محاضرة حول القيمة العادلة والابلاغ المالي
القيمة العادلة والابلاغ المالي
يقدمها
الأستاذ نعيم سابا خوري
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
يطيب لي ان اكون اليوم في رحاب المركز الثقافي العربي في مدينة دمشق العزيزة بدعوة كريمة من جمعية المحاسبين القانونيين في سوريا ، وانني اذ احيي الجمعية رئيسا واعضاءاً على تنظيم هذا اللقاء ، فاني اعرب عن سروري واعتزازي للوقوف امام هذه النخبة الكريمة من المهنيين والاكاديميين كي اتحدث في موضوع القيمة العادلة والابلاغ المالي.
وسوف اتناول في محاضرتي هذا الموضوع من خلال الجوانب الاساسية التالية:
الاسباب الموجبة لمحاسبة القيمة العادلة.
مفهوم القيمة العادلة.
محاسبة القيمة العادلة.
الافصاحات المطلوبة للقيمة العادلة.
القيمة العادلة والاقتصاد الوطني.
اولاً: الاسباب الموجبة لمحاسبة القيمة العادلة.
شهد العالم في نهاية الالفية الثانية مظاهر واحداث هامة مترابطة تمثلت في نظام العولمة وما انطوى عليه من هيمنة اقتصاد السوق وانتشار اقتصاد المعرفة وازالة الحواجز عبر الحدود القطرية لتعبر منها السلع والخدمات والاستثمارات بحرية وكذلك
تطور الاسواق المالية وترابطها الى حد انه اذا ما اصاب احدها حدث ما تداعت اليه الاسواق المالية الاخرى.
لقد اوجبت هذه المظاهر والمستجدات على المهنة ان تكون على مستوى تتمكن فيه تلبية حاجات العولمة وما افرزته من تطورات.
وقد تزامن ذلك ايضاً تعاظم المسؤوليات لهيئات الرقابة الحكومية والدعوات الى تطوير تنظيم حكومي قوي ومناسب لمهنة المحاسبة القانونية والى الاشراف على جودة عمل المدققين وذلك بعد هذا الفيض من المشاكل والفضائح المالية التي اصابت عدد من الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الامريكية وغيرها ، وادت الى انهيارها بسبب ضعف الحاكمية فيها او قصور او اساءة لاستخدام المباديء المحاسبية وذلك مثل شركة انرون وورلدكم وغيرها .
لقد تمخضت هذه التطورات والطفرات الاقتصادية والمعرفية عن ابتداع منتجات جديدة منها الادوات المالية من اسهم شركات وسندات وشهادات ايداع وبنود اخرى لموجودات ومطلوبات اخرى متنوعة كما تم استخدام المشتقات المالية ومنها:
عقود عملات آجلة.
عمليات مقايضة.
حقوق الخيارات.
مستقبليات.
وقد اقتضى هذا التوسع والتشعب في استعمال الادوات المالية الى تطوير وسائل لادارة المخاطر المالية من اجل تحديدها والتحوط لها وتخفيف آثارها.
لقد اصبحت البيانات المالية قاصرة عن اظهار الوضع المالي ونتائج الاعمال والتدفقات النقدية وفق الحقائق الاقتصادية ، مما كاد ان يفقد هذه البيانات اهميتها ، نظرا لان المعلومات المالية فيها لا تستند الى معطيات اقتصادية موضوعية تتعلق بالادوات المالية والاستثمارات العقارية والمحاسبة الزراعية ومحاسبة التأمين ، هذا بجانب ان واضعي المعايير المحاسبية في الدول المختلفة كانوا يتفاوتون في التعاطي مع هذا الموضوع وبرزت اختلافات عديدة بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير المتعارف عليها في الولايات المتحدة الامريكية حول هذه المواضيع ، علماً بان المعايير المحاسبية في بريطانيا كانت تخلو اي محاسبة للقيمة العادلة للادوات المالية.
وكان في ذلك الوقت امرا مستهجنا ان دولا نامية تطالب باتباع محاسبة القيمة العادلة في الوقت الذي لا يتم تطبيقه من دول متقدمة .
للاسباب المذكورة فقد بات من الضروري اعادة التفكير في مفاهيم المحاسبة التقليدية والقياس المحاسبي على اساس الكلفة لعدد من الموجودات ، وفي تحقق الايرادات وفي مبدأ الحيطة والحذر وهي فرضيات محاسبية اساسية استقرت عبر عقود من الزمن ومسلمات محاسبية لم يجرء احد على الخروج عنها.
ازاء هذه الاحداث والتطورات تم تشكيل مجموعة عمل في اواخر الالفية الثانية لدراسة هذا الموضوع ، وتقديم مقترحات لمعايير محاسبة القيمة العادلة ، وضمت هذه المجموعة اعضاء وخبراء من دول متعددة ، وتوصلت هذه اللجنة الى نتيجة مفادها ان اتباع القيمة العادلة هو اكثر ملائمة لاغراض الابلاغ المالي وان الالتزامات الطارئة والارتباطات المالية المتعلقة بالاداوات المالية بما فيها المشتقات المالية والتي تظهر خارج الميزانية العامة يجب تقديرها بموجب قيمتها العادلة وادخالها في الميزانية العامة بدلاً من ان تبقى في حسابات متقابلة خارج الميزانية العامة.
ولدى الوصول الى هذه النتائج قامت لجنة المعايير المحاسبية الدولية في العام 1989 بالبدء في مشروع محاسبة القيمة العادلة للادوات المالية بالاشتراك مع معهد المحاسبين الكندي وتمخض هذا المشروع عن اصدار معيارين محاسبين دوليين هامان هما:
المعيار المحاسبي الدولي رقم(32) المتعلق بالعرض والافصاح وسرى مفعوله اعتباراً من العام 1996.
المعيار المحاسبي الدولي رقم(39) المتعلق بالاعتراف والقياس وسرى مفعوله اعتباراً من العام 2001.
وفي وقت لاحق اجريت تعديلات عديدة على هذين المعيارين.
ثانيا:مفهوم القيمة العادلة
كان النقاش دائماً وباستمرار بين مستخدمي البيانات المالية يتناول القيمة ، وفيما اذا كانت الكلفة التاريخية في الميزانية العامة تعبر عن الحقائق الاقتصادية وتسمح لمستخدمي البيانات المالية من فهم الوضع المالي ونتائج الاعمال والتدفقات النقدية.
حيث ان اهداف البيانات المالية هي تقديم معلومات مفيدة ومناسبة للاطياف العديدة في المجتمع والتي تعتمد على البيانات المالية في اتخاذ قراراتها الاقتصادية ولما كان يفترض في البيانات المالية ان تعبر بصدق عن الوضع المالي ونتائج الاعمال والتدفقات النقدية بشكل يمكن من خلالها محاسبة الادارة عن الاموال الموكولة اليها واتخاذ القرارات المناسبة ، فانه والحالة هذه لابد من اظهار الموجودات والمطلوبات بالقيمة العادلة لانها اكثر نفعا وفائدة لمستخدمي البيانات المالية من الكلفة التاريخية.
وعندما نبحث في مفهوم القيمة العادلة نجد انها تقسم الى قسمين هما:
اولهما: قيم تستند الى السوق وهي:
- القيمة السوقية،أي الاسعار المعلنة في سوق نشط.
- القيمة العادلة وهي المبلغ الذي يمكن بموجبه تبادل موجودات او تأدية مطلوبات بين جهات مطلعة وراغبة وفي معاملة مباشرة.
ثانيهما: قيم لا تستند بالضرورة الى السوق وهي:
-القيمة من الاستعمال.
-القيمة القابلة للاسترداد.
-القيمة الاستبدالية.
-قيمة المنشأة المستمرة.
-قيمة التصفية.
لا جدال ان احداً لا يمكنه ان ينكر المشاكل التي تحيط بمحاسبة القيمة العادلة ومنها:
-انه يكتنف تقدير القيمة العادلة قدر كبير من الاجتهاد والحكم الشخصي واتباع اسس قياس متباينة.
-ان القيمة العادلة هي خطوة راديكاليه وخروجا عن المفاهيم المحاسبة التقليدية وليس هنالك مبررات محاسبية نظرية تبررها.
-ان الايرادات تتحقق من استمرارية المنشأة عبر الزمن وليس من تقلبات اسعار قصيرة الاجل.
-ان محاسبة القيمة العادلة معقدة وذات طرق مختلطة منها ما يتعلق برغبة الشركة في الاحتفاظ بالاستثمارات ومنها ما يتعلق بموضوع تقدير القيمة العادلة.
-ليس هنالك سببا موضوعيا لاظهار الاستثمارات التي لا اسعار سوقية لها بكلفتها التاريخية.
ثالثا: محاسبة القيمة العادلة.
تغطي محاسبة القيمة العادلة المواضيع التالية:
-الادوات المالية.
-الاستثمارات العقارية.
-الموجودات الزراعية (محاصيل وموجودات بيولوجية).
-المطلوبات التأمينية (التزامات عقود التأمين).
وسوف أناقش المعالجات المحاسبية لكل منها فيما يلي:
الادوات المالية
-تقيد الادوات المالية عند نشؤها بالكلفة .
-لاغراض قياس الادوات المالية بعد نشؤها فان المعيار المحاسبي يصنف الموجودات المالية على النحو التالي:
1-قروض وديون لا يحتفظ بها للاتجار وتقاس بالكلفة.
2-استثمارات محتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق وتكون عادة سندات مالية لها استحقاقات ودفعات ثابتة وتملك الشركة القدرة على الاحتفاظ بها حتى الاستحقاق وتظهر بالكلفة او بالكلفة المطفأة.
3-موجودات مالية مقاسة بالقيمة العادلة من خلال بيان الدخل وتشمل الموجودات المحتفظ بها للاتجار أي بغرض اخذ ارباح خلال فترة قصيرة. وأي موجودات مالية اخرى محددة بالقيمة العادلة.
4-موجودات مالية متوفرة للبيع وهي تلك التي لا تقع ضمن التصنيفات من (2) و (3) اعلاه وتقاس بالقيمة العادلة.
وفي العام 2005 تم تقييد استعمال الموجودات المالية المحددة بالقيمة العادلة لغرضين اثنين هما:
1-لالغاء عدم مقابلة محاسبية أواقتصادية في الميزانية العامة.
2-لمعالجة بندين يداران بشكل مشترك.
علماً بأن الموجودات المالية التي لا يمكن قياس قيمتها العادلة بشكل يعتمد عليها تظهر بالكلفة .
اما المطلوبات المالية فيتم قياسها بموجب قيمتها الاصلية المسجلة ناقصاً أي مدفوعات من اصل المبلغ المطلوب واي اطفاءات عليها.
تظهر المطلوبات المالية التالية بالقيمة العادلة ويؤخذ التغيير في القيمة العادلة الى بيان الدخل وهي:
-التزامات مشتقات مالية.
-مطلوبات مالية لاغراض الاتجار.
يتم تقدير القيمة العادلة بموجب اسعار الاغلاق في سوق نشطة وهو التقدير المناسب والملائم لها .
وفي حالة عدم توفر اسعار سوقية يتم استخدام اسلوب تقدير يعتمد بشكل رئيسي على اسعار السوق او على قيمة التدفقات النقدية المستقبلية او نماذج تسعير.
يحدد المعيار المحاسبي الشروط الواجب توفرها لتحديد السيطرة على الموجودات المالية وفي حالة فقدان السيطرة يتم استبعاد الموجودات من الميزانية العامة.
يتم معالجة التحوط المالي محاسبيا على النحو التالي:
1-تحوط القيمة العادلة
يؤخذ التغير في الموجودات والالتزامات المتعلقة به الى بيان الدخل.
2-تحوط التدفقات النقدية
يؤخذ التغير الى حقوق الملكية لحين تحققه.
3-تحوط صافي الاستثمار الخارجي.
يؤخذ التغير الى حقوق المساهمين لحين التخلص من الاستثمار وعندها يؤخذ التغيير الى بيان الدخل.
ان التحوط لاسعار الفوائد يعتبر تحوطاً للقيمة العادلة.
الاستثمارات العقارية:
يتم اظهارها بالقيمة العادلة ويؤخذ التغيير في القيمة العادلة الى بيان الدخل.
(علماً بانه يسمح باظهارها بالكلفة بعد الاستهلاك مع الافصاح عن قيمتها العادلة بتاريخ البيانات المالية)
المحاصيل الزراعية والموجودات البيولوجية:
تظهر بالقيمة العادلة بعد تنزيل مصاريف البيع ويؤخذ التغير في القيمة العادلة في بيان الدخل شريطة تقدير القيمة العادلة بشكل يعتمد عليه.
التزامات عقود التأمين :
يتم اجراء فحص لمدى كفاية الالتزامات الناشئة عن العقود التأمينية على اساس صافي التدفقات النقدية المستقبلية المخصومة وأخذ أي عجز قد يحدث في بيان الدخل.
رابعاً: الافصاحات للقيمة العادلة
تنبع الافصاحات للادوات المالية من المعايير المحاسبية التالية:
ias
(32) الادوات المالية –العرض
ifrs
(7) الاداوات المالية -الافصاحات
في حين تتم الافصاحات للاستثمارات العقارية والموجودات الزراعية وفقا للمعيار المحاسبي الدولي رقم(40) حول الاستثمارات العقارية والمعيار المحاسبي الدولي رقم(41) حول الموجودات الزراعية.
ان العرض والافصاح هو اساس هام في متطلبات المحاسبة الدولية من اجل اشاعة الشفافية والانفتاح على اطياف المجتمع ولمساعدة مستخدمي البيانات المالية على فهم المعلومات المالية ، ان مبدأ الافصاح مبني على المتطلبات التالية:
-متطلبات المعايير المحاسبية الدولية.
-متطلبات التشريعات.
-استجابة لحق الناس في المعرفة.
يتناول المعيار الدولي للتقارير المالية رقم (7) الافصاحات المطلوبة للادوات المالية وقد جاء هذا المعيار على انقاض المعيار المحاسبي الدولي رقم(30) حول الافصاح في البيانات المالية للبنوك والمؤسسات المالية المشابهة.
كما اخذ من المعيار المحاسبي الدولي رقم (32) حول العرض معظم الافصاحات للادوات المالية ، بحيث اصبح المعيار المذكور يقتصر على طريقة عرض المعلومات للادوات المالية ، وبذلك فان المعيار الدولي للتقارير المالية رقم (7) يكمل المعالجات المحاسبية في المعيار المحاسبي رقم (32) حول العرض والمعيار المحاسبي رقم (39) حول الاعتراف والقياس.
يتطلب المعيار المحاسبي رقم (7) الافصاح عن:
-الادوات المالية الهامة.
-معلومات نوعية وكمية حول التعرض للمخاطر الناجمة عن الادوات المالية بما فيها:
-مخاطر الائتمان.
-مخاطر السيولة.
-مخاطر السوق.
ويشمل ذلك وصف لاهداف الادارة وسياساتها واجراءاتها لكيفية ادارة هذه المخاطر.
اما المعلومات الكمية فتتعلق بالافصاحات المطلوبة عن المعلومات حول مدى تعرض المنشأة للمخاطر اعتمادا على المعلومات المقدمة داخليا لادارة الشركة العليا ولذلك فان هذه الافصاحات تبين ملخصاً لاستخدام المنشأة للاداوات المالية والمخاطر التي تم التعرض لها من جراء هذه الادوات المالية.
وتعطي الافصاحات معلومات عن بنود الميزانية العامة وعن اعادة تصنيفها واستبعادها والضمانات المتعلقة بها والمخصص لخسائر الائتمان والتخلف عن الدفع او خرق الاتفاقيات وعن بنود بيان الدخل ومصادر الدخل وعن السياسات المحاسبية المتبعة ومحاسبة التحوط والقيمة العادلة وتقديرها.
اما المعيار المحاسبي الدولي رقم(32) فيتناول طرق العرض للاداوات المالية والافصاح عن اسهم الخزينة والفوائد والارباح الموزعة والخسائر والمكاسب والافصاح عن التقاص بين الموجودات والمطلوبات.
علما بانه تم استبعاد متطلبات الافصاح من المعيار المحاسبي الدولي رقم(39) وادخالها في المعيارين المحاسبين رقم (32) ورقم (7)
اما الافصاحات المطلوبة للاستثمارات العقارية والزراعة فهي عديدة وموضحة في المعيارين المحاسبين رقم (40) ورقم (41).
خامساً: القيمة العادلة والاقتصاد الوطني.
اصبح من الواضح انه في ظل المحاسبة التقليدية فان القيم المالية في الميزانية العامة وفي بيان الدخل لا تقدم جواباً كافياً للايفاء بضرورات المستثمرين وحاجاتهم لاتخاذ القرارات الاقتصادية المناسبة المستندة الى معلومات عادلة تعكس الوقائع الاقتصادية . ذلك لان البيانات المالية تسجل الماضي ولا تأخذ الحاضر والمستقبل في الاعتبار.
ومن هنا بدأت المحاولات لايجاد تقارب بين القيم المالية التي تعكسها المحاسبة والقيم بموجب المفاهيم الاقتصادية ، وقد جرت محاولات في الماضي للتخفيف من اثر هذا الاختلاف بين القيمتين عند وضع محاسبة القيمة الحالية التي ما لبث ان تم تعليقها
نظراً لانخفاض معدلات التضخم ولانها معلومات اضافية ولم تتجذر في المفاهيم والممارسات المحاسبية.
ثم جاءت محاسبة القيمة العادلة لتضييق الاختلاف بين القيمة الاقتصادية والقيمة المحاسبية وساعدت ان تتلاقى المفاهيم حول القيمة بين الاقتصادييين والمحاسبين.
لا جدال بان مفهوم القيمة العادلة قد نقل النظرية المحاسبية التقليدية إلى آفاق وأطر جديدة، واحدث تغييراً شاملاً في بنية البيانات المالية ومدلولاتها إلى اجل طويل. وكان ذلك نتاجاً للتطورات الحاصلة على النظرية المحاسبية خلال العقود الثلاثة الأخيرة
والتي نضجت وتم بلورتها في المعايير المحاسبية الدولية المتعلقة بالقيمة العادلة والتي وضعت موضع التطبيق في بداية الألفية الثالثة.
ويستند هذا التطور الكبير إلى قاعدة إن الإبلاغ المالي للأغراض العامة يتطلب إعداد بيانات مالية تلبي حاجات الأطراف العديدة المستخدمة لهذه البيانات وتعتمد على الوقائع الاقتصادية.
وفي الإطار نفسه ، فان اعتماد الكلفة التاريخية أساسا للقياس للأدوات المالية يشوه ما تعكسه البيانات المالية ، وذلك لان إظهار الأدوات المالية بكلفتها التاريخية بالرغم من ان قيمتها السوقية اعلي من الكلفة التاريخية ، يعني إن هنالك أرباحا متحققة ولكن غير معترف فيها ، ولا تظهر في البيانات المالية ، وان الأرباح سوف تتحقق عند بيعها وقد تكون في سنة غير تلك السنة التي حدثت فيها، هذا بجانب إن الخسارة يتم الاعتراف بها قبل تحققها ، مما يعني عدم التماثل في معالجة الربح أو الخسارة.
إن هذا المفهوم التقليدي يمثل خروجاً عن القياس المحاسبي السليم ، ويشوه البيانات المالية ، وتؤثر على مدى المنفعة منها وملائمتها للقارئ ، وكذلك على سلامة الشفافية فيها.
التوافق بين المحاسبة والاقتصاد
أضحى الاقتصاد وثيق الصلة بالمحاسبة فلا يمكن تصور دراسة عن العرض أو الطلب أو مدى الاستثمار أو حجم الإنفاق أو حجم الائتمان أو الدخل القومي أو السياسة النقدية وغير ذلك من المواضيع دون توفر معلومات مالية دقيقة وذات موثوقية ومكتملة من حيث النوعية أو الكمية ، ومقدمة في أوقاتها المناسبة .
وكانت هذه المعلومات المالية تقدم في السابق وفقا لمبادئ محاسبية لا تأخذ في القياس القيمة العادلة لها .إما اليوم فإنها تعد وفقا لمحاسبة القيمة العادلة .
إن الاقتصاد والمحاسبة علمان متداخلان ويكملان بعضهما البعض ، وذلك من حيث تحديد القيم العادلة أو التقديرات والفرضيات المحاسبية أو تقدير القيمة الحالية لصافي التدفقات النقدية المستقبلية.
كان لادخال محاسبة القيمة العادلة في الممارسات المحاسبية اثر كبير على عملية الإبلاغ المالي بشكل عام ، فقد أدى إتباعها إلى إظهار معظم الموجودات والمطلوبات في الميزانية العامة بموجب قيمتها الاقتصادية ، وكذلك الى إظهار النتائج
الشاملة للعمليات ، وللتغييرات الجارية على الموجودات والمطلوبات والناجمة من الإحداث الاقتصادية في حينها دون الانتظار لأخذها في الحسبان عند تحققها .
ان المآل النهائي للتغييرات الاقتصادية أعلاه تصب في حقوق الملكية وبالتالي فان الزيادة في حقوق الملكية يعتبر ربحاً، وفي حالة النقص يعتبر خسارة ، وهو أمر ينسجم مع المفاهيم الاقتصادية ، هذا بطبيعة الحال بعد استبعاد المعاملات بين الشركة ومالكيها.
في الإطار المحاسبي العام فان الموجودات تعتبر موارد لها منافع اقتصادية مستقبلية ،وتعتبر المطلوبات مصادر لالتزامات حالية ، وتستخدم الموارد لتأديتها ، بالتالي فان حقوق الملكية تمثل القيمة الاقتصادية المتبقية للموجودات بعد خصم المطلوبات. وتعتمد قيمة حقوق الملكية على الطريقة التي يتم فيها قياس الموجودات والمطلوبات ، وتتغير عادة تبعاً للأحداث الاقتصادية الحاصلة .
وأرى أن أبين هنا أهم المناحي التي ساهمت محاسبة القيمة العادلة في اظهار الحقائق الاقتصادية لها وهي:
-تحديد القيمة الاقتصادية للموجودات .
يتم قياس عدد كبير من الموجودات بموجب قيمتها الاقتصادية
(القيمة العادلة لها). وفي حالة تدني قيمتها يتم تخفيض مبالغ الموجودات إلى قيمتها الاقتصادية ، والاعتراف بهذا الانخفاض في البيانات المالية ، وتحدد القيمة الاقتصادية لها اما على اساس القيمة القابلة للاستيراد او على اساس صافي قيمة التدفقات النقدية المستقبلية المخصومة لها.
هذا بجانب أن المحاسبة تعترف بالموجودات غير الملموسة من شهرة وحقوق ملكية غيرها ضمن حالات محددة وهي موجودات معنوية اقتصادية.
الاعتراف بالآثار المترتبة عن الأحداث الاقتصادية عند وقوعها.
وهذا يعني أن الاعتراف بالإيراد يستند إلى قيمته العادلة ، وليس إلى كلفته، وان الآثار من إظهار القيمة العادلة الناجمة عن الأحداث الاقتصادية تنعكس في البيانات المالية عند حدوثها ، وهذا مفهوم اقتصادي يساعد على التحليل للاسباب من الناحية الاقتصادية.
تقدير القيمة الاقتصادية للوضع المالي للشركة.
بموجب محاسبة القيمة العادلة فان البيانات المالية للشركة تعتبر وسيلة هامة للتنبؤ بتقديرات القيمة الاقتصادية في المستقبل.
تحديد الربح أو الخسارة وفقا للمفهوم الاقتصادي
ان الدخل من الناحية الاقتصادية هو الزيادة الناجمة في القيمة المتبقية للموجودات أي في حقوق الملكية. ومن المنظور الاستثماري فان الزيادة في قيمة الموجودات المالية يرافقها زيادة في حقوق الملكية وأن رأس المال وأموال الشركة الأخرى مستثمرة في موجودات لجني عائد عليها من الاستثمار في السوق ، نظراً لان القيمة العادلة تمثل
القيمة الحالية لتوقعات المستثمرين للتدفقات النقدية المستقبلية المتأتية من الموجودات مخصومة بالأسعار الجارية للعائد على الاستثمار.
المطلوبات التأمينية
كما تعتمد محاسبة القيمة العادلة على اظهار الموجودات المالية والدخول الناجمة عنها فانها ايضاً تتناول كيفية معالجة المطلوبات المالية ، واشير هنا على وجه الخصوص الى محاسبة المطلوبات التأمينية الناجمة عن عقود التأمين ، فقد اوجبت معايير المحاسبة الدولية اجراء فحص لكفاية المطلوبات المذكورة على اساس صافي التدفقات النقدية المستقبلية المخصومة ، حتى اذا كان هنالك عجز في قيمتها (العادلة) فانه يحمل على بيان الدخل.
أثر القيمة العادلة على الاقتصاد الوطني:
تعكس القيمة العادلة تقديرات الأسواق للأوضاع الاقتصادية السائدة ، تماماً كما تعكس التغييرات في القيمة العادلة الآثار الناجمة عن التغييرات الاقتصادية عند حدوثها.ذلك لان القيمة العادلة تحدد عادة في سوق مفتوح ومنافس يعكس الحقائق الاقتصادية ، في حين أن الكلفة التاريخية لا تعكس سوى الأوضاع الاقتصادية عند الاقتناء ولا تعكس التغييرات في القيمة العادلة إلا عند تحقيقها.
ويمكن تحديد الجوانب الاقتصادية التالية التي تأثرت بشكل أو بآخر من إتباع محاسبة القيمة العادلة وهي:
أولاً:الحسابات القومية:
تعتبر ارباح الشركات والمؤسسات بنداً مهماً في حسابات الدخل القومي وتؤثر على الزيادة في مجموع الدخل القومي من سنة الى أخرى . وقد كانت الأرباح في السنوات التي سبقت تبني محاسبة القيمة العادلة تعتمد على مفهوم أن الإيرادات من الموجودات المالية والاستثمارات العقارية والموجودات الزراعية تتحقق عند بيعها ، أما في ظل محاسبة القيمة العادلة المتبعة حالياً فان الإرباح تتحقق عند حدوثها.
كما أن التغيير في القيمة العادلة للموجودات المالية المتوفرة للبيع أصبح يزيد أو ينقص من قيمة الدخل القومي حسب الحالة وتؤثر على النسبة السنوية لنمو الاقتصاد أو تراجعه.
وهذا دليل على مدى تأثير محاسبة القيمة العادلة على الحسابات القومية ومعدلات النمو الاقتصادي.
فان ارتفعت الاسعار في الاسواق المالية في سنة ما ، فان هذا ينعكس في نتائج اعمال الشركات او في حقوق الملكية فيها . وسوف يدخل كأرباح في تقدير قيمة الدخل القومي، وفي حالة هبوط الاسعار في الاسواق مالية فان الانخفاض في قيمة الاسهم سوف تؤثر على احتساب قيمة الدخل القومي.
ثانياً:الاعتراف بالحقائق الاقتصادية وإظهارها:
بينت فيما سبق مدى مساهمة محاسبة القيمة العادلة في إظهار الحقائق الاقتصادية وارغب ان اسلط الضوء فيما يلي على البنود الهامة التي تمسها محاسبة القيمة العادلة:
-الموجودات المالية:
وتشمل هذه الموجودات الأسهم في الشركات والسندات المالية وغيرها وكانت في السابق تظهر بسعر الكلفة التاريخية أو السوق أيهما اقل ، وبالرغم من قابليتها للتداول ، إلا أنها كانت تصنف استثمارات طويلة الأجل واستثمارات قصيرة الأجل ، ولذلك لم تكن المحاسبة تعكس التغيير الاقتصادي في قيمتها خلال السنوات اللاحقة لتاريخ اقتناءها . والأدهى من ذلك أن الهدف من شرائها لم يكن محدداً وفقاً لنية الشركة وقدراتها المالية ، وهي حقائق اقتصادية اغفلتها الممارسات المحاسبية في السابق قبل ان يتم إدخال محاسبة القيمة العادلة.
-الاستثمارات العقارية:
في ظل إتباع طريقة الكلفة فان الاستثمارات العقارية تظهر بكلفتها التاريخية بعد الاستهلاك ، دون اخذ الزيادة أو النقص في قيمة الاستثمارات العقارية بسبب الأحداث الاقتصادية في بيان الدخل ، أما بموجب طريقة القيمة العادلة فاته يتم الاعتراف بالأحداث الاقتصادية وإظهار الاستثمارات العقارية بموجب قيمتها العادلة واخذ الفائض أو النقص ضمن نتئج الأعمال ، مما يعكس الحقائق الاقتصادية لهذا الاستثمارات.
-الموجودات الزراعية البيولوجية والمحصول الزراعي.
بموجب محاسبة القيمة العادلة يتم إظهار الموجودات الزراعية البيولوجية وفقاً لقيمتها العادلة وعلى هذا الأساس نفسه يتم إظهار المحاصيل الزراعية ايضا ، ويتم الاعتراف بالفرق بين القيمة العادلة وكلفة البيع في بيان الدخل ، وبذلك تعكس محاسبة القيمة العادلة الحقائق الاقتصادية للنشاط الزراعي.
ثالثاً : الاعتراف بالمخاطر الاقتصادية:
لا شك أن المعايير المحاسبية الجديدة المتعلقة بالقيمة العادلة للأدوات المالية قد عنيت لأول مرة بموضوع المخاطر المالية وإدارتها ، فلم تعد المحاسبة تقتصر على تسجيل وتبويب وعرض المعلومات المالية ، بل أصبحت المحاسبة أداة لتقييم المخاطر
وإدارتها ، بحيث أن أي حدث اقتصادي ناجم عن قرار استثماري في الشركة يأخذ في الاعتبار المخاطر المالية لهذا القرار، وليس فقط مجرد عكس هذا الحدث الاقتصادي في الحسابات.
مما تقدم نلاحظ أن محاسبة القيمة العادلة لا تتناول فقط تسجيل اقتناء الموجودات بل تبحث في ابعد من ذلك ، وهي المخاطر المالية الناجمة عن الاحتفاظ بها، وهي مخاطر اقتصادية ناشئة عن التقلبات في القيمة السوقية ، وفي أسعار الفوائد ، وفي أسعار العملات الأجنبية وفي مقدرة المدينين على الدفع ، وتركزات الديون ، ومقدرة الشركة على تسديد التزاماتها الجارية ، وهذه المخاطر ذات جذور اقتصادية بحته.
رابعا: تعزيز الأسواق المالية:
لا نقاش من أن إعداد البيانات المالية وفقاً لمحاسبة القيمة العادلة تحقق منفعة رئيسية للمستثمرين ، لتقدير استثماراتهم واستنباط توقعاتهم المستقبلية ، واتخاذ قراراتهم الاقتصادية المناسبة. ومن جهة أخرى فان المستثمرين يتطلعون إلى المعلومات المالية من منظور استثماري عالمي واسع ولهذا السبب كان من المهم استخدام معايير محاسبية متعارف عليها دولياً في إعدادها، وحيث أن الأسواق المالية تعتبر آلية هامة في تطوير الاقتصاد الوطني ، فانه يمكن الوقوف على أهمية العلاقات المتداخلة بين محاسبة القيمة العادلة والأسواق المالية.
بجانب ان الاسواق المالية تعمل على حماية المستثمرين وتوفر لجميع المتعاملين فيها الشفافية الكاملة على قدم المساواة فانها تعتبر اداة هامة لقوى السوق فهي تساعد على جذب الاستثمارات المناسبة كما انها توفر السيولة في الاقتصاد .
وقد تطورت الرقابة الحكومية على الاسواق المالية ، واتسعت لتشمل الاشراف على تكوين مجلس الادارة في الشركات ، وعلى التقارير المالية ، ومعايير المحاسبة والتدقيق
وعلى جودة عمل المحاسبين وقدراتهم ، وعلى الرقابة على المعلومات الداخلية والسرية في التعامل والى غير ذلك ، ويعكس هذا مدى اهمية الاسواق المالية في الاقتصاد.
تعتبر الموجودات المالية من اسهم الشركات والسندات المالية التي تتداول فيها جزءاً من ثروة المستثمرين.
وتعتمد الموجودات الاقتصادية الحقيقية على مقدار انتاجية الاقتصاد للسلع والخدمات، وتتأتى هذه الانتاجية من التوظيفات للموجودات الحقيقية من اراض ومبان ومعدات ومعرفة وغيرها وذلك لانتاج السلع والخدمات وبطبيعة الحال يضاف الى ذلك العماله لان مهارة العاملين ضرورية لاستخدام هذه الموارد الاقتصادية.
ولذلك فان الاسواق المالية التي تتداول فيها الموجودات المالية تلعب دوراً هاماً في الاقتصاديات المتطورة والنامية على السواء لأنها تساعد على خلق موجودات اقتصادية حقيقية. وتعمل على قياس انتاجيتها وادائها.
خامساً:تدعيم الشفافية في الاقتصاد:
تحدد معايير محاسبة القيمة العادلة متطلبات ضرورية للإفصاح والعرض للمعلومات المالية، تماماً كما تضع متطلبات محددة للاعتراف والقياس للمعلومات المالية.
وتعتبر الشفافية عنصراً هاماً من عناصر الحاكمية المؤسسية كما تستجيب لحق الجمهور في الاطلاع والمعرفة عن المعلومات العامة.
إن البيانات المالية للوحدات الاقتصادية هي وسائل هامة لتوصيل المعلومات المالية إلى جميع أنحاء القطاعات الاقتصادية سواء لاغراض الاقتصاد الكلي أو الاقتصاد الجزئي . ويمكن دراسة ومعالجة عدد من الظواهر والمشاكل الاقتصادية من خلالها. ولذلك يجب أن تتضمن البيانات المالية معلومات كاملة ودقيقة يركن إليها وتقدم في أوقاتها.
ومن هنا فان الشفافية والاقتصاد متلازمان ، فبدون الشفافية يستشري الفساد والتلاعب وتمنع المساءلة ، وبدون الحصول على معلومات مناسبة لا يمكن دراسة اتجاهات الاقتصاد وإجراء الإصلاحات الاقتصادية ، ولذلك فان متطلبات الافصاح في محاسبة القيمة العادلة تلعب دوراً مهماً في دراسة الاقتصاد والوقوف على اتجاهاته.
خاتمة:
هنالك تأثير لمحاسبة القيمة العادلة على الاقتصاد ، واستقراره أو نموه ، لأنها محاسبة تعتمد على الحقائق الاقتصادية ، وليس على الفرضيات المحاسبية التقليدية، وقد ساهمت المحاسبة الجديدة في تقريب مفهوم القيمة من المنظور الاقتصادي مع مفهوم القيمة من المنظور المحاسبي.
ويستطيع الباحث لهذا الموضوع أن يتلمس الجوانب الاقتصادية التي كان لها مساس بمحاسبة القيمة العادلة ، وهي الحسابات القومية ، والاعتراف بالحقائق الاقتصادية وادارة المخاطر المالية ، وتعزيز وتعميق الأسواق المالية، وتدعيم الشفافية في الاقتصاد.
إن من سمات الاقتصاد الناجح انفتاحه في المعلومات وإشاعته للمعرفة ، لان الشفافية في المعلومات هي قوة لتطوير الاقتصاد ، وتحديد مواطن الوهن أو القوة فيه وحائل دون تفاقم الفساد ، ولا يمكن للمعرفة أن تتوفر إلا من خلال المعلومات المالية ، ولا يمكن للمعلومات المالية أن تكون ذات فائدة إلا إذا توفرت معايير محاسبية مناسبة لاعدادها، لتكون مكتملة ودقيقة .
ولا شك ان محاسبة القيمة العادلة تنهض من مستوى الابلاغ المالي من مجرد معلومات مالية تاريخية لا تغني ولا تسمن من جوع الى معلومات مالية حديثة تعكس الوقائع الاقتصادية وتستشرف المستقبل بدلاً من تسجيل الماضي.
ان هذا المستوى الرفيع من الابلاغ يتيح لمستخدمي البيانات المالية في المجتمع من اتخاذ قراراتهم الاستثمارية على هدى من معلومات موضوعية تستند الى الحقائق ، ويساعد هذا الامر على ان يحقق الابلاغ المالي العام اهدافه وهي تلبية حاجات ومتطلبات الاطياف العديدة في المجتمع بشكل عام والمشاركين في الاسواق المالية بشكل خاص