هذا التاريخ الذي انتهى بزعم مفكر أمريكي ياباني هو فرانسيس فوكوياما ( Francis Fokoyama ، فطرح نظريته ، أو فكرته ، حول ( نهاية التاريخ ) ، وهو يختلف مع كل من لويس ، هنتنجتون ، ودانيال بايبس ( Danial Pipes )في ديمومة الصراع ، لأنه يرى أن هذا الصراع كان قائماً بالفعل بين هذه الحضارات ، ثم انتهى الآن لصالح الحضارة الغربية ، بعد وصول البشرية إلى المرحلة الأخيرة من اكتمالها ، أي بعد وصولها إلى النموذج الأوحــد ، وهو الحضارة الغربية 000 ولقد انتهت زعامة العالم إلى هذه الحضارة ، لذا وجب على جميع شعوب الأرض أن تنطاع لها ، فتاريخ البشرية إذن قد انتهى هكذا في زعم هذا الأحمق !! فطرح نظريته العنصرية المريضة في صيف 1989م بمقال نشره في مجلة National Interest، وإن كان قد سبقه بها هيجل بقوله : ( إن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب ، لأن أوروبا هى نهاية التاريــــخ عــــلى نحو مطلق ، كما كانت آســـيا هى بدايته 000 ) 0
إن الحضارة الغربية المعاصرة تنطوي على ســـلبيات كثيرة أدت إلى وقوع حربين عالميتين ، قتل فيها أكثر من مائة مليون إنسان ، سلبيات سعت إلى بث بذور النزاع والصراع في أرجاء العالم ، وطمس ( هوية الآخر ) ، وأوربته أو أمركته ، ومحاولة إبادة الحضـــارات الأخرى ، وفرض ( نظام عالمي جديد ) على دول العــــالم وبلدانه ، برغـــم أن ( التعددية ) سنة كونية ، وأن ( التمايز الحضاري ) ـ بحسب تعبير د/ محمد عمارة ـ سنة إنسانية !!
· من الذي دفع للزمار (4) :
هذا هو عنوان كتاب وضعته المؤلفة / فرانسيس ستونور سوندرز ، ونشر في أواخر تسعينات القرن العشرين الميلادي ، وقد شرحت في مقدمته الصعوبات الكثيرة التي واجهت في جمع الوثائق التي تمثل عصب الكتاب ومادته والأساسية ، وخصوصاً العراقيل التي وضعتها جهاز سي 0 أي 0 إيه ( CIA )ـ المخابرات الأمريكية ـ وهو ما جعلها تستعين بما هو متوفر في مكتبات مثل : تاميمنت ، جوزيف رجنشتاين ، الأرشيفات الوطنية ، جون كنيدي ، وهى مكتبات موجودة في أماكن متفرقة بالولايات المتحدة ، كما استعانت بما هو موجود في مكتب السجلات العامة بلندن ، ومكتبة جامعة ريدنج ، إضافة إلى إجراء العديد من المقابلات 000
وعــبر ستة وعشـــــرين فصلاً كان الشغل الشـــــاغل للمؤلفة هو توضيح ما شـــنته أل ( سي 0أي 0إيه ) من حملة مكثفة ومتصاعدة على الجـــبهة الثقافية في زمــن ( الحرب الباردة ) ، فحولت عدداً من أبرز أنصار حرية الثقافة إلى أدوات يجرى التلاعب بها من جانب جهاز المخابرات الأمريكية ، سواء بعلمهم أو من وراء ظهورهم ، وسواء أحبوا ذلك أم كرهوه 000
هكذا توضح فرانسيس ستونور سوندرز كيف تسلل جهاز المخابرات الأمريكية إلى كل ركن في المعمار الثقافي العالمي ، وكيف قامت المنظمات والمؤسسات " الخيرية " التي تتخذها واجهة لنشاطها في هذا المجال ، والتي تحولت إلى قنوات تتدفق أموالها عبرها 000 قامت بعقد المؤتمرات وتنظيم المعارض والإشراف على الحفلات الفنية ونقل فرق الأوركسترا في مختلف أرجاء العالم ، ودعمت مشروعات باهظة التكاليف للنشر والترجمة ، ودفعت بعناصر تابعة لها إلى دعم صحف ومجلات في أوروبا وغيرها من أرجاء العالم ، وإلى تغطية خسائرها 000 وبضوح ، وبلا مواربة ، وبالدليل المقنع ، تقدم المؤلفة أسماء : آرثر كوستلر ، ملفين لاسكي ، توم برادن ، نيكولاس نابوكوف ، ومايكل جوسيلسون ، باعتبارها في مقدمة حشد هائل من نظرائهم الذين أداروا هذه الحملة ، وقاموا بإغواء المساهمين فيها ، واجتذابهم ، من فنانين وكتاب وحررين وأدباء 0
وعلى سبيل المثال ، أدار مايكل جوسيسلون ( عميل المخابرات الأمريكية ) " مؤتمر الحرية الثقافية " في الفترة 1950 إلى 1967م ، انطلاقا من مكاتب في 25 دولة ، وقام بتشغيل العشرات من الكوادر ، وأصدر ما يزيد على عشرين مجلة بارزة ، وأقام العديد من المعارض والحفلات الفنية ، ونظم مؤتمرات دولية كبيرة ، وقدم المنح والجوائز ، 000إلخ ، وشكل هذا كله السلاح السري لأمريكا في زمن ( الحرب الباردة ) ، وكانت له آثار بالغة الخطورة ربما لا تزال تمتد حتى اليوم 000
هذا ، وقد ركزت المؤلفة في كتابها على ما دار في أوروبا ، ولم تهتم بما دار في حملة جهاز المخابرات الأمريكية ( سي 0أي 0إيه )أثناء الحرب الباردة في البلدان العالم العربي ، الذي كانت مجلة ( الحوار ) ـ الصادرة باللغة العربية ـ من أدواتها 0 كما أن قناة "الحرة" وغيرها من القنوات الفضائية المنسوبة إلى العراق بعد اجتياح الولايات المتحدة الأمريكية لأراضيها منذ عام 1993 م وحتى كتابة هذه السطور000 وكلها أقامته المخابرات الأمريكية وتنفق عليه لتخدم به سياستها في منطقة الشرق الأوسط ، وتمهد به لإعادة تخطيط المنطقة فيما أسماه الساسة الأمريكيون منذ سنوات قليلة " الشرق الأوسط الكبير" ، ثم عدلوا إلى تسميته إلى " الشرق الأوسط الجديد" ـ كما يتكرر في أحاديث وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس خلال عام 1427 هـ / 2006 م000 الشرق الأوسط الجديد الذي تمارس فيه إسرائيل التسلط والهيمنة على دول المنطقة 000 تأمر هذا وتنهي ذاك000 وتحدد لكل دولة ما تنتجه من براميل النفط يوميا ، وما تسمح به من أعداد للسائحين القادمين من الشرق والغرب 000الشرق الأوسط الجديد الذي تنوب فيه إسرائيل عن الولايات المتحدة الأمريكية في السيادة على مقدرات شعوب المنطقة من خلال التحكم في حكوماتهم000
"الشرق الوسط الجديد" الذي تريده أمريكا وإسرائيل خاليا من المقاومة الإسلامية لهما في أنحائه ، ولذلك فلابد من تدمير المقاومة الإسلامية في فلسطين بتصفية حركة حماس ، والتخلص من المقاومة الإسلامية في لبنان بسحق حزب الله000 أما حركة حماس التي وصلت إلى سدة الحكم من خلال انتخابات نزيهة، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل يدبران لاغتيالها وإسقاطها وتصفية قياداتها بالقتل والسجن وما شابه ذلك ، وأما حزب الله فقد شنت الولايات المتحدة وأنابت عنها إسرائيل حربا برية وبحرية وجوية ابتداء ون يوم 23 يوليو 2006 م واستمرت هذه الحرب إلى الساعة الثامنة صباح الإثنين 14 أغسطس 2006 م بحسب قرار مجلس الأمن رقم 1701 ، وهى الحرب التي لم تحقق الولايات المتحدة ـ وربيبتها إسرائيل ـ الهدف منها ، إذ لم ينهزم حزب الله ولم يتدمر 000 بل الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية هو لبنان ، فقد دمرت الطائرات والدبابات والمدفعية الإسرائيلية الجسور والطرق والمنشآت والمرافق والبنى التحتية في هذه الدولة ، وهو ما يتكلف إصلاحه ستة مليارات من الدولارات ، كما قتلت مئات المدنيين وعشرات المقاومين ، وأصابت المئات من الأطفال والشيوخ والنساء بإصابات بالغة ، وشردت أكثر من مليون لبناني بعد أن هدمت بيوتهم ودمرت منازلهم 000
هذه هى إسرائيل التي هزمت ثلاث دول عربية خلال ستة أيام فقط في عام 1967 م ، لم تستطع أن تهزم حزبا واحدا في لبنان هو "حزب الله" ، بل تكبدت الكثير من الخسائر البشرية والمادية على أيدي رجال هذه المقاومة الإسلامية اللبنانية 000 !! وزعماؤها الآن يراجعون أنفسهم ويبحثون في أسباب هزيمتهم على أيدي مجموعة من فرق المقاومة ، بالرغم من انتصارها على العديد من الجيوش النظامية من قبل 000وهكذا يبدو أن الشرق الأوسط الجــــديد الذي خططت له أمريكا وإســــرائيل ، وأعلنت عنه كونداليزا رايس ( وزيرة الخارجـــية الأمريكية ) لن يتحقق ـ على الأقل في الوقت الحالي 000 !!
الإسلاموفوبيا والعنصرية البغيضة :
صدرت عشرات الكتب ، ونشرت مئات المقالات ، في أوروبا وأمريكا لتبين الخطر الذي يتهدد الحضارة الغربية ، وهى حملة يقودها فوكوياما ، هنتنجتون ولويس وبابيس وغيرهم من الحاقدين السفهاء ، الذين يتطاول البعض منهم على الإسلام ، كدين وعقيدة وشريعة ، بعدما حقروا المسلمين والعرب كمجتمعات وشعوب ، ونذكر من أراذلـهم ذلك الكاتب اليميني الفرنسي ( جان كلو بارو ) وصنوه الصـــحفي المشهور ( جان فرانسـوا روفيل ) ، وهو كثيرا ما يســـب ( الزحف الإسلامي ) الذي يهدد ـ في نظره ـ قيام واستقرار ( النظام العالمي الجديد ) ـ أي العولمة الأمريكية ، أو أمركة العالم 0 كما إن هناك قطاعاً كبيرا من الأكاديميين الغربيين والصحفيين ومعدي البرامج ، لا يزالوا يروجون لفكرة ( صراع الحضارات ) التي تجسد العالم الإسلامي في صورة ( إمبراطورية الشر ) التي تهدد الحضارة الغربية 00!!
إن تحالف بعض الدول في أوربا مع أمريكا ، والسير في ركابها والائتمار بأمرها ، في كل أعمال القتل والإبادة التي تتعرض لها بعض شعوب العالم في مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، إنما يأتي من تعبئة أفكار الساسة ضد ( الخطر الإسلامي ) المزعوم 000ولقد قامت وسائل الإعلام المختلفة خلال العقود الأخيرة بشحذ هذا الحال والتحضير لذلك التوجه ، سواء بنشر الكتب ، مثل " المسلمون قـــادمون " ، " التطرف يأتي من الصـــحراء والإبداع يأتي من الغابات " ، وغيرها مما كتب حول ما يسمى ( القنبلة الإسلامية ) 000 إضافة إلى الأحاديث المرئية والمقالات الصحفية والبحوث الأكاديمية ، التي تحاول تصوير الإسلام على أنه خطر يزحف نحو الغرب ، وتنذر بسريانه في ربوع أوروبا وأنحاء أمريكا ، حتى بلغ من تحذير بعض الكتاب الحاقدين والجاهلين أن قدر لأوروبا تحولها بأكملها إلى الإسلام بمجئ عام 2040 م 0 ولعل من الكتب ، أيضاً ، ما نراه تحت عناوين مثل : " جــذور الكــــره والغيظ الإســــلامي " ، " تحدي التطرف الإسلامي " , " الأصولية الإسلامية والتحديث " ، 000إلخ 0
ولقد تصاعدت هذه الحملة المستمرة ، وتأجج أوارها ، والتهب سعارها ، في أعقاب الهجوم العنيف ـ غير المسبوق ـ على رموز التفوق التجاري ( مبنى مركز التجارة العالمي ) ، والهيمنة العسكرية ( مبنى البنتاجون ) في الولايات المتحدة الأمريكية ، في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م ، والذي سماه حكام الولايات المتحدة " أيلول الأسود " ، فقرأنا ـ على سبيل المثال ـ في مجلة نيويزويك بتاريخ 25/21/2001م قول صاحب ( نظرية صراع الحضارات ) : إن بذور هذا الصراع قد باتت منثورة ، مع إعلان ابن لادن الجهاد ضد الأمريكيين ، ووصول ما سماه : " زمن حروب المسلمين " إلى أمريكا ، وهو بقوله هذا يحاول إثبات نظريته سيئة السمعة 000
كما أننا رأينا ولمسنا وعايشنا ذلك السيل العارم من ردود الأفعال الغاضبة والعدوانية تجاه العرب والمسلمين ، ردود أفعال تكشف عن أن ميراث ( الحروب الصليبية ) ما يزال يحكم مشاعر قطاع كبير من الناس ( حكاماً ومحكومين ) في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، حتى سمعنا الرئيس الأمريكي / جورج دبليو بوش يعلن القيام بحملة صليبية ، وإن كان قد تراجع عن هذه المقولة بحجة أنها ( زلة لسان ) وقعت منه ، ولكنه ناقض نفسه على الصعيد العالمي فقام بهجوم ساحق دمر به شعب أفغانستان المسكين ، وقد وصف الأفغــــان هذا الهجوم الغاشـــم بأنه ( حملة صليبية ) على بلادهم(5) ، ولا يزال هذا الهجوم العدواني الأمريكي الأوروبي يجتاح أراضي أفغانستان حتى تاريخ كتابة هذه السطور ، بحجة البحث عن أسامة بن لادن ورجال حركة أو حكومة طالبان السابقة ، في الكهوف والمغارات والجبال 00!! وبعد أفغانستان جاء دور العراق ، فاجتاحته الولايات المتحدة الأمريكية بذريعة إخفاء صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تضرب إسرائيل ـ وهى الدويلة الغاصبة لأرض فلسطين ـ فدمرت كل ثمين وغال ، ومحت آثار التاريخ العريق للعراق الشقيق ، ولا تزال الولايات المتحدة تعاني من المستنقع الذي أسقطت نفسها فيه , أي العراق !! وفي هذه الأيام من شهر رجب (1427 هـ ) أغسطس (2006 م) تجتاح الولايات المتحدة لبنان وتنوب عنها في ذلك دويلة الكيان الصهيوني إسرائيل 000 وهكذا تتوالى حلقات مسلسل الاجتياح الأمريكي لدول منطقة الشرق الأوسط ( الكبير ) لبلوغ الأطماع الأمريكية، وتحقيق الأحلام الإسرائيلية 000!! وهكذا يكون الشكل الجديد " للحروب الصليبية " على العالم العربي والعالم الإسلامي 000 !!