آهات وصرخات ونداءات
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله مصرِّف الأمور ، ومقدِّر المقدور ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ [ غافر 19] ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وهو الغفور الشكور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنفع يوم النشور ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والنور ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، فازوا بشرف الصحبة وفضل القربى ، ومضاعفة الأجور ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الآصال والبكور .
نحن في زمن ضعفت فيه الهمم ، وقلت العزائم والشيم ، ضعف الوازع الديني عند المسلمين ، قل الخوف من الله ، نزعت الرهبة ، وزالت التقوى ، إلا بقايا ممن رحم الله وعصم ، وإلا فغالبية المسلمين أهمهم الفائز في برنامج ( استار أكاديمي ) ، ومن يحصد المليون دولار ، ومسلسلات هابطة تدعو للرذيلة ، وتُذهب الفضيلة ، ومباريات في أوقات الصلوات ، وهلم جرا ، تفريط في الواجبات ، وترك للمأمورات ، وارتكاب للمنهيات ، فاللهم رُحماك رُحماك ، ألا وإن المستقرئ لأوضاع الأمة ليأكله الندم ، وتقتله الحسرة ، على ما آلت إليه الأوضاع ، كثر الناصحون ، وزاد المشمرون ، يسعون للصلاح والإصلاح ، لانتشال الأمة من هيامها ، وانتزاعها من غرامها ، فلا تجد إلا أجساداً لا عقول لها ، و قلوباً عليها أقفالها ، بل ربما أبغضوا الناصحين ، وأضمروا لهم الشر المبين ، أخرج بن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ ، أَوْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً " .
والقابض على دينه اليوم كالقابض على جمرة ، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّه قال : قال رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ ، غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ، وَمَواقِعَ القَطْرِ ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن " .
فإذا كان هذا هو واقع الأمة فلا غرابة أن تأكلها دول الكفر ، وتستفرد بها دولة تلو الأخرى ، كما هو حاصلٌ اليوم ، عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم ، كما تَداعى الأكلةُ إِلى قصعتها " ، فقال قائل : ومن قلةٍ نحن يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غُثاء كغثاءِ السَّيل ، ولينزعنَّ الله من صدورِ عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهن " ، قال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : " حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت " [ أخرجه أبو داود وصححه الألباني ] .
نحن أمة المليار ونصف المليار ، يخبو ضوءنا ، وتموت نارنا ، ويسيطر علينا عدونا ، نحن خمس القارة الأرضية ، وتُهمل أحوالنا ، وتضيع حقوقنا ، لأننا غثاء كغثاء السيل ، كثيرون وقلوباً شتى ، ألهتنا المصالح الشخصية ، عن المصالح العامة ، فلا ريب أن ينهال علينا الغرب الكافر ضرباً ورفساً وركلاً .
فمتى ندرك أننا أمة مجاهدة في سبيل الله ، أمة جعلها الله خير الأمم ، لتكافح وتدافع عن دينها ومقدساتها وأهلها ، أم أننا ننتظر في طابور الموت ، متى تدك حصوننا أمريكا وأعوانها ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا } [ النساء71 ] ، وقال سبحانه : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [ النساء102 ] .
كانت تلكم مقدمة في صلب موضوع شائك ، ألا وهو معاملة الأسرى المسلمين في معتقلات القوات الأمريكية والبريطانية ، وما يُعاملون به من وحشية وتعذيب ، لانتزاع اعترافاتهم من أجل موضوعات رسموها ليس لها وجود على الخارطة الأرضية ، وإني لأتساءل كما يتساءل الملايين من الغيورين أين تلكم المنظمات والهيئات والأمم التي تدعي حفظ حقوق الإنسان ؟ .
فمنظمة حقوق الإنسان الدولية اليوم ، استمدت أحكامها من قوانين وضعية ، لا تمت لأي دين بصلة ، لا من قريب ولا من بعيد ، بل ليعلم الغافل والمداهن والجاهل ، والجبان والخائف والعاقل ، أن حقوق الإنسان الغربية المزعومة ، هي حقوق للكفار فقط ، أما المسلمون في كل أصقاع المعمورة فليس لهم حقوق إنسانية ، بل ليس لهم من يطالب بحقوقهم ، وإذا أردنا إيراد الأدلة ، فعليك بمجلد من النوع الكبير جداً ، لتسجل فيه انتهاكات الدول الكافرة لحقوق المسلمين ، وربما ينوء بحمله ، فتحتاج لمثله ، إن ما حصل للمسلمين في فلسطين منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً وهي ترزح تحت الاحتلال الصهيوني ، وحتى يومنا هذا لهو أعظم الأدلة على انتهاك القوم لحقوق الإنسان المفتراة ، فاليهود قاتلهم الله سجنوا كل من تطوله أيديهم من رجال ونساء وأطفال ، وفي سجونهم يلقى المسلمون من العذاب وشدة النكال ، ما لم يخطر على بال ، حتى أنهم استخدموا السجناء الفلسطينيين للتجارب الطبية بدل الجرذان والفئران ، فأين حقوق الإنسان ؟ .
ودعوني أتحدث عما يعرفه الناس ، وشاهدوه بأم أعينهم ، عبر الشاشات والصحف والمجلات ، ولكن طوته صفحات النسيان ، وهو في الذاكرة عالق في الأذهان ، تلكم المأساة التي حدثت في البوسنة والهرسك وراح ضحيتها آلاف المسلمين ، ما بين قتلى ، وجثث تدفن وترمى ، ونساء ثكلى ، وأطفال هلكى ، وأسر جوعى ، أحول تدمى لها القلوب المسلمة ، وتتفطر منها النفوس المؤمنة ، مقابر جماعية ، وإيذاء وأذية ، ووحشية وهمجية ، وأعمال إجرامية ، فهل ينسى تلكم الأحداث مسلم غيور على دينه ، غيور على محارمه ، كلا ، لا ينكر ذلك مسلم آمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً .
وهل نسي العالم بأسره ما حصل في كوسوفا ، لم يترك الصرب وسيلة وحشية تعذيبية إلا استخدموها ، تحت مرأى ومسمع من مجلس الأمن الدولي ، وهيئة الأمم المتحدة ، اغتصاب للمسلمات ، بقر لبطون الحوامل ، قتل للأب أمام أفراد أسرته ، انتهاك للأعراض أما أعين الآباء والأمهات ، أشلاء ممزقة ، دماء تراق ، رقاب تزال ، أركان تقطع ، وكما هو الحال بحكام الإسلام _ هداهم الله _ استنكار وشجب وتنديد ، لم يتجاوز طاولة الحوار ، ثم نجدهم يضربون بيد من حديد لمن ينكر عليهم هذا التخاذل ، ومن يحثهم لمواجهة الأعداء ، ومجابهة الألداء ، فيالها من فضيحة وعار ، وخزي وبوار .
ولا زالت موجة الحقد الصليبية تندفع بقوة ، وتنفث سمومها بشدة ، نحو دول الإسلام ، والأقليات المسلمة في العالم أجمع ، حتى شاهدنا ما حصل للمسلمين في أفغانستان ، وتبعهم الشيشان ، مآس تموت لها قلوب الصالحين ، وتتقرح لها أكباد المخلصين ، ولازال السكون والدعة هي سلاح الحكام _ أصلحهم الله _ الذين سيسألون عن خذلان إخوانهم المسلمين في كل مكان ، ولا يُقبل أي عذر في هذا التواني والتراخي الإسلامي الواضح ، الذي بسببه تعدى الكفار على شعائر الدين الإسلامي ، تعدياً سافراً ، وانتهاكاً صارخاً ، مزقوا كتاب الله تعالى ، وأحرقوه ، وأودعوه دورات المياه ، بل فعلوا أعظم من ذلك ، مزق الله ملكهم وملك من ساندهم ، أو سكت على فعلهم .
ثم تبع تلكم المهازل ، الاستهزاء بمن حاز أعظم المنازل ، الحبيب صلى الله عليه وسلم ، في رسوم مهينة ، وصور مشينة ، وتالله لو كانت لأحد الرؤساء لأقام الدنيا ولم يقعدها ، بل ربما أقام حرباً ضروساً ضد أصحابها ومصوريها ، وقطع العلاقات كلها ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من تقطع العلاقات لأجله ، وأجل من وقعت حرب لقدره ، ولكن كما تعودنا منهم _ أيدهم الله بالحق _ رعونة في القرارات ، وخضوع لأمريكا وحلفائها ، خوفاً وهلعاً ، ونسوا أن الله جل وعلا تكفل بنصرهم على عدوهم إذا نصروا ربهم ، وأقاموا شرعه في أرضه ، ولقد بُحت الحناجر ، وذهب صوتها ، وضعف رجاؤها ، وهي نُذَكِّر الناس بأن نصر الله قريب ، ثم لا تجد مجيباً ولا مستجيب ، قال الله تعالى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الأنفال26 ] ، وقال تعالى : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ آل عمران111 ] .
وبعد هذا التعدي الآثم ، والتصرف الغاشم ، ضد نبي الإنسانية ، ورسول البشرية _ عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام _ نهق أمريكي في إذاعته ، يصف تساقط الحجيج حول الجمرات بأنهم كالبهائم ، وما علم الخنزير الجنزير ، أنهم شهداء عند الله ربهم ، لأن من مات بالبطن فهو شهيد ، وقد ماتوا تحت الأقدام دهساً ، فتقبلهم الله في الشهداء ، وكل يُبعث على ما مات عليه ، فسوف يُبعثون يوم القيامة ملبين ، بإذن رب العالمين ، ولم نرى أي رد في أي وسيلة إعلامية مسلمة على ذلك النجس الرجس ، فاللهم أخرس لسانه ، واقطع أركانه ، ورد كيده في نحره يا مجيب الدعوات ، يا قاضي الحاجات .
وفي إيطاليا وأمريكا ابتدعوا طريقة يهينون بها المسلمين ، ويلقمونهم التراب ، ويستهزءون بنبيهم وحبيبهم _ صلى الله عليه وسلم _ في عمل قمصان تحمل صوراً يشوهون بها نبي الهدى والرحمة ، فأسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، أن يجعلها ثياباً من نار ، تكون من فوق رؤوسهم كالحميم ، يصهر بها ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، يا قوي يا شديد ، يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام .
ولا زال مسلسل إراقة الدماء المسلمة يتطاول ، والوجوم الرهيب من المسلمين يتواصل ، حتى أزهقت أنفس الأقليات المسلمة في كل مكان يُذكر فيه اسم الله تعالى ، في أمريكا وأوروبا وأسيا وإفريقيا ، بل وصل الأمر إلى سجن الدعاة والعلماء في بلاد الإسلام ، لا لشيء ، إلا لأنهم قالوا اتقوا الله ، ودافعوا عن إخوانكم ، وجاهدوا في سبيل ربكم ، ولكنه الركون إلى الدنيا ، والتمسك بالكراسي الخداعة ، والمناصب البراقة ، قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص83 ] ، فأي دين يدين به أولئك الناس ؟ وأي عدل ينشدونه ؟ وأي جنة يطمعون بها ؟ وهم يحاربون الله ، ويخذلون رسوله ، ويعادون أوليائه ، قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس62 ] ، وقال عز وجل : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة55 ] ، وقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران21 ] .