نبي المسلمين، ودين الإسلام، والحضارة الإسلامية
مدخل:
التقيته لأول مرة في مكتبة المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، حيث كنت ألازمها لأنجز بحثاً كان عليَّ إنجازه.
أما هو؛ فقد كان شاباً فرنسياً أوفدته حكومة بلاده إلى دمشق لدراسة اللغة العربية وإتقانها، فكان يمضي كثيراً من أوقاته في تلك المكتبة.
وتكررت لقاءاتي به.. وتنامت أحاديثنا مع الأيام.. حتى تأكدت أواصر المعرفة فيما بيننا.. وصار يثق بما أقول، وصرت أثق بما يقول.
وذات يوم؛ جاءني وأنا جالس أمام منضدتي في قاعة المكتبة أطالع بعض الكتب.. فسلَّم علي، وهمس لي – مراعياً الصمت المطبق في القاعة – قائلاً: محمد.
قلت: لبيك يا جورج.
قال: أود أن أفضي إليك بحديث.
قلت: هات ما عندك.
قال: ليس هنا مكان الحديث.
قلت: نخرج إلى البهو.
قال: حديثي يحتاج إلى أناة وتفكُّر.. فإما أن تزورني في بيتي، وإما أن أزورك في بيتك.
قلت: بل تزورني في بيتي مساء هذا اليوم، على الرُّحب والسَّعة، ويصير بيننا خبز وملح.
قال: حسناً؛ اتفقنا.
وجاءني جورج في المساء.. وبعدما نظفنا أيدينا من آثار الطعام، جلسَ وجلستُ، وبدأت الحديث فقلت: إيه يا جورج؛ ماذا عندك؟
فتروَّى قليلاً ثم قال: أنا على مفترق طرق، وعليَّ أن أختار منها واحداً أسلكه، والعقل لا يرضى لي أن أختار قبل أن أكون على بينة.
قلت: نِعمَ ما يشير به العقل عليك.
قال: أريد أن أعرف شيئاً عن نبيك، ودينك، وكتابك المقدس.
فقلت بلهجة جادة: تريد أن تعرف شيئاً عن نبي المسلمين، وعن الإسلام، وعن القرآن؟
قال: أجل.
قلت: خير لك أن تطالع بعض الكتب الموثوقة التي تتحدث عما تود معرفته، فتصل إلى ما تريد.
قال: الكتب بنات أصحابها، وأخشى إن دخلت حلبتها وأنا جاهل؛ أن أعتقد الخطأ صواباً والصواب خطأً.
قلت: لك ما تريد، وحياك الله، أتود أن أحدثك بما أعرف؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ هداك الله؟!
قال: لأنك مسلم؛ ولا بد لعاطفتك الدينية من أن تشوب كلامك، وأنا أريد حديثاً عقلانياً لا عاطفة فيه؛ على الطريقة الغربية.
قلت: لك ما تريد، إذاً أحدثك بما عند النخبة من علماء المسلمين.
قال: لا؛ فهؤلاء أيضاً يمكن أن تشوب كلامهم حماسة دينية قد تغطي عليَّ بعض ما أنشده من حديث العقل.
قلت: لك هذا أيضاً؛ إذاً أحدثك بما عند النخبة من الغربيين الذين دخلوا الإسلام وعرفوه وعرفوا نبيه حق المعرفة.
قال: لا؛ فهؤلاء أيضاً صاروا مسلمين، وصار يتوقع منهم ما يتوقع ممن أسلفتَ ذكرهم.
قلت: حسناً؛ إذاً أحدثك بما عند النخبة من علماء الغربيين الموصوفين بالحياد، الذين لم يدخلوا الإسلام لكنهم درسوا سيرة حياة نبي المسلمين، ودرسوا القرآن الكريم حق الدراسة؛ ثم خرجوا علينا بنتائج يرضى عنها العقل السليم، وتخلو من العاطفة والحماسة اللتين لا ترضاهما أنت.
قال: أصبتَ؛ مثل هذا أريد.
تعريف:
قلت: سل عما بدا لك.
قال: أريد أولاً أن أعرف من هو محمد الإنسان.
قلت: محمد الإنسان ليس موضع خلاف، وغير المسلمين يتفقون مع المسلمين على أنه بشر مثل غيره من بني البشر. يقول د. رالف لنتون في كتابه (شجرة الحضارة): «ولد محمد في مكة عام 570 م من عائلة ذات مركز حسن، ولكن أباه مات قبل ولادته، كما ماتت أمه عندما كان في السادسة من عمره.. وفي السنوات الأولى من سني المراهقة كان يعمل راعياً.. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره ذهب إلى سوريا مع عمٍّ له[1] - بقصد التجارة – وعندما أصبح في الرابعة والعشرين كان ينوب عن أرملة غنية – هي السيدة خديجة – في السفر بقافلتها التجارية، وبعد عام آخر؛ أي في عام /595/م تزوج تلك الأرملة التي كانت في الأربعين من عمرها، وكانت قد تزوجت قبل ذلك مرتين، ولها من زوجيها السابقين ولدان وبنت[2]. وولدت له هذه الأرملة ولدين ماتا عندما كانا طفلين، وأربع بنات. وفي السنوات الواقعة بين عامي /595-610/ م كان محمد تاجراً محترماً في مكة، وكان يلقب بالأمين نظراً لما اتصف به من صدق وحكمة في أحكامه»[3].
فقال جورج مقاطعاً: ومن يشهد على سلوكه هذا، غير د. رالف؟
قلت: يقول المستشرق (آرثر جيلمان) في كتابه (الشرق): «لقد اتفق المؤرخون على أن محمداً كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة؛ من صدق الحديث، والأمانة، والكرم، وحسن الشمائل، والتواضع.. وكان لا يشرب الأشربة المسكرة، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً»[4]. – ويقول المستشرق (كارل بروكلمان): «لم تشبْ محمداً شائبة من قريب أو بعيد؛ فعندما كان صبياً وشاباً عاش فوق مستوى الشبهات التي كان يعيشها أقرانه من بني جنسه وقومه»[5].
وأردفتُ: وانتهت فترة الشباب ذات الفورة والاندفاع، وكان محمد فيها مثالاً لرجاحة العقل،وسلامة الطبع وصدق اللسان بين قومه وعارفيه.
وتابعت قائلاً: ولما بلغ محمد سن الأربعين؛ أي عام /610م/، بدأ حياة جديدة.. فقد نزل عليه وحي الله، وأخبره أن الله سبحانه قد اختاره رسولاً نبياً للناس كافة، ينقل إليهم دين الله، الإسلام، حتى يطبقوه في حياتهم الدنيا، فينتفي به التظالم بين الناس.. ويموت الشر، ويحيا الخير.
قال جورج: ومن يشهد بهذا؟
قلت: يقول المستشرق الإنكليزي (بالمر) في مقدمته لترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية: «لقد جاء محمد بمبدأ للعالم عظيم، ودين لو أنصفت البشرية لاتخذته لها عقيدة ومنهاجاً تسير على ضوئه، وقد كان محمد عظيماً في أخلاقه، عظيماً في صفاته، عظيماً في دينه وشريعته».
وأردفتُ: وبدأتْ حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي غيرت وجه العالم والتاريخ.. وبدأ صراع مرير بين أنصار الدين الجديد وبين مناوئيهم من أصحاب المصالح الظالمة.
يقول د. رالف في كتابه السالف «اجتذب الوحي الذي نزل على محمد عدداً من الأتباع، وبدأ ينتشر بين الناس.. وحاولت جماعة قوية ممن كانوا يكرهون عائلة محمد، ورأوا في تعاليمه ما يهدد مصالحهم، حاولت أن تغتاله؛ ولكنها لم تنجح في محاولتها. وهاجر محمد والجماعة المخلصة القليلة من أتباعه إلى المدينة يوم /16 يوليه 622م/[6] وهو تاريخ هام يجب أن لا ننساه لأنه عام الهجرة الذي يؤرخ به جميع المسلمين حتى الآن»[7].
وهنا قال جورج: مهلاً؛ فأنا كما أشرتَ أنت؛ أتفق معك ولا أختلف؛ بدءاً من ولادة محمد حتى بعث في سن الأربعين. ولا أُنكر شيئاً من هذا الإيجاز لسيرته قبل البعثة. لكن منذ بدء البعثة، منذ صار محمد نبياً؛ يصبح الميدان واسعاً والخلاف عميقاً.
قلت: كيف؟
حقيقة نبي المسلمين ودحض الافتراءات والتهم الباطلة:
1- تهمة الكذب والشعوذة:
قال جورج: هناك من يتهم محمداً أنه كان كذاباً خداعاً مشعوذاً، لم ينزل عليه وحي من السماء، ولا كُلِّف برسالة من الله، وما هو بنبي.
قلت: لقد رد العلماء العقلاء من الغربيين على هذا:
- يقول الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) في كتابه (السفر إلى الشرق): «أترون أن محمداً كان صاحب خداع وتدليس، وصاحب باطل وكذب؟! كلا؛ بعدما وعينا تاريخه، ودرسنا حياته»[8].
ويقول (لامارتين) في كتابه هذا أيضاً: «إن محمداً فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول بحكم العقل.. وإن اللغز الذي حله محمد في دعوته فكشف فيها عن القيم الروحية، ثم قدمها لأمته ديناً سماوياً سرعان ما اعتنقته؛ هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر»[9].
- ويقول المستشرق الفرنسي (د. وايل) في كتابه (تاريخ الخلفاء): «إن محمداً يستحق كل إعجابنا وتقديرنا كمصلح عظيم، بل ويستحق أن يطلق عليه لقب (النبي)، ولا يُصغى إلى أقوال المغرضين وآراء المتعصبين، فإن محمداً عظيم في دينه وفي شخصيته، وكل من تحامل على محمد فقد جهله وغمطه حقه».
- ويقول (ديسون) في كتابه (الشرائع): «وليس يزعم أحد اليوم أن محمداً راح يزوِّر ديناً، وأنه كاذب في دعواه؛ إذا عرف محمداً ودرس سيرته، وأشرف على ما يتمتع به دينه من تشريعات تصلح أن تظل مع الزمن مهما طال، وكل من يكتب عن محمد ودينه ما لا يجوز فإنما هو من قلة التدبر وضعف الاطلاع»[10].
- ويقول الفيلسوف الإنكليزي (هربرت سبنسر) في كتابه (أصول الاجتماع): «لم يكن محمد إلا مثالاً للأمانة المجسمة، والصدق البريء، وما زال يدأب لحياة أمته ليله نهاره»[11].
- ويقول المستشرق البلجيكي القسيس (هنري لامنس) في كتابه (مهد الإسلام): «جاء محمد بقلب خالٍ من كل كذب، ومن كل ثقافة باطلة، ومن كل فخفخة فارغة، وأمسك بكلتا يديه العروة الوثقى»[12].
- ويقول المستشرق الألماني (كارل هينرش بكر) في كتابه (الشرقيون): «لقد أخطأ من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر، لأنه لم يفهم دينه السامي، إن محمداً جدير بالتقدير، ودينه حريٌّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمداً خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال»[13].
- ويقول (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال): «لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يصغي إلى ما يُظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خداع مزوِّر، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير.. فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة.. ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا ولا ألأم! وهل رأيتم معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره؟!.. كذبٌ والله ما يذيعه أولئك الكفار؛ وإن زخرفوه حتى خيلوه حقاً، وزور وباطل وإن زينوه حتى أوهموه صدقاً، ومحنة والله ومصاب أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأباطيل». إلى أن يقول: «لسنا نعد محمداً قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بُغيةٍ، أو يطمع إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول. كلا؛ ما محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع»[14].
- ويقول الفيلسوف الألماني (غوته): «لقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان؛ فوجدته في النبي محمد»[15].
وأردفت: أيكون المثل الأعلى للإنسان في مخيلة (غوته) رجلاً كذاباً مشعوذاً؟
قال جورج: لا.
قلت: ويقول المستشرق (رودلف دتوراك) في كتابه (حياة وشعر أبي فراس الحمداني): «ولا يجوز لنا أن نفند آراء محمد؛ بعد أن كانت آيات الصدق بادية عليها، فهو نبي حق، وأوْلى به أن يُتَّبع، ولا يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بسوء، لأنها مجموعة كمالات إلى الناس عامة»[16].
- ويقول الكاتب الفرنسي (إميل درمنغهم) في كتابه (حياة محمد): «الواقع أنه لم يبق أدنى شك في صدق محمد، فإن جميع حياته تدل على ذلك.. وكانت عظمة محمد الحقيقية هي العظمة الآتية له من الله بالإلهام الإلهي الذي كان يُقذف في روعه».
- ويقول المستشرق الكندي (جيبون) في كتابه (محمد في الشرق): «إن دين محمد خالٍ من الشكوك والظنون، والقرآن أكبر دليل على وحدانية الله.. ومن يتهم محمداً أو دينه، فإنما ذلك من سوء التدبير، أو بدافع العصبية، وخير ما في الإنسان أن يكون معتدلاً في آرائه، ومستقيماً في تصرفاته»[17].
- ويقول المستشرق الألماني (دي تريسي فريدريك) في كتابه (مقولات أرسطو طاليس): «إن من اتهم محمداً بالكذب؛ فليتهم نفسه بالوهن والبلادة وعدم الاطلاع على ما صدع به من حقائق».
- ويقول عالم اللاهوت السويسري (د. هانز كونج): «محمد نبي حقيقي بمعنى الكلمة، ولا يمكننا بعدُ إنكارُ أن محمداً هو المرشد القائد على طريق النجاة»[18].
- ويقول المستشرق (سينرستن) في كتابه (تاريخ حياة محمد): «إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات، وحميد المزايا.. لقد أصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ»[19].
وأردفت: أيكون كذاباً مشعوذاً من هو فوق عظماء التاريخ يا جورج؟
قال جورج: لا.
قلت: أزيدك يا جورج؟
قال جورج: حسبي؛ على أن هناك ذيلاً لتهمة الكذب والشعوذة التي روِّجت في الغرب عن محمد.
قلت: وما ذاك؟
2- تهمة التلفيق:
قال جورج: أحياناً يقول بعض المتهمين إن محمداً قد لفق التعاليم الإسلامية عن التعاليم اليهودية والنصرانية وغيرِها ثم ضمَّنها كتاب (القرآن) وطلع على الناس بدينه الجديد.
قلت: ومن أين يأتي محمد بالتعاليم اليهودية والنصرانية وغيرِها؟
قال: من التوراة والإنجيل وقد كان هذان الكتابان معروفين لمن يريد أن يقرأهما ويطلع عليهما.
قلت: وكيف يقرؤهما ويطلع عليهما وهو لا يعرف القراءة والكتابة، ولو عرفها لما خفي هذا على معاصريه.
قال: ومن يشهد بهذا من نخبة الغربيين؟
قلت: يقول المؤرخ الفرنسي الشهير (سيديو) في كتابه (تاريخ العرب العام): «كان محمد أمّياً كأبناء بلده، فكان لا يستطيع حتى القراءة»[20].
ويقول المستشرق الفرنسي (الكونت هنري دي كاستري) في كتابه (الإسلام – المسمى في الترجمة العربية: خواطر وسوانح): «كان محمد لا يقرأ ولا يكتب؛ بل كان كما وصف نفسه نبياً أمياً، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلوم بحيث لا يعلم الناس، لأن حياة الشرقيين ظاهرة للعيان.. ثبت إذاً مما تقدم؛ أن محمداً لم يقرأ كتاباً مقدساً، ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه»[21].
- ويقول المستشرق الإنكليزي (بالمر) في مقدمته لترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية: «وإنني لا أبالغ إذا قلت: إن شريعة محمد تحمل إلى الناس تعاليم ونظماً وقوانين ليست في غيرها مما سبق عليها».
قال جورج: إذاً بماذا تفسر احتواء القرآن على بعض التعاليم اليهودية والنصرانية، ودفاعه عن هاتين الديانتين في مواطن كثيرة كما يقول بعض المتهِمين؟
قلت: على رسلك يا جورج؛ تود أن تعرف سر هذا؟
قال: أجل.
قلت: أتدري يا جورج ما الدين الذي جاء به نبي المسلمين؟
قال: هو الإسلام.
قلت: أتدري ما الإسلام؟
قال: هو دين محمد.
قلت: لكن محمداً نبي المسلمين لا يقول هذا.
قال: ماذا يقول إذاً؟
قلت: يقول: إن الإسلام هو دين الله؛ الذي جاء به جميع الأنبياء قبل محمد؛ بمن فيهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، تقول الآية الكريمة:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[22] .
قال: وما معنى هذا؟
قلت: معناه أن نبي المسلمين لم يأت بدين جديد، وأن ما جاء به لا يتناقض أبداً مع ما جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى؛ بل هو يدعمه ويشهد له. وإن الإله الذي عبده محمد ودعا الناس إلى عبادته؛ هو الإله ذاته الذي عبده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ودعوا الناس إلى عبادته، ولهذا تجد في القرآن الكريم ذِكراً طيباً لجميع أنبياء الله منذ آدم وحتى محمد بن عبد الله عليهم السلام، وتجد فيه إشارات لبعض ما جاؤوا به، وبخاصة أساس دعوة دين الله على مر العصور والأزمان؛ وهو التوحيد: أن لا إله في السموات والأرض إلا الله سبحانه، وعلى هذا اتفقت دعوة جميع الأنبياء والرسل.
- وفي هذا يقول الكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم): «أما الوحي القرآني الذي نزل عقب ستة قرون من المسيح، فقد احتفظ بالعديد من تعاليم التوراة والإنجيل اللذين أكثر من ذكرهما، بل وفرض على كل مسلم الإيمان بالكتب السابقة (سورة 4 آية 136) كما أبرز المكانة المهمة التي شغلها في تاريخ الوحي رسل الله – كنوح وإبراهيم وموسى؛ وعيسى الذي كان له من بينهم مقام مرموق؛ وقد أظهر القرآن ولادته – كما في الإنجيل – كحدث معجز، كما كرم والدته مريم تكريماً خاصاً وأطلق اسمها على السورة رقم /19/. ولا مفر من الاعتراف بأن هذه التعاليم الإسلامية مجهولة على العموم في بلادنا الغربية، وقد يعجب البعض من هذا! ولكن سرعان ما يزول ذلك إذا ذكرنا الطريقة التي لُقن بها العديد من الأجيال – الغربية – قضايا الإنسانية الدينية، والجهالة التي تُركوا فيها تجاه كل ما يخص الإسلام..»[23].
- وفي هذا يقول العالم اليوغوسلافي (د. ويلسون) في محاضرة له: «إننا إذا لم نعتبر محمداً نبياً، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه مرسل من الله، ذلك أنه ليس هناك غيره قد راح يفسر النصرانية الأولى تفسيراً رائعاً صادقاً، وإن دينه الذي جاء به لا يعارض الديانة النصرانية، وكل ما جاء به حسن»[24].
- ويقول (كارل ماركس) في كتابه (الحياة): «إن الرجل العربي الذي أدرك خطايا النصرانية واليهودية، وقام بمهمة لا تخلو من الخطر بين أقوام مشركين يعبدون الأصنام؛ يدعوهم إلى التوحيد، ويزرع فيهم أبدية الروح، ليس من حقه أن يُعدَّ بين صفوف رجال التاريخ العظام فقط، بل جدير بنا أن نعترف بنبوته، وأنه رسول السماء إلى الأرض».
- ويقول د. رالف لنتون في كتابه (شجرة الحضارة): «وبكل تأكيد كانت تعاليم محمد أكثر صراحة وفهماً مما كان عليه الحال في الديانة الزرادشتية أو الديانة النصرانية وهما الديانتان اللتان كانتا تنافسان الإسلام منذ نشأته»[25].
- بل إن عالم اللاهوت السويسري (د. هانز كنج) يعلن قائلاً: «إن النبي محمداً نبي مرسل، ويحمل الهدى للبشرية جمعاء، وإنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وإن الإنجيل بشَّر به قبل التحريف، وإن القساوسة هم أول من يُقبلون على الإسلام ويعتقدونه إذا ما صدقوا»[26].
قال جورج: إذا كان الأمر كما تقول وأن الأنبياء قبل محمد قد جاؤوا بالإسلام دين الله، فما الحاجة إلى بعثة محمد؟
قلت: ذلك لأن الناس حرفوا الدين الذي جاء به الأنبياء وخرجوا به عن التوحيد الخالص إلى الشرك، فالعرب أتباع ملة إبراهيم حرفوا ما جاء به إبراهيم وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام ويشركونها مع الله سبحانه، واليهودية والنصرانية حُرِّفتا ودخل عليهما من الطقوس والعبادات والعقائد ما لم يأت به موسى ولا عيسى عليهما السلام. فكان لا بد من بعثة نبي يجدد دعوة الأنبياء قبله ويعيدها إلى مسارها الصحيح في الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه؛ الوحدانية النقية الخالصة من كل شرك. ولهذا بُعث نبي المسلمين خاتم الأنبياء.
قال: ومن يشهد لما تقول؛ من النخبة الذين تحدثني عنهم؟
قلت: يقول المفكران (هنري توماس و دانلي توماس) في كتابهما (القادة الدينيون): «في القرن السابع – الميلادي – حين بدا على الدنيا أنها قد أصيبت بالجفاف، وحين فقدت اليهودية مولدها، واختلطت النصرانية بموروثات الأمم الرومانية والبربرية؛ ينبع في الشرق فجأة ينبوع صاف من الإيمان ارتوى منه نصف العالم»[27].
- ويقول الباحث الأمريكي الكبير (د. مايكل هارت) في كتابه (المئة الأوائل): «ولسوء الحظ إن الأناجيل يناقض بعضها بعضاً أحياناً في نقاط متعددة»[28].
- أما الفيلسوف الفرنسي الشهير (فولتير) فيقول مخاطباً بني قومه: «لقد قام النبي بأعظم دور يمكن لإنسان أن يقوم به على الأرض.. إن أقل ما يقال عنه أنه قد جاء بكتاب، وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم؛ فقد غيرتم دينكم عشرين مرة»[29].
- ويقول الفيلسوف الإنكليزي (برنارد شو): «لقد أقام محمد فوق اليهودية والنصرانية ودين بلاده القديم؛ ديناً سهلاً واضحاً قوياً، وصرحاً خلقياً قوامه البسالة والعزة القومية»[30].
- ويقول المؤرخ الشهير (ول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة): «وترى اليهودية والنصرانية والإسلام أن أهم ما يحتاج إليه المجتمع السليم هو الإيمان بان هذا الكون خاضع لحكم أخلاقي مسيطر على شؤونه.. غير أن المسيحية قد أضافت إلى هذه العقيدة أن الله الواحد يظهر في ثلاثة أقانيم مختلفة، أما اليهودية والإسلام فتريان أن هذا الاعتقاد ليس إلا شِركاً مقنعاً، وتعلنان وحدانية الله بأقوى الألفاظ وأشدها حماسة. وفي القرآن سورة خصصت كلها لهذا الغرض هي السورة /112/»[31].
- ويقول المستشرق الأمريكي البحاثة (سنكس) في كتابه (ديانة العرب): «إن محمداً عليه السلام لم يأت لمكافحة التوراة والإنجيل، بل إنه كان يقول: إن هذين قد أنزلا من السماء لهداية الناس إلى الحق مثل القرآن، وإن تعاليم القرآن جاءت مصدقة لهما، ولكنه لم يأخذ منهما.. وقد رفض محمد نبي الإسلام جميع الرموز والأساطير، ودعا إلى عبادة إله واحد قادر رحمان رحيم كما يصفه القرآن في كل سورة من سوره»[32].
- ويقول العلامة الفرنسي (لوزون) أستاذ علم الكيمياء والفلك، في كتابه (الله في السماء): «وليس محمد نبي العرب وحدهم؛ بل هو أفضل نبي قال بوحدانية الله، وإن دين موسى وإن كان من الأديان التي أساسها الوحدانية إلا أنه كان قومياً محضاً وخاصاً ببني إسرائيل، أما محمد فقد نشر دينه بقاعدتيه الأساسيتين: وهما الوحدانية والبعث، وقد أعلنه لعموم البشر في أنحاء المسكونة، وإنه لعمل عظيم يتعلق بالإنسان جملة وتفصيلاً عند من يدرك معنى رسالة محمد».
- ويقول العلامة الفرنسي الكبير (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب): «وللإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم»[33].
- ويقول المؤرخ الإسباني المستشرق (د. ريتين) في كتابه (تاريخ سوريا ولبنان): «دين محمد قد أكَّد إذاً من الساعة الأولى لظهوره، وفي حياة النبي، أنه عامٌّ. فإذا كان صالحاً لكل جنس؛ كان صالحاً بالضرورة لكل عقل، ولكل درجة من درجات الحرارة».
- ويقول المفكر (أتيين دينيه) في كتابه (محمد رسول الله): «لقد دعا عيسى إلى المساواة والأخوة، أما محمد فقد وفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته»[34].
- وتقول المستشرقة والأستاذة الجامعية (د. لورافيشيا فاغليري) في كتابها (دفاع عن الإسلام): «دعا الرسول العربي عبدة الأوثان وأتباع نصرانيةٍ ويهوديةٍ محرَّفتين، إلى أصفى عقيدة توحيدية.. إذ كان واثقاً من أن كل عاقل لا بد أن يؤمن آخر الأمر بالإله الواحد، الواجب الوجود»[35].
وتقول: «هناك من يقول: إن الإسلام لم يقدم أيما عنصر جديد لتصوير العلاقة بين الإنسان والله. ولكن أية قيمة لمثل هذا النقد إذا عرفنا أن محمداً نفسه لم يزعم أنه جاء بأفكار جديدة، ولكنه أعلن في جلاء أن الله أرسله ليعيد ملَّة إبراهيم – التي حُرِّفت من بعده – إلى أصلها، وليؤكد ما كان الله قد أوحى به إلى انبيائه السابقين مثل موسى ويسوع المسيح؟ لقد كان هو آخر الأنبياء حملة التشريع؛ ليس غير»[36].
وتقول: «وبفضل الإسلام هُزمتْ الوثنية في مختلف أشكالها.. لقد أدرك الإنسان آخر الأمر مكانته الرفيعة.. لقد هوى الكهان وحفظة الألغاز المقدسة الزائفون، وسماسرة الخلاص، وجميع أولئك الذين تظاهروا بأنهم وسطاء بين الله والإنسان، والذين اعتقدوا بالتالي أن سلطتهم فوق إرادات الآخرين. نقول لقد هوى هؤلاء كلهم عن عروشهم. إن الإنسان أمسى عبداً لله وحده.. وأعلن الإسلام المساواة بين البشر»[37].
ثم تقول: «إن أول واجبات الإنسان أن يتدبر ظواهر الطبيعة، وأن يتأمل فيها لكي ينتهي إلى الإيقان بوجود الله. وانطلاقاً من هذا المبدأ الرئيس ينشأ الإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة، وللإسلام في كتابه المنزل شيء أعجوبي؛ إن معجزة الإسلام العظمى هي القرآن.. وقد أثبت أنه ممتنع على التقليد والمحاكاة حتى في مادته.. ولا يزال لدينا برهان آخر على مصدر القرآن الإلهي، في الحقيقة التالية: وهي أن نصه ظل صافياً غير محرف طوال القرون التي تراخت ما بين تنـزيله ويوم الناس هذا»[38].
ثم تقول: «ليس من شروط صلاة المسلم أن تؤدى في معبد، لأن أيما مكان في الأرض، شرط أن يكون نظيفاً، هو قريب إلى الله، وبالتالي ملائم للصلاة، وليس المسلم في حاجة لا إلى الكهان، ولا إلى القرابين، ولا إلى الطقوس لكي يسمو بقلبه إلى خالقه. والشرط الوحيد الذي ينبغي توفره في الصلاة لكي تكون مقبولة هو طهارة الجسد والنفس والثياب والمكان»[39].
- ويقول المفكر والفيلسوف الفرنسي (ديكارت) في كتابه (مقالة الطريقة – ترجمة جميل صليبا): «نحن والمسلمون في هذه الحياة، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب، لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان».
- ويقول المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) في كتابه (تاريخ القرآن): «نزل القرآن على نبي المسلمين، بل نبي العالم؛ لأنه جاء بدين إلى العالم عظيم، وبشريعة كلها آداب وتعاليم، وحري بنا أن ننصف محمداً في الحديث عنه؛ لأننا لم نقرأ عنه إلا كل صفات الكمال، فكان جديراً بالتكريم»[40].
- ويقول المستشرق الفرنسي (إدوار مونته) في كتابه (حاضر الإسلام ومستقبله): «إن الانقياد لإرادة الله يتجلى في محمد والقرآن، بقوة لا تعرفها النصرانية».
- أما (توماس كارليل) فيقول في كتابه (الأبطال): «وقد زعم (براديه) وأمثاله أن القرآن طائفة من الأخاديع والتزاويق لفقها محمد لتكون أعذاراً له عما كان يرتكب ويقترف، وذرائع لبلوغ مطامعه وغاياته، ولكنه قد آن لنا أن نرفض جميع هذه الأقوال، فإني لأمقت كل من يرمي محمداً بمثل هذه الأكاذيب، وما كان ذو نظر صادق ليرى قط في القرآن مثل ذلك الرأي الباطل»[41].
وهنا قال جورج: ليتني أعرف عالماً ذا نظر صادق على حد قول كارليل ليخبرني الخبر اليقين عن القرآن.
قلت: على رسلك؛ فحاجتك مقضية.
قال: كيف؟
قلت:
- يخبرك بهذا العلامة (شيريل) عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا، إذ قال في مؤتمر الحقوق سنة /1927/: «إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها؛ إذ أنه برغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة»[42].
- ويقول الأب (د. ميشيل لولونج) عندما سئل عن القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال: «لا بد من احترام القرآن، واحترام الرسول، لا بد أن أفهم ماذا يقول الله لي في القرآن، وما يقول الرسول، وأنا أعتقد أن القرآن من عند الله، وأن محمداً مرسل من الله»[43].
- ويقول المستشرق النرويجي (د. أينربرج) – وهو من مترجمي القرآن الكريم – عندما سئل أيضاً عن القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم: «لا شك في أن القرآن من الله، ولا أشك في ثبوت رسالة محمد.. وإني عندما ترجمت القرآن الكريم كنت أشعر أن الله ساعدني على ذلك»[44].
وأردفت: أيكفي هذا أم أزيدك يا جورج؟
قال: حسبي.
قلت: بل لأزيدنك واحدة تزيد على ما سبق؛ أترى رجلاً كذاباً مشعوذاً ملفقاً؛ يعلن للناس جميعاً أنه أعجز من أن يستطيع نفع نفسه أو الإضرار بها! وبالتالي فهو أعجز من أن يستطيع نفع غيره أو الإضرار به، ثم يعلن للناس جميعاً أنه بشر مثل غيره من بني البشر لا يعلم الغيب.. وأن ذلك كله مرده إلى الله سبحانه؛ مردداً الأمر الإلهي الذي أوحي إليه في القرآن الكريم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[45] . أترى هذا كلام مشعوذ ملفق؟
قال جورج: لا.
قلت: ولهذا قال المؤرخ الشهير (وِل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة): «ولم يدَّع النبي في يوم من الأيام أنه قادر على معرفة الغيب»[46].
وقبل ديورانت قال الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) في كتابه (السفر إلى الشرق): «لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق»[47].
3- تهمة المرض:
قال جورج: لكن إن أنا آمنت بعد كل ما سمعت منك؛ أن محمداً لم يكن كذاباً ولا مشعوذاً ولا ملفقاً، فهناك من يتهمه بأنه كان مريضاً[48].
قلت: ألا ترى بعد كل شهادات النخبة التي أسلفتها لك؛ أن تهمة المرض هذه تهمة باطلة؟
فتروَّى جورج قليلاً ثم قال: أجل.
- قلت: ومع هذا فلآتينك بشهادة جديدة على بطلانها؛ يقول المؤرخان المدققان (غودفرواميين - و - بلانونوف) في كتابهما (تاريخ العالم): «غاية ما نقدر أن نجزم به هو تبرئة محمد من الكذب والمرض، إنما كان محمد رجلاً ذا مواهب إلهية عليا؛ ساد بها أبناء عصره؛ وهي رباطة الجأش، وطهارة القلب، وجاذبية الشمائل، ونفوذ الكلمة. وكان عابداً عظيماً»[49].
- وتزكي هذه الشهادة شهادة أخرى للمؤرخ الشهير (فنلي) إذ قال: «إن نجاح محمد كمتشرع بين أقدم الأمم الآسيوية، وثبات نُظُمه مدى أجيال طويلة في كل نواحي الهيكل الاجتماعي؛ دليل على أن هذا الرجل الخارق قد كوَّنه مزيج نادر من أكبر العبقريات»[50].
- وتزكي هاتين الشهادة شهادة ثالثة للمؤرخ والأستاذ الجامعي (ألين نيكوسين) في كتابه (سيرة غير معروفة للنبي محمد) إذ يقول: «لم يحمل التاريخ لنا حتى اليوم، وربما بعد اليوم؛ عقلية فذة استطاعت أن تغير المفاهيم السياسية في العالم؛ بقدر ما حظيت به عقلية رسول الإسلام». أتكون هذه العقلية عقلية رجل مريض يا جورج؟.
قال جورج: لا؛ وأود أن أنتقل إلى تهمة أكبر من تهمة المرض، بل لعلها تناقضها.
قلت: وما هي؟
4- تهمة الشهوانية:
قال: هناك من يتهم محمداً نبي المسلمين بأنه كان رجلاً شهوانياً مغرماً بالنساء، وأنه تزوج نساءً عدة، وأنه اجتمع عنده منهن تسع زوجات.
قلت: على رسلك يا جورج؛ أتعرف قصة زيجاته؟
قال: لا.
قلت: سأحدثك عنها، وسأروي لك أولاً نصاً لباحثة غربية تحدثت عن هذا الموضوع بشيءٍ من التفصيل من وجهة نظر غربية معتدلة. ثم سأحدثك بإيجاز عن الواقع التاريخي لهذه الزيجات كما ورد في المصادر الصحيحة.
قال: حسناً؛ هات ما عندك.
قلت: تقول البريطانية الباحثة في الأديان (كارين أرمسترونج) في كتابها (سيرة النبي محمد): «لقد أثار موضوع زوجات النبي تأملات كثيرة في الغرب، تتسم بالبذاءة والصفاقة، وبكثير من مشاعر الحسد التي فشل الكتَّاب في إخفائها؛ على نحو ما رأينا في الفصل الأول الذي بينتُ فيه أن محمداً كثيراً ما اتهم بالميل إلى الشهوة الجسدية. وقد فرض القرآن فيما بعد ألا يزيد عدد زوجات المسلم على أربع، ولو أن محمداً قد سُمح له باعتباره نبياً بأكثر من ذلك. والواقع أن الاقتصار على زوجةواحدة لم يكن يعتبر من الأعراف المستحبة في بلاد العرب إلا من جانب قلة لا تذكر، وبعد سنوات كثيرة عندما أصبح محمد من سادة العرب العظماء، كانت زوجاته الكثيرات من دلالة منزلته الرفيعة.
ويغلب أن يكون تعدد الزوجات هو العرف السائد في المجتمع القبلي، ولا يجد الكتاب المقدس – أي التوراة – غضاضة على الإطلاق في الحديث عن الإنجازات الجنسية للملك داود، أو الزوجات اللائي لا يحصى عددهن للملك سليمان، ويعتبر عدد زوجات النبي محمد، بالقياس إلى زوجاتهما، ضئيلاً إلى درجة كبيرة. والواقع أنهما كانا يعيشان، مثل النبي محمد، في مجتمع يمر بفترة انتقالية من الحياة القبلية إلى حياة المدينة، ولكن يخطئ من يظن أن محمداً كان ينعم بالملاذ في حديقة من المتع الدنيوية، بل إن كثرة زوجاته كانت أحياناً، على نحو ما سوف نرى، نعمة ونقمة معاً..»[51].
وأردفتُ: هذا ما قالته الباحثة البريطانية، جزاها الله عن المسلمين خيراً، فقد حاولت رد التهم الباطلة عن نبي المسلمين ما استطاعت.
أما الواقع التاريخي لزيجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنستطيع أن نُلمَّ به من تتبع السيرة النبوية في مصادرها الموثوقة.[52]
فماذا نجد في تلك المصادر؟
في ذروة مرحلة الشباب المتأجج المضطرم بالشهوة الجنسية العارمة؛ في سن الخامسة والعشرين؛ يتزوج محمد من امرأة في سن الأربعين – أي كان من الممكن أن تكون في سن أمه لو تزوجت وهي في سن الخامسة عشرة – ولم تكن امرأة بكراً كما يطمح الشباب في بيئته؛ بل كانت سبق لها أن تزوجت قبله مرتين؛ كما أسلفت لك.
أهذا يدل على شهوانية يا جورج؟
قال: لا.
قلت: وعاش محمد معها، وأنجبت له بنين وبنات.. حتى بلغ هو سن الخمسين، وبلغت هي سن الخامسة والستين، أي أنه عاش معها حياة زوجية هانئة طيلة خمس وعشرين سنة، أي قضى معها مرحلة شبابه كلها، وكان في أثناء ذلك مثال الزوج المخلص الوفي القانع.
وفي هذه السن توفيت فصار من حق محمد أن يبحث عن زوجة جديدة، ولو لم تُتَوَفَّ لما بحث عن غيرها، مع أنها صارت عجوزاً بعرف بيئته.
وبعد سن الخمسين يا جورج؛ لا تكون الشهوانية مطمع الرجل؛ حتى إن كان قبلها شهوانياً، فما بالك بمن لم يكن كذلك كما بينت لك.
وبين الخمسين والستين حصلت زيجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ التي اتهمه بعض الجهلاء لأجلها بالشهوانية.
قال جورج: لماذا تقول بعض الجهلاء؟
قلت: لأنهم لو لم يكونوا جهلاء لقرؤوا في السيرة النبوية عن أحوال هؤلاء النسوة اللواتي لم يكنَّ من غرض الرجل الشهواني.
قال: لِمَ؟
قلت: لأنه لم تكن منهن فتاة بكر سوى عائشة، أما سائرهن فقد كنَّ ثيبات سبق لهن أن تزوجن بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تخطين ميعة الصبا. أما السيدة عائشة فقد كانت سنها عندما تزوج بها تسع سنوات فقط، أي أنها كانت صغيرة ولم تظهر منها بعد المفاتن التي يصبو إليها الشهواني. وهو لم يتزوجها إلا تكريماً لأبيها أبي بكر الصديق أقرب أصحابه إليه.
قال جورج بعد أن تروَّى قليلاً: إن في هذا الكلام مَقنع؛ لكن إن أنا آمنت معك بأن زيجات محمد لم تكن عن شهوانية؛ فبماذا تفسرها لي؟
قلت: لو قرأتَ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مصادرها الصحيحة التي سبق أن أشرت إليها، لوجدت أنه عندما تزوج بعد سن الخمسين لم يأت إلى داره بمجموعة من ملكات الجمال الغانيات اللواتي تصبو إليهن نفوس أصحاب الشهوات.. إنما جاء إلى داره بمجموعة من الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن لأسباب مختلفة[53]، ثم لم يتقدم إليهن الكفء الذي يعولهن ويصلح حالهن. فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صار يضمهن إلى داره عن طريق الزواج صوناً لهن، تلك الدار التي كانت تمر عليها أيام وليس فيها ما يكفي للنفقة عليهن! فأين هنَّ من التنعم الدنيوي فيها. ولقد جاء يوم اجتمعن فيه وعزمن على تقديم الاحتجاج لزوجهن مطالبات بالنفقة التي تكفيهن! ومن أين يأتيهن بما يكفيهن؟ إذا كان هو ذاته يلجأ أحياناً إلى ربط حجر على بطنه عندما ينزل به الجوع!
وهنا استبق جورج الكلام وقال: وكيف تصرف محمد في هذا الموقف؟
قلت: لقد تفكر في الأمر قرابة شهر، وهو ينتظر أن يوحي إليه الله سبحانه بما يفرج كربه. وفي نهاية ذلك الشهر نزلت الآيات القرآنية تقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}[54].
لقد أمره الله سبحانه أن يخير أزواجه بين الطلاق الذي يحصلن فيه على كافة حقوق المطلقات، فيما إذا كن يفضلن متاع الدنيا وزينتها، وبين البقاء معه طلباً للفوز بالدار الآخرة وما أعد الله سبحانه فيها للمحسنات من ثواب.
قال جورج: وماذا اختارت نساء محمد؟
قلت: لقد اخترن البقاء مع زوجهن والفوز بثواب الآخرة، ورفضن الدنيا وزينتها.
قال جورج وقد أشرق وجهه: ما دار محمد هذه بدار رجل من أصحاب الشهوات، وما نساء هذا الرجل اللواتي اخترن الآخرة على الدنيا إلا قديسات!.
قلت: أتود أن تقرأ وصفاً لنبي المسلمين في داره هذه يا جورج.
قال: حبذا؛ على أن يكون هذا الوصف بقلم أحد النخبة من علماء الغرب الذين عرفوه ودرسوه.
قلت: لك هذا؛ يقول (وِل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة): «كانت حياة النبي غاية في البساطة، فقد كانت المساكن التي أقام بها واحداً بعد واحد؛ كلها من اللبِن، لا يزيد اتساعها على /12-14/ قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على /8/ أقدام، سقفها من جريد النخل، وأبوابها ستائر من شعر المعز أو وبر الإبل، أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تفرش على الأرض ووسادة. وكثيراً ما كان يشاهَد وهو يخصف نعليه، ويرقع ثوبه، وينفخ النار، ويكنس أرض الدار، ويحلب عنزة البيت في فِنائه، ويبتاع الطعام من السوق.. ولم يتعاط الخمر.. وكان لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين.. وكان يرفض أن يوجَّه إليه شيء من التعظيم الخاص، يَقبل دعوة العبد الرقيق إلى الطعام، ولا يطلب إلى عبد أن يقوم له بعمل يجد لديه من الوقت والقوة ما يمكنانه من القيام به بنفسه.. أما ما كان ينفقه على نفسه فكان أقلَّ من القليل، وكان يخص الصدقات بالجزء الأكبر مما يرد إليه من المال..»[55].
وأزيدك قول المستشرق (بودلي) يصف حياة نبي المسلمين فيقول: «كانت حياة محمد بسيطة كحياة السيد المسيح، فكان طعامه الثريد والتمر واللبن، وكان يتناول أحياناً حساء ضأن وخُضر، وربما شرب بعض العسل، وكان غالباً ما يقتصر على التمر واللبن، وأياً كان الطعام فقد كان يتناوله على حصير فوق الأرض، وكانت ثيابه بسيطة كطعامه؛ فكان يرتدي فوق جسمه مباشرة قميصاً له أكمام من الصوف الخشن والقطن، وفوقه بردة، وكان باستطاعته لو أراد؛ أن تساق له الدنيا بأجمعها، ولكنه كان يكتفي من كل شيء بالكفاف، وقد صغُرت في عينيه الحياة؛ لأنه كان أكبر من كل ما في الحياة! هذه البساطة لا تحتاج إلى أدنى دليل على أن صاحبها ليس إلا من عند الله»[56].
- وأزيدك قول المستشرق (سييل) في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم عن نبي المسلمين: «كانت طريقته مرْضيَّة، وكان الإحسان إلى المساكين شيمته، وكان يعامل الجميع بالخلق الحسن، وكان شجاعاً مع الأعداء، وكان يعظم اسم الله تعظيماً قوياً، وكان يشدد على المفترين – الذين يرمون البرآء – والزناة والقتلة وأهل الفضول والطامعين وشهود الزور تشديداً بليغاً، وكان كثير الوعظ في الصبر والود والبر والإحسان، وتعظيم الأبوين والكبار وتوقيرهم وتكريمهم، وكان عابداً..»[57].
- وأزيدك قول المؤلف الاسكتلندي المشهور (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال) ملخصاً كل ما سبق عن تهمة الشهوانية: «وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً، وشدَّ ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً لا همَّ له إلا قضاء مآربه من الملاذ. كلا؛ فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيةً كانت، لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله. وكان طعامه عادة الخبز والماء، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار.. وكان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد هذا مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الله، قائم النهار ساهر الليل، دائب في نشر دين الله، غير طامع إلى ما يطمع إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، غير متطلع إلى ذِكْر أو شهرة كيفما كانت، رجل عظيم وربكم»[58]. إلى أن يقول: « إني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعوِّل إلا على نفسه، ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يك متكبراً، ولكنه لم يكن ذليلاً ضارعاً، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراده، يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة»[59].
- وأزيدك أخيراً قول المستشرق والمؤرخ البريطاني (وليم موير) في كتابه (حياة محمد): «كانت السهولة صورة من حياة محمد كلها، وكان الذوق والأدب من اظهر صفاته، كما أن التواضع والعطف والصبر والإيثار والجود من أخلاقه الحسنة. ما كان يرفض هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى في مجلسه، ولا يُشعر أحداً أنه لا يخصه بإقباله.. لقد امتاز محمد بوضوح كلامه ويُسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول! ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن؛ كما فعل نبي الإسلام.
كان محمد لا يطمع قط بالثراء، وكان ملهماً بروح ناعمة وبذوق لطيف، وكان يحيا حياة التحنث، وتأملاته تشغل دون شك كل ساعات لهوه، مع أن أترابه كانوا يقضونها في اللهو المحرم والحياة المنطلقة من كل قيد. وهذه الشهرة الحسنة والسلوك الشريف خولاه احترام معاصريه، ولذا كان الإجماع عليه حتى لقب بالأمين».
وأردفت: أمثل هذا يكون شهوانياً يا جورج؟
قال جورج والإشراقة تنير وجهه: إن رجلاً يصفه (ديورانت و بودلي و سييل و كارليل و موير) بهذا الوصف؛ حري بأن يكون نبياً.
قلت: حياك الله يا جورج، لكن أزيدك وضوحاً حتى تكون على بينة من أمرك.
قال: وما ذاك؟
قلت: إن من يتعرف نظرة الإسلام إلى المرأة، يتبين له أن المرأة لم تكن في عرف النبي صلى الله عليه وسلم أداة للمتعة وقضاء الشهوة؛ إنما كانت إنسانة قبل كل شيء، ولها أن تتمتع بكافة حقوقها التي تجعلها مكافئة للرجل، يقول القرآن الكريم عن النساء: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[60] أي لهن من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات.. وكذلك الرجال.
ويقول القرآن الكريم: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}[61] أي كلٌ من الرجل والمرأة يعطى من الميزات بحسب الدور الذي يؤديه في المجتمع.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»[62] وهل يتميز الأشقاء فيما بينهم إلا بالدور الذي يؤديه كل منهم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً الرجال: «إن الله يوصيكم بالنساء خيراً؛ فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم»[63].
أما العلاقة الزوجية التي تربط بين الرجل والمرأة؛ فاسمع يا جورج ماذا قال عنها القرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[64] أي أن المرأة والرجل في أصل خلقهما شيء واحد؛ فإذا اقتضت المادة فصل هذا الشيء إلى جزأين، أي زوجين، جاءت الروح عن طريق المودة والرحمة فضمتهما من جديد، وبهذا تصير المرأة سكناً للرجل، ويصير الرجل سكناً للمرأة.
وقد أكَّد القرآن الكريم على هذا المعنى في أكثر من موضع؛ تقول آية أخرى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}[65].
أما النبي صلى الله عليه وسلم فيوجه عناية الأزواج إلى الحقوق المتبادلة بين الزوجين، ويدعو الرجال إلى مراعاة وحفظ حقوق النساء بعامة إذ يقول: «أيها الناس؛ إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حق.. فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً»[66].
وأردفت: أتتبين في هذه النصوص شيئاً من الشهوانية أو النظرة الدون إلى المرأة مما يجعلها مرتعاً للغريزة الجنسية فقط.
قال جورج وقد تنبهت عقلانيته: عجباً لبني قومي من الغربيين كيف فاتتهم هذه النظرة الإسلامية السامية للمرأة؛ وأشاعوا فيما بينهم نقيضها تماماً؟! حتى ليظن الجاهل أن المرأة في الإسلام بؤرة للجنس لا غير.
قلت: ليس جميع الدارسين للإسلام من الغربيين وقعوا في هذا الخطأ، إنما الذين وقعوا فيه هم المبشرون فقط؛ الذين همهم تشويه الإسلام حتى لا يعتنقه الباحثون عن الراحة النفسية من الغربيين، الراحة النفسية التي يوفرها هذا الدين لمعتنقيه نساءً ورجالاً.
أما غير المبشرين من الدارسين الغربيين - للإسلام ولنبي الإسلام – المعتدلين، فهاك أمثلة مما أوصلتهم إليه دراساتهم:
- يقول الفيلسوف الشهير (جورج برنارد شو): «رأيت في دراستي لسيرة النبي العربي؛ أنه كان من أكبر أنصار المرأة الذين عرفهم التاريخ، وقد كان للمرأة أكبر الأثر في عظمته»[67].
- ويقول الكاتب القبطي النصراني (واصف باشا بطرس غالي) في كتابه (فروسية العرب المتوارثة): «كان محمد يحب النساء ويفهمهن، وقد عمل جهد طاقته لتحريرهن، وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها فوق ما هو بالقواعد والتعاليم، وهو يُعد بحق من أكبر أنصار المرأة العمليين إن لم يكن عظيم الاحترام والتكريم لهن، ولم يكن ذلك منه خاصاً بزوجاته، بل كان ذلك شأنه مع جميع النساء على السواء»[68].
- ويقول الروائي الألماني المعروف (ويلكي كوكنـز) في كتابه (جوهرة القمر): «لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفة»[69]. فهل يحث الرجل الشهواني النساء على العفة؟
- ويقول الكاتب الإنجليزي (جون أروكس) في كتابه (عظماء التاريخ): «لم نعلم أن محمداً تسربل بأية رذيلة طيلة حياته، لذلك نراه عظيماً»[70].
- ويقول المستشرق والمؤرخ الأمريكي (أورينج) في كتابه (الحياة والإسلام): «كان النبي الأخير بسيطاً خلوقاً، ومفكراً عظيماً ذا آراء عالية، وإن أحاديثه القصيرة جميلة ذات معان كثيرة، فهو إذاً مقدس كريم».
أيكون الشهواني مقدساً كريماً يا جورج؟.
قال: لا.
قلت: وتقول المستشرقة الإيطالية (لورافيشيا فاغليري) في كتابها (دفاع عن الإسلام): «وحاول أقوى أعداء الإسلام، وقد أعماهم الحقد، أن يرموا نبي الله ببعض التهم المفتراة، لقد نسوا أن محمداً كان قبل أن يستهل رسالته؛ موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته». ثم تقول ملخصة هذه التهمة والرد عليها: «لقد أصر أعداء الإسلام على تصوير محمد شخصاً شهوانياً ورجلاً مستهتراً، محاولين أن يجدوا في زواجه المتعدد شخصية ضعيفة غير متناغمة مع رسالته. إنهم يرفضون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة؛ وهي أنه طوال سني الشباب التي تكون فيها الغريزة الجنسية أقوى ما تكون.. لم يتزوج إلا من امرأة واحدة ليس غير.. وأنه ظل طوال /25/ سنة زوجها المحب المخلص، ولم يتزوج كرة ثانية إلا بعد أن توفيت خديجة، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره، لقد كان لكل زيجة من زيجاته سبب اجتماعي أو سياسي.. وباستثناء عائشة تزوج محمد من نسوة لم يكنَّ لا عذارى ولا شابات ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟!»[71].
- ويقول المستشرق السويسري (جون وانبورت) في كتابه (محمد والقرآن): «بقدر ما نرى من صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة؛ بقدر ما نرى من ضعف البرهان وسقوط الأدلة لتأييد أقوال الهجو الشديد، والطعن القبيح الذي انهال عليه من افواه المغرضين والذين جهلوا حقيقة محمد ومكانته، ذلك الرجل العظيم عند كل من درس صفاته العظيمة، كيف لا وقد جاء بشرع لا يمكننا أن نتهمه فيه».
وأردفت: أأزيدك يا جورج؟
قال: حسبي.
قلت ألا ترى يا جورج أن من كانت هذه حاله يكون إنساناً متميزاً؟
قال: بل يكون رجلاً عظيماً.
قلت: لقد سبقك بعض النخبة من علماء الغرب إلى هذا الحكم.
قال: من؟
قلت: يقول الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين): «إن محمداً هو أعظم رجل بجميع المقاييس التي وُضعت لوزن العظمة الإنسانية؛ فإذا كان مقياس العظمة الإنسانية هو إصلاح شعب متدهور، فمن الذي يطاول محمداً في هذا المضمار؟
وإذا كان مقياس العظمة هو توحيد الإنسانية المفككة الأوصال؛ فإن محمداً أجدر الناس بهذه العظمة؛ لأنه جمع شمل العرب بعد تفكك شامل.
وإذا كان مقياس العظمة هو إقامة حكم السماء في الأرض؛ فمن ذا الذي ينافس محمداً الذي محا مظاهر الوثنية، وثبت عبادة الله وقوانينه في عالم الوثنية والقوة»[72].