عذرًا حبيب الله .. فسوف يعلمون .
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن عظمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنزلته الجليلة، لا يستطيع الجُهَّال والضُلاَّل أن يفقهوها، ولا يقدر الأغمار من الكفار أن يعوها ويفهموها؛ كيف وهم الذين لم يعرفوا لرب الكون الذي أرسل محمدًا قَدْرًا، ولم يعظموه ـ سبحانه ـ أو يوحدوه وهو الذي خلقهم ورزقهم، وملك ضرهم ونفعهم، وبيده حياتهم ومماتهم.
إن عظمة النبي الأكرم، محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، التي تَطاوَل عليها سفهاء الروم -ولا يزالون- لا تزيد المؤمنين به، إلا محبة له، وتوقيرًا لمقامه ورغبة في الاجتهاد في تعزيره وتوقيره واتباعه والدفاع عنه.
كيف وإيمانهم لا يصح إلا بالشهادة له بالرسالة، بعد الشهادة لله بالوحدانية، وأبواب الجنة مغلقة دونهم إلا أن يأتوا من طـريق رسالته، وسبل هدايته وسنته.
ألـم يعلـم أولئـك السـفهاء من النـاس في أوروبا، أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي انتهى إليه وحده، عبء القيام بأكبر مسؤولية في التاريخ، ألقيت على عاتق بشر، فكان قَدْره وقَدَره أن يتحملها على كاهله فريدًا، بمقتضى الأمانة التي حُمِّلها فتحملها، للقيام بتنفيذ المهام الجسام، التي تتطلب تقويم ما اعوج في حياة البشرية بعد أن آل أمرها إلى فساد عام شمل كل أرض، وعم كل جنس، وتسرب إلى كل ملة.
لقد قال الله له: ﴿إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً﴾ [المزمل: 5].
فما كان منه -صلوات الله وسلامه عليه- إلا أن سارع لرفع الحمل، ردءًا للصلاح، ودرءًا للفساد.
إنَّ المهـامَّ التـي طُـلِبت مـنه -بآبـائنـا هـو وأمهاتنا- لتصحيح أوضـاع البشرية، كانت بالغة في ضخامتها وجسـامتها؛ بحيث لا يستطيع أحد من البشر إلا محمد بن عـبد الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتـصدى لهـا؛ فبـماذا كُلِّف، ومـاذا أنـجز، ومِمَّ بدأ، وإلى أين انتهى لتغيير دفة التاريخ الإنساني، كي يعود به إلى مساره الصحيح؟
إنَّ الجواب على ذلك ولو باختصار يكشف اللثام عمن هو صانع أكبر معجزة واقعية في التاريخ -بإذن من الله- وبيان ذلك على ما يلي:
أولًا: كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يبلِّغ كلمة الله الأخيرة للبشر كـافـة فـي جـميع الأرض؛ فرسـالته لم تكـن محـلـية ولا إقليمية ولا قومـية كسـائر الرسـالات التـي بُعـث بـها الأنبـياء قـبله. قـال تعـالـى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً﴾ [سبأ: 28].
فرسالته التي كُلِّف بإبلاغها -وهي إعادة البشرية إلى التوحيد- كانت تستهدف الإنسان، دون قيد الزمان أو المكان، ولم يكن مطلوبًا منه البلاغ فقط، حتى يضم إليه البيان: ﴿وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، ولم يكن مكلفًا بالبيان النظري، دون أن يضم إليه البيان العملي اعتقادًا وعبادة وسلوكًا، على أتم ما ينبغي في أداء العبودية التامة التي تجعل منه الأسوة المحتذاة والقدوة المتبعة في كل ما يتعلق بأمور المعاش والمعاد: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾. [الأحزاب: 21]
ثانيًا: كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقدم للبشرية كلها، هذا المنهاج الكامل الصافي، أن يواجه من أجناسها وأصنافها، ألوانًا من الانحرافات العقائدية والتعبدية المتراكمة، خلال أزمنة الفترة التي خلا فيها الزمان من الرسل؛ فالشرك كان يضرب بأطنابه في أرجاء المسكونة، والخرافة كانت تنشر ألويتها حتى في مهابط الرسالات؛ فإضافة إلى مهمة إبلاغ المنهاج الكامل بالبيان النظري والعملي، كان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج كل تلك الانحرافات العالمية، بالحجة واللسان، وبالسيف والسنان، سِلْمًا مع المسلمين، وحربًا ضد المعاندين الصادين: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] .
ثالثًا: كان فساد العقيدة والعبادة، عند البشر عامة، والعرب خاصة، يستتبع فسادًا في السلوك والأخلاق، وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ينتدب لمهمة المواجهة العلمية والعملية لفساد العقيدة والعبادة، أن ينتدب أيضًا لمواجهة موجات الفساد الأخلاقي التي أصابت القيم الإنسانية بالتفسخ والتحلل، بسبب تراكم الضلالات والأمراض، فأضيف إلى مهام رسالته الكبرى، مهمة أخـرى عظـمى وهـي: تقويم الأخلاق، وإصلاح القِيَم، وقـد أشـار -صلى الله عليه وسلم- إلى مـقام الأخلاق ومقدارها في رسالته، بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق»(1).
رابعًا: لم يكن من المتوقع أن تقبل المجتمعات الآسِنة، أن تكون هادئة ساكنة وهي تخضع لهذه العملية العلاجية الكبرى، بما يصاحبها من لأواء الألم ومرارات التضحية بكل موروث ومألوف ومقدس لديها، فكان لا بد أن تتمنع أو تتمرد أو تنتفض أطراف منها بين الفينة والفينة، حتى تكاد تفتكك بمعالجها، وتقتل من يبذل نفسه لحياتها ونجاتها.
وما كان على المعالج الشفيق، والطبيب الحاذق، والنبي البر الرحيم، إلا أن يتحمل جهلها وجاهليتها، ويصبر ويصابر على أذاها وفتنتها، مع أن ما هو مقبل عليه، ليس علاج داء واحد لصنف واحد من البشر، ولكنه جملة من الأدواء المهاجرة والمستوطنة، يقف وراء أكثرها منتفعون من بقائها، ومتضررون من زوالها، ولهذا كان مطلوبًا منه -صلى الله عليه وسلم- وهو يُقْبِل على علاج أدواء تلك الأمم، أن يستجمع في شخصه ما تفرق في شخصيات إخوانه من الأنبياء والرسل من الخلال والصفات التي واجهوا بها سائر الأمم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أُرسِل لسائر هذه الأمم، خاتمًا لسائر هؤلاء الأنبياء والرسل، وقد قال الله له: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ [الأحقاف: 35]، وقد صبر ولم يستعجل، وجمع بين وجوه العظمة في كل رسول ونبي قبله، فكان فيه ثبات نوح، وحلم إبراهيم، وأمانة يوسف، وقوة موسى، وصبر أيوب، وجسارة هود، وجرأة داود، وحكمة سليمان، وذكاء زكريا، وصفاء يحيى، ووَداعة عيسى -عليه وعليهم جميعًا صلوات الله وسلامه-.
خامسًا: لم تكن الأجواء المحلية المحيطة برسولنا -صلى الله عليه وسلم- مهيأة لإعانته على مهمته؛ فلم يكن العرب مستعدين لتلقي العلاج، ولم يكن لديهم تَوْق إلى التغيير أو شوق إلى التجديد؛ ففي هذه الدائرة الضيقة التي كان يفترض أن تبدأ منها عملية التغيير في مكة، لم يكن العرب مرحبين أو راغبين في زعامة جديدة ذات منهج جديد كي يلتفوا حولها، ويَدَعوا مما أَلِفُوا ما كان عليه الآباء والأجداد، ويفارقوا ما نشؤوا عليه وعاشوا فيه من فَوْضى الجاهلية وتفويضها لهم في كل ما يشتهون؛ فكان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ بهم أولًا، مغالبًا صلابتهم، ومجالدًا حميتهم، وصابرًا على أذاهم حتى يتغير منهم قوم يصلُحون لتغيير غيرهم، لتتكون له صحبة من الحواريين المهيَّئين لحمل مهمة التغيير في سائر العالمين؛ ولهذا قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]، وقال: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴿214﴾ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِـمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 214 - 215].
سادسًا: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مطالَبًا، في أثناء وبعد عملية التغيير والبناء، أن يكون أداؤه متوازنًا، وميزانه مُرْهَفًا، حتى لا تتولد عن عمـلية التغيـير العـالمي الحادِّ آثار جانـبية سلبية، كأن تبرز -بعد إنجاز البناء- طبقة تعلو على طبقة، أو جنس يتعالى على جنس، أو عنصر يتميز بالسمو، أو آخر يستأثر بالسلطان، كما كان شائعًا في سائر عمليات التغيير عبر التاريخ، وكان محذورًا كذلك -أثناء وبعد هدم الأوضاع القديمة- أن تنشأ أحقاد، أو تولد ثارات، بسبب تطاير بعض الشرر الذي يصيب أهدافًا غير مقصودة، فيُظلَم بريء بلا جريرة، أو يُستَهدَف صنف بلا ذنب، أو تؤذى طبقة بغير موجب، وهي أمور يكاد يكون تلافيها مستحيلًا في عمليات التغيير الكبرى، ولهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطالَبًا، بإرساء مبادئ عدالة عامة نزيهة متجردة دون أي نظر في التفضيل أو التقريب إلا بالميزان الذي يزن بكلمات الله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
منقول للاستفادة.