح تقوم بإرسال إشاراتها العصبية إلى البصيلة الشمية، وهناك خلايا أخرى في البصيلة الشمية تدعى بـ"الخلايا المرسلة" تستقبل تلك الإشارات لترسلها بدورها إلى المخ. ويبلغ عدد هذه الخلايا في الإنسان البالغ خمسين ألف خلية تقريبا. ويحدث الاتصال العصبي بين هذه الخلايا وتلك داخل البصيلة الشمية، وبالتحديد في مواقع أو وحدات للاتصال تدعى –glomerulus—أو المناطق الشمية المعتمة، وهـي مناطق كـروية الشكل يبلغ قطـرها 0.1مم30.
تحتوي البصيلة الشمية الواحدة على ألفي منطقة معتمة تقريبا، وكل منطقة معتمة تحتوي على نهايات لمحاور 25.000 خلية شمية مستقبلة، وعلى نهايات استطالات عصبية لـ25 خلية عصبية شمية مرسلة31.
ولو دققنا في الأرقام لكافة المناطق المعتمة لاتضحت أمامنا عظمة الشبكة الاتصالاتية الموجودة في البصيلة الشمية، أي الإشارات القادمة من ملايين الخلايا الشمية المستقبلية يتم توصيلها إلى الالاف من الخلايا العصبية الشمية المرسلة.(الشكل14)، وهذا يعني أن الملايين من المعلومات يتم تبادلها بين الخلايا خلال أقل من بضعة أجزاء من ألف جزء للثانية الواحدة ودون أي خطإ. (إن الإعجاز في الخلايا العصبية سوف لن نتطرق إليه الآن، وللمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع يرجى قراءة كتاب "معجزة الهرمون "، هارون يحيى، Kültür Yayincilik، استانبول،2000.
إنّ تركيب البصيلة الشمية معقد جدا، والشكل في الجانب يوضح نوعين فقط من الخلايا المستقبلة (اللون الرصاصي والبني) ومنطقتين معتمتين للاتصال العصبي ومجموعة من خلايا أخرى، ونذكّر بأن جهاز حاسة الشم يتألف من عشرات الملايين من الخلايا الشمية وألف نوع من المستقبلات الشمية وألفين من المناطق المعتمة للاتصالات العصبية وتجمعات من الخلايا الأخرى، وخلايا محببة وخلايا مرسلة أولية. ومن هنا يتضح لنا مدى كبر وتشعب الشبكة الاتصالية في هذا الجهاز.
ومن الجدير بالذكر أن كل معلومة تأتي من خلية مستقبلة شمية يتم تجميعها في البصيلة الشمية وإعادة تنظيمها وترتيبها، ونتيجة لذلك يزداد الإحساس بشم الروائح، أي أن هذه العملية الترتيبية والتنظيمية التي تقوم بها البصيلة الشمية تؤدي إلى الحصول على نتائج باهرة من ناحية الإحساس بالروائح 32، وهنا يمكن أن نصور عدم حدوث خطإ في عملية تصنيع المعلومات في البصيلة كما يلي: لنفرض أن معلومة ما تحمل عبر مليون جهاز هاتف، ويتم تخفيض هذا العدد الهائل في مركز للاتصالات تخفيضا فجئيا إلى ألف خط هاتفي، فمن المستحيل في هذه الحالة عدم حدوث خلل في المعلومات والمعطيات القادمة إلى المركز، ولا يمكن الحيلولة دون حدوث هذا الخلل مهما استخدمت تكنولوجيا راقية في الاتصالات، وهنا تبرز أمامنا معجزة أداء الخلايا الشمية لهذه المهمة المستحيلة دون أي خطإ أو نقص طيلة حياة الإنسان، أي أن هناك أمرا محيرا للعقول يحدث داخل البصيلة الشمية، وهو لا ينتج إلاّ عن تصميم هندسي بارع وخارق.
وقد أدت الأبحاث الأخيرة إلى اكتشافات مذهلة في خفايا البصيلة الشمية، فمثلا تتميز الروابط التي تربط الخلايا الشمية بمناطق الاتصال المعتمة داخل البصيلة بالتنظيم والترتيب الدقيق، فلكل خلية شمية منطقة محددة لها، أي أن لكل مستقبلة شمية من ملايين المستقبلات الموجودة في المنطقة الموجودة الشمية منطقة اتصال معتمة واحدة خاصة بها من ضمن ألفين من مناطق الاتصال الموجودة في البصيلة33، (الشكل 15)، ويتفق مكتشفو هذه الخاصية على أن المعطيات التي تأتي بها مستقبلات مختلفة يتم ترتيبها وتنظيمها بشكل دقيق جدا34، ونلاحظ أن كل خلية شمية مستقبلة من بين ملايين الخلايا الشمية المستقبلة تختار المنطقة المعتمة الاتصالية المناسبة بالضبط من بين ألفي منطقة، وهذه الخاصية تعتبر حجة مُخرسة لأصحاب نظرية التطور الذين يزعمون أن ظهور الحياة كان عن طريق الصدفة.
وتحتوي البصيلة الشمية على خلايا أخرى وهي الخلايا المرسلة الأولية والخلايا المحببة، ويعتقد العلماء أن هذه الخلايا تتولى التدخل لرأب أي صدع أو معالجة أي انقطاع يحدث في تدفق المعلومات أو التدخل لكبح جماح التدفق المعلوماتي فائق الحد35.
إنّ الذي يجري داخل البصيلة الشمية من فعاليات حيوية تتم السيطرة عليها عن طريق آليات معقدة للغاية لم تكتشف بعد، وتصوروا شبكة اتصالات هاتفية لمدينة مكتضة وكبيرة مثل استانبول، هل يمكن لمثل هذه الشبكة الضخمة أن تظهر من تلقاء نفسها بالمصادفة ؟ وهل يمكن لمراكز التوزيع الهاتفي أو البدالات الهاتفية أن تظهر مصادفة؟ أو كما يدعي دعاة نظرية التطور هل يمكن أن تتحول المواد الخام المتروكة في العراء إلى شبكة متطورة للاتصالات الهاتفية بعد مرور ملايين السنين؟
والجواب على هذه الأسئلة واضح غاية الوضوح، فمهما انتظرنا لن تتحول تلك المواد ليس إلى شبكة اتصال معقدة بل حتى إلى خط هاتفي بسيط جدا، فضلا عن كون شبكة الاتصال الهاتفية ذات تصميم هندسي يستلزم الجهد والتنسيق والمثابرة، وإجراء حسابات دقيقة ومتكاملة، وما عدا ذلك فكل تفسير يستند إلى الصدفة في تبرير ظهور الأشياء ليس إلا هراء.
إن تبادل المعلومات بين أجزاء الشبكة المعقدة داخل البصيلة الشمية هو دليل على أن البصيلة الشمية كائن مخلوق، والذي خلقها بهذا الشكل الباهر واودعها في جسم الإنسان هو الله رب العالمين، أما ادعاءات الداروينيين بأن الأشياء -ومنها هذه الشبكة المعقدة- قد ظهرت بالصدفة فلا يمكن وصفه إلاّ بأنه سفسطة لأنّ عملية الخلق تعبر عن نفسها بوضوح تام من خلال الأدلة المادية التي يكتشفها العلم يوما بعد يوم .
أما أصحاب تلك الادعاءات الفارغة فقلوبهم غُلف وعقولهم متوقفة عن التفكير، ووظفوا نفوسهم لقبول اللامنطق، والقرآن الكريم هو مرشدنا في مواجهة مثل هذه النماذج البشرية، يقول تعالى:
( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمّ مِن نُطفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلا لَكِنّا هُوَ الله رَبّي وَلاَ أُشرِكُ بِربّي أَحَدًا )، سورة الكهف ، 37-38.
منقـــــــــول