أهمية القلب معرفيًّا في القرآن الكريم
خلق الله القلب وجعله محلاً لمعرفته وإرادته، فهو "عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وإرادته"[1]، وللقلب علائق من ملاذ الدنيا، وطباع جُبِل عليها، كما له إرادة وعلوم، ومبدأ كل علمٍ وعمل فيه؛ هو الأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي الفعل، والتكرار يولد العادة.
ومعلوم أن الإنسان لا يملك وقف الخواطر، ولا طاقة له بإماتتها، فهي تهجم هجوم النَفَس، إلا أنه منح قوة الإيمان والعقل؛ ليستعين بذلك على قبول أحسنها، والرضى به والسكون إليه، وعلى دفع القبيح وكراهته والنفرة منه.
فكان القلب هو المخاطَب، والمراد إلزامه الحجة؛ لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له وجنوده بإذن الله، فهو أشرف الأعضاء لما فيه من العقل؛ بالمنع والإذن، وسرعة الخواطر، والتلون والتقلب في الأحوال، وهو رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده، كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله"؛ هذه المضغة هي القلب، وهو المتحكم والمسيطر، والآمر الناهي، والمسؤول عن الصلاح والفساد في الجسم كله، لذا نجد في شرح الحديث: يستدل من الحديث على أن العقل في القلب[2].
فشرفه من شرف ما فيه، وما أنيط به من مسؤوليات، و"هو أعظم الأشياء الموصوفة بالسعة من جانب الحق، ومعدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني، ومنبع الشعب المنبثة في أقطار البدن الإنساني، بل في سائر الحيوانات التامة الخلقة، ومنه تصل الحياة والفيض إلى الأعضاء على السوية بمقتضى العدل، وله إيفاء كل ذي حق حقه، ويسميه الحكيم بالنفس الناطقة، والروح الباطنة، والنفس الحيوانية المركبة، وهي المدركة العالمة من الإنسان والمطالبة والمعاتبة والمعاقبة"[3].
فالقلب نسب له في القرآن الكريم أشرف الأعمال، وخص بأمور لم تكن لغيره من الأعضاء،فالحق تبارك وتعالى خصه بوظيفة التعقل والتفقه {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [حج: 46]، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وأنزل القرآن على القلب {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193- 194]. ونسب إليه الإيمان والهداية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]؛ والله ألزم عباده بقيام الحجة عليهم؛ إذا توفرت القدرة على الإدراك، وعلى الفعل، فحاسب عباده بما منحهم من وسائل الإدراك وهي: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. فامتن على عباده في غير ما آية بأن منحهم القدرة على الإدراك، والاستعداد لقبول العلوم؛ وفهمها وتخزينها بداخلهم، واستذكارها متى احتاجوا إليها. كما نُبهوا إلى أن الصدود عن الغاية؛ التي خلقت لأجلها وسائل الإدراك يعرضها للعقاب؛ بأن لا يتجاوز دورها ما تأديه في غيرها من البهائم.
ولفتة هنا إلى السياق القرآني؛ كلما ذكرت وسائل الإدراك وطرقها في مقام المدح، أو المنة كان الفؤاد آخر ما يذكر، ولعل هذا لكمال في الترتيب؛ حيث السمع أشرف استقبالاً للمعارف وأقوى من البصر، وهاتان القوتان هما نواقل إلى القلب لما في الخارج، فكانت المعارف وكل ما يدرك عبرهما أولاً، ثم إلى القلب.
فمعيار الترتيب بين الحواس هو القوة العلمية والأفضلية المعرفية، فالسمع يعمل قبل البصر وأكثر منه، وهو أعم منه وأشمل في بلوغ المعارف.
ومعيار الترتيب في السياق القرآني بين الحواس" السمع و البصر" كقوة إدراكية؛ وبين القلب كان الأسبقية في الإتصال بالموضوع المدرك.
لكن في سياق الذم والعقاب؛ كان يحل التعطيل أولاً على القلب، ثم السمع ثم البصر. وهذافي كل الآيات التي جمعت فيها وسائل الإدراك.
فكان ترتيب الألفاظ عكسياً، حيث كان الطبع على مركز العمليات الإدراكية، ثم ذكر ما يليه في القوة الإدراكية تنازلياً السمع ثم البصر.
وفي كل الآيات جمع القلب والسمع في صورة العقاب، فالطبع والختم كان لهما معاً، أماالبصر فكان يختص بالغشاوة والغطاء {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ، وهنا وقف عند: {سَمْعِهِمْ}، ثم تستأنف الجملة {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وقال تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
فالترتيب كان بين القلب والحواس على معيار القوة العلمية والأهمية المعرفية، أي أن خطورة الختم على القلب أشد من خطورة الختم على الحواس، ثم الانتقال إلى أهم الحاستين السمع ثم البصر، فكان الترتيب بينهما كذلك على قدر العموم والشمول "معرفياً"، ففقدان السمع أشد ضرراً من فقدان البصر معرفياً؛ فالنقص في المعرفة المترتبة عن فقدان السمع أكثر وأكبر؛ من النقص الحاصل من فقدان البصر لدى الفرد الواحد؛ والله أعلم.
ــــــــــــــــــــ
[1] الفوائد: ابن القيم. ص 259.
[2] فتح الباري: ابن حجر. ج1، ص 129.
[3] الكليات: الكفوي. ص 704.