بعض المسلمين يسرف في المعاصي، فإذا زجر، وليم على ذلك قال: إن الله غفور رحيم،
كما قال أحدهم:
وكَثِّر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه، وجهل، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين، المفرطين المعاندين، المصرين.
ثم إن الله - عز وجل - مع عفوه، وسعة رحمته - شديد العقاب، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين. قال - تعالى -:
( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ) [الحجر: 49].
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درك الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد
قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله - في شأن من يذنب، وينتظر العفو عنه؛ اتكالاً على فضل الله - تعالى - قال: " وهو كمن ينفق جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقراء، منتظراً من فضل الله - تعالى - أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة؛ فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، وهو مثل من يتوقع النهب من الظَّلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره، وقدر على دفنها فلم يفعل،
وقال: انتظر من فضل الله - تعالى - أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب؛ حتى لا يتفرغ إلى داري، أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار؛ فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة ! وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع؛ فأنا أنتظر من فضل الله مثله. فمنتظر هذا أمر ممكن، ولكنه في غاية الحماقة والجهل؛ إذ قد لا يمكن ولا يكون "
. ثم أين تعظيم الله في قلب هذا المتمادي ؟
وأين الحياء منه - عز وجل - ؟
قال مالك بن دينار - رضي الله عنه -: " رأيت عتبة الغلام وهو في يوم شديد الحر، وهو يرشح عرقاً، فقلت له: ما الذي أوقفك في هذا الموضع ؟ فقال: يا سيدي ! هذا موضع عصيت الله فيه،
وأنشد يقول: أتفرح بالذنوب وبالمعاصي وتنسى يوم يؤخذ بالنواصي وتأتي الذنب عمداً لا تبالي ورب العالمين عليك حاصي
قال ابن القيم - رحمه الله - في شأن المتمادين في الذنوب اتكالاً على رحمة الله -: " وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها - سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته، ونصوص الرجاء. وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب "
. ثم ساق - رحمه الله - أمثلة عديدة لما جاء عن أولئك. ثم قال بعد ذلك: " وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حُسن الظن سعة مغفرة الله، ورحمته، وعفوه، وجوده، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو - قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك أجلُّ، وأكرم، وأجود، وأرحم . وإنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه - سبحانه - موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق؛ فلو كان مُعَوَّل حسن الظن على صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه؛ فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للَعْنَته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته ؟!
بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حَسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور
والله المستعان " .
م.ن