أخميم تحمل لواء الفخار والحرير
ما إن تغادر القاهرة بضجيجها المرعب, ودخانها الكثيف حتي ينساب الطريق بهدوء في خضرة وادي النيل إلي الجنوب, حيث مصر الأخري التي لا يعرفها الكثيرون في رحلة تحمل معني الصعود في كل شيء, هناك علي حافة الهدوء, وخارج جحيم الزحام, تقبع مدينة أخميم بمحافظة سوهاج500 كم جنوب القاهرة, وهي أشبه بمتحف مفتوح للحرف التقليدية والتراثية التي رافقت أبناءها عبر آلاف السنين بجوار النيل حيث تصافحك أنامل التراث والجمال في كل مكان, بالخير والخصب علي أرض مصر فقد فاضت مياه النيل بالرزق الوفير, وأيضا بالطمي الذي قام عليه أول وأرقي فن شعبي هو فن الفخار, الذي خصصت له أخميم منطقة كاملة تطل علي النيل هي الفواخرية.
هنا توجد واحدة من أهم محطات صناعة الفخار من الطين الرطب, ولا تفوق أخميم في هذا سوي قنا جارتها الجنوبية, لكن المنتجات الأخميمية تغلب عليها خامة الفخار الأحمر, والعجيب أن هذه المنتجات مازالت قادرة علي البقاء والصمود أمام جرافات العولمة وبعثرة الهوية, رغم ما يعانيه مبدعوها من الحرفيين من ظلم طبقي شديد بسبب تجاهل المؤسسات الرسمية, التي تهتم بالفنون الأكاديمية علي حساب الفنون التراثية والحرف التقليدية رغم أن الأخيرة هي عنوان الشعوب, وعنوان هويتها الثقافية.
والفخار الأحمر ليس وحده هو ما يميز أخميم, فهناك أيضا الفخار الأخضر الفاتح, والذي تضم متاحف العالم قطعا نادرة منه مصنوعة بأيدي أبناء أخميم وعليها زخارف مكونة من خطوط ودوائر وبقع ملونة بلون داكن, ورسوم هندسية جميلة.
وتمر صناعة الفخار بأخميم, عدة مراحل ـ كما قال لي محمود رفاعي الباحث في الفنون الشعبية ـ تبدأ من جمع الطين الرطب الذي تتم تقسيته ثم يحرق للتخلص من الماء بهدف تحويله إلي مادة شديدة الصلابة, بعدها تتم عمل عجينة من الطين ويتم تشكيل القطعة الغنية منها بعد استبعاد الشوائب والمواد الغريبة من الطين قبل العجن الذي يتم بالأقدام مع الماء ومادة عضوية لتقليل لزوجة الماء.
وفي القديم كانت الأواني الفخارية تشكل باليد, ثم استخدمت في فواخير أخميم عجلة الفخار التي يتم تشكيل الخامة فوقها علي شكل مخروطي.
ولايزال يلعب الفخار دورا مهما في حياة أبناء أخميم ومعظم الصعيد, إذ إن منتجاته من القلل والأزيار والجرار والطواجن والمردسيات والأبرمة تمثل أواني أساسية للشرب والطهو في حياة البشر منذ آلاف السنين, وربما لهذا يعد الفخار من أبرز الفنون التي تعبر عن روح الشعب وفنونه.
مانشيستر ما قبل التاريخ
وما إن تبتعد عن حضن النيل, وتمنح فواخير أخميم ـ آسفا ـ ظهرك حتي يطالعك هذا الشعار عند مدخلها الغربي أخميم مانشيستر ما قبل التاريخ, وفورا تعانق عينيك هذه الحقيقة الساطعة كشمس الجنوب, فإذا كان العالم الحديث وفي القلب منه الشقيقة سوريا يدينون بفضل كبير للإمبراطورة الصينية سي نيج شي بانتعاش صناعة الحرير الطبيعي في سوريا, واكتساب طريق الحرير ـ الذي كانت دمشق محوره ـ شهرة عالمية واسعة, حين وقعت منذ ثلاثة آلاف عام تقريبا شرنقة علي يدي الإمبراطورة الصينية حين كانت تستحم, فألقتها مذعورة في الماء الساخن, لتكتشف بعض لحظات خيطا زاهيا متصلا, فسارعت بلفة وأمرت بتربية ديدان القز ونسج حريرها وظل الصينيون يعتبرون صناعة الحرير سرهم الأعظم مئات السنين, وكان الإعدام مصير كل من يحاول تسريبه, حتي نجح رجلان في تهريب بعض الشرانق داخل عصا خيرزان لتنتشر في الشام ثم العالم كله, فإن نساجي أخميم قبل7 آلاف عام كانوا هم أساتذة العالم كله في صناعة الحرير والنسيج اليدوي, حيث لقنته بكرم وكبرياء فني أسرارها, وعلمته فنونه, وهو ما تؤكده الحفريات والقطع النادرة التي تحمل اسم أخميم منذ آلاف السنين وتضمها أشهر متاحف العالم في لندن وبرلين وباريس.
وتمضي بنا دروب أخميم المتعاشقة معا تعاشقات الخيوط علي النول, حيث تجولنا في آخر تجمعات صناعة الحرير الطبيعي والنسيج اليدوي والتي تضم بقعة تجمعات في غرب المدينة لأبناء أبادير وسدراك والشبوكشي وأبو جبل وتجمع وحيد في شرق أخميم لآل الخطيب, وهو التجمع الذي يواجهه معبد رمسيس الثاني وابنته الفاتنة ميريت آمون, وبعد أن كانت أخميم كلها تقريبا خلية نحل عامرة بالنساجين المهرة أصحاب الأصابع الذهبية الملفوفة في الحرير, صار الصناع الآن يعدون علي الأصابع بعد أن تركوا القار وهجروا المهنة إلي مهن أخري ذات عائد أسرع, لتصبح صناعة النسيج والحرير الطبيعي في أخميم أشبه بعلاقة حب من طرف واحد, فهي من ناحية تتمتع بشهرة عالمية, ويأتي لها العشاق من أمريكا وأوروبا واليابان خصيصا متكبدين مشقة السفر الطويل وعناء الترحال من أجل الحصول علي توقيع صنع في أخميم, ومن ناحية أخري عجزت الجهات المعنية عن الاستفادة بهذه الشهرة العالمية وتركت آلاف الأنوال تتوقف بسبب ضعف التسويق, وعدم قدرة السوق المحلي علي استيعاب المنتجات مرتفعة الأثمان نسبيا, وارتفاع أسعار خيوط الحرير الطبيعي والغزل والضرائب الجزافية وعدم وجود دعم للصادرات ونقص العمالة مما يهدد باندثار هذه الصناعة وهو ما اتفق عليه رأفت الخطيب وميرفت الشوبكشي وفرنسيس قلادة وكامل سدراك من صناع الحرير والنسيج اليدوي.
وتتعدد الأغراض النسجية من ملابس وأبسطة عبر تاريخ طويل للنسج الأخميمي ومن أشهرها كما يقول سمير بشاي بمركز النسجيات بحي الكوثر الكومزتات وهي أغطية أسرة ذات زخارف بارزة ووحدات هندسية علي شكل مربعات ومفارش السرير والسفرة والملايات وشيلان القساوسة وتكون باللونين الأسود والبنفسجي وفوط المطبخ والكوفيات الحرير والكرافتات والقمصان والتي تحظي بشهرة عالمية.
وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قامت محافظة سوهاج ومجلس مدينة أخميم بإنشاء مجمع متكامل للنساجين بكل أنواعهم في حي الكوثر, مدعم بالأنوال والخامات لكن عدم وجود سياسة تسويقية وندرة الحرفيين وعدم وضع سوهاج علي الخريطة السياحية والاعتماد علي الروتين الوظيفي في عملية الإنتاج واحتكار فئة من التجار لمصادر الخامات دون تدخل الجهات الرسمية أدي إلي عدم تحقيق المجمع لأهدافه, مما يهدد بأن تفقد أخميم شهرتها باعتبار أنها مانشيستر ما قبل التاريخ.
السرايرية و التللي
وما إن تترك وجه ميريت آمون الجميل, وتمضي مستقبلا منطقة السرايرية علي حافة الجهة الشرقية حتي تغوص قدماك في موجات لا تنتهي من سعف النخيل الذي تداعبه أنامل ماهرة ووجوه سمراء يحتمون بديارهم اللبنية سميكة الجدران والمسقوفة بجريد النخل اللدن وقد بسطوا أكلمة القماش والحصر أمام البيوت, وهم يغزلون الرضا مع منتجاتهم من السلال والمناضد والتحف الصغيرة وغيرها من منتجات الخوص وسعف النخيل والجريد الأخضر وأشهر المنتجات الأخميمية كما قال لي أحمد أبو الوفا أشهر حرفي في صناعة الخوص وجريد النخيل هي سلال الطعام, وأواني حفظ الخبز المشنات وكذلك الكراسي والمناضد التي تقبل عليها الفنادق والأندية كبديل رخيص وصحي للمقاعد الخشبية والجلدية.
ونمضي في رحلتنا بعيدا في الضواحي المحيطة بشرق مدينة أخميم حيث تتركز حرفة التللي في بعض المنازل والتي تشكل تجمعات أهلية صغيرة لاتزال تحمي هذا الفن الجميل من الاندثار, والتللي الأخميمي يتميز بتشكيلات وزخارف عريقة ومتميزة علي المشغولات والملبوسات التي تستخدم خامة التل إضافة إلي الخيوط المعدنية الذهبية أو الفضية غير القابلة للصدأ, ومعظم العاملات في هذا المجال من النساء واللاتي يستغرقن وقتا طويلا في زخرفة الطرح والعباءات وغيرها, وهي أشكال من الفنون التراثية المتوارتة والتي عبر عنها الغناء الشعبي في الأفراح حين قال:طلي علي الأحباب طلي يالايقة في الطرحة التللي.
ومع الأسف فإن خامات التللي من الأقمشة القطنية والخيوط المعدنية والإبر الخاصة المستعملة ـ كما تقول مسعدة محمد من صانعات التللي, يسيطر عليها تاجر واحد فقط في أخميم المدينة مما يجعله يتحكم في أسعارها.
تبقي الإشارة إلي أن مملكة الحرف التقليدية لا تقتصر علي مدينة أخميم بل تمتد بطول واتساع عالمنا العربي كله, وهي قادرة علي التكيف مع متغيرات العصر في أنماط جديدة بعد تغير وظائفها الفنية, لكن الخطورة أصبحت في غياب التوثيق الأمين للإبداع الحرفي وغياب قواعد المعلومات الدقيقة عن المشتغلين بكل حرفة وظروفهم المهنية والاقتصادية, والاجتماعية أو رصد علمي لمستوي الإنتاج في كل منها وما وصل إليه من متغيرات ومخاطر, وأصبح معظم هذه الحرف مهددة بالانقراض, وصار كل من يغيب عن الساحة من كبار الحرفيين بالوفاة أو العجز يظل مكانه شاغرا, بعد أن تذهب معه أسرار حرفته المتوارثة أبا عن جد, وترك أمر الحرفيين لاستغلال الوسطاء والسماسرة الذين لا يعنيهم سوي الربح السريع علي حساب الهوية الثقافية, كما ترك أمر تدريب موجات جديدة من الحرفيين لبعض محترفي اقتناص المنح الأجنبية ذات البرامج الورقية التي تستوفي الشكل وحده دون المضمون.
من هنا أصبحت علينا مسئولية ثقيلة في الحفاظ علي التراث الفني وحمايته وإيصاله سليما غير مشوه إلي الأجيال التالية*