* بنو إسرائيل والتيه في الصحراء:
-قال تعالى: ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) المائدة24-26.
* وفيه مسائل:
- المسألة الأولى: قوله ( فَإِنَّهَا ) أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، وفي قوله: ( أرْبَعِينَ سَنَةً ) قولان: أحدهما: أنها منصوصة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس. والقول الثاني: أنها منصوصة بقوله: ( يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ) أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة.
- المسألة الثانية: يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم: ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب، بل أخف منه. فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه، فقال: ( فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ). قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذلك فقالوا له: دعوت علينا وندم موسى على ما عمل، فأوحى الله تعالى إليه: ( فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم.
- المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه، قالوا: ويدل عليه وجوه: الأول: أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع، والثاني: أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون، والثالث: أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب.
وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه؟ فقال قوم: إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة، وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، وهو الذي فتح الأرض المقدسة. وقيل: إنه ملك الشام بعد ذلك.
وقال آخرون: بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم.
- المسألة الرابعة: قوله: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد. وقيل: يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم.
- المسألة الخامسة: اختلفوا في التيه فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً. وقيل: ستة في اثني عشر فرسخاً. وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. فإن قيل: كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغير من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم، فكيف في المفازة الصغيرة؟ قلنا: فيه وجهان: الأول: أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد، إذ لوفتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات وإنه باطل. الثاني: إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم، وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال.
- قلت(المؤلف):قد يكون للشعوب القوية التي كانت تسكن المدن المحصنة في أرض كنعان كالعمالقة الذين يسكنون بئر السبع وجنوبها، أو الحثيين واليبوسيين والفزاريين والأموريين الذين يقطنون الجبال، إضافة إلى الكنعانيين الذين ينتشرون في نواح شتى من أرض كنعان ولاسيما على ساحل البحر وعلى ضفة الأردن دوراً بارزاً في تيه بني إسرائيل طوال هذه الفترت ولاسيما إذا علمنا أن طباع الجبن والخوف كانا ملازمين الشعب الإسرائيلي على مر التاريخ.
- المسألة السادسة: يقال: تاه يتيه تيهاً وتيهاً وتوهاً، والتيه أعمها، والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيه. قال الحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حين أصبحوا، وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة، وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بدّ وأن يخرجوا عن المفازة، بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه والله أعلم.