لم يكن صلاح السيد الدمياطى يتوقع أن تكون عودته لمصر بعد ٢٦ عاماً من الغربة بهذه الطريقة. كان يتمنى أن يعود لبلده محملاً بالهدايا والأموال التى تساعده على التمتع بالسنوات الباقية من عمره ويأخذ أمه العجوز للحج ليعوضها غيابه عنها، لكن كان للقدر تصاريف أخرى، فبعد أن اشترى الهدايا وأعد حقائبه استعداداً للعودة فوجئ بالقوات الأمريكية تقتحم المنزل الذى يقيم فيه وتقتاده فى رحلة استغرقت ٥ أعوام، عاد بعدها إلى مصر بقايا إنسان بعد التعذيب الذى لاقاه فى السجون، والإهمال الذى تعرض له هو وزملاؤه من قبل الحكومة المصرية التى لم تهتم بالسؤال عنهم، وعندما اتصلوا بممثلها فى العراق تجاهلهم.
بداية القصة فى مصر كانت أمام أشرف المليجى، رئيس نيابة كفر الدوار، حيث تقدم صلاح السيد قاسم الدمياطى ٥٠ سنة مقيم بمنطقة السناهرة بكفر الدوار ببلاغ يطلب فيه عرضه على الطب الشرعى لإثبات الإصابات الموجودة به نتيجة التعذيب داخل السجون العراقية.
«المصرى اليوم» التقت صلاح لتعرف منه قصته ومشاهداته وذكرياته داخل السجون العراقية التى استمرت ٥ سنوات كاملة، ونتركه ليحكى قصته منذ وصوله للعراق شاباً مقبلاً على الحياة، وحتى عودته إلى مصر كهلاً خائر القوى محطم النفس.
يقول صلاح: سافرت إلى العراق عام ١٩٨٤، وكنت أبلغ من العمر ٢٤ عاماً، واشتغلت هناك «ميكانيكى» واستأجرت ورشة فى منطقة قضاء حديثة التابعة لمحافظة الأنبار، وكان الشعب العراقى والسلطات العراقية يعاملوننا أفضل معاملة، وتحملنا مع العراقيين أيام الحصار ونقص الدقيق والأدوية، حتى بعد دخول الأمريكان العراق عام ٢٠٠٣ لم تحدث مشاكل كبيرة إلا بعد تولى إبراهيم الجعفرى رئاسة الوزراء، ومع زيادة عمليات القاعدة داخل العراق أمر بحبس جميع المواطنين العرب.
وبداية المأساة كما يرويها صلاح فى شهر يناير ٢٠٠٥ يقول: فوجئت أثناء جلوسى مع ٣ من الأصدقاء داخل مسكنى بالقوات الأمريكية ومعها الحرس الوطنى العراقى يقومون باقتحام العمارة التى نسكن بها وكنا جميعاً مصريين وقبضوا علينا ونقلونا إلى مدرسة ثانوية، وقام أفراد الحرس الوطنى بالاعتداء علينا بالضرب والسب، وسألونا عن علاقتنا بالإرهاب، ولأن أغلب أفراد الحرس الوطنى من الشيعة فقد كان همهم الأول إيذاء العرب، خاصة المصريين والسودانيين، ولولا وجود بعض الأمريكان معهم كانوا قتلونا كما فعلوا مع الكثير من المصريين هناك،
ويستطرد صلاح: بعد ٥ أيام تم نقلنا إلى قاعدة عين الأسد العسكرية بالرمادى وحققت معى محققة زنجية أمريكية، وكان يقوم بالترجمة لها مترجم لبنانى، وقبل التحقيق ربطونى بالجنازير، ووجدت أمام المحققة جميع متعلقاتى وأموالى التى كانت بالمنزل وهى ٧ آلاف دولار و٢ مليون من العملة العراقية وأوراقى الخاصة وصور عائلتى، وكانت المحققة تلبس ملابس مثيرة تظهر صدرها،
وكنت أنظر فى الأرض من الحياء، وعندما لم أنظر إليها قالت لى: أنت إرهابى، وعندما شاهدت صورة أمى وأخواتى البنات وهن محجبات قالت لى: أنت من أسرة إرهابية، وقامت بوضع الصورة على أماكن حساسة فى جسدها بطريقة مثيرة حيث كانت تتعمد إثارتى، فقمت بالبصق عليها فضربتنى، وجاء جندى أمريكى ضخم الجثة وضربنى وعذبنى بالكهرباء،
وبعد ٢٠ يوماً من التعذيب تم نقلى إلى سجن أبوغريب، حيث تم التحقيق معى مرة أخرى بواسطة محقق أمريكى يرتدى ملابس مدنية، ووعدنا بالإفراج عنا، وعندما سألته لماذا اعتقلتمونا؟ قال: لأن البعض شاهدكم تضحكون من النوافذ أثناء مرور قوات التحالف فى الشارع.
ويضيف صلاح: لم يتم تعذيبنا نهائياً فى سجن أبوغريب، وكانت المعاملة جيدة لأننا ذهبنا بعد الضجة التى حدثت، وكان هناك دائماً وفود من حقوق الإنسان والصليب الأحمر وكنت أحمل رقم (١٧٦٧١٧) وهو رقمى فى سجن أبوغريب، وأثناء وجودنا فى سجن أبوغريب تم عرضى أنا و٨ مصريين على محكمة الساعة وهى محكمة مركزية عليا وتم الحكم علينا جميعاً بالحبس سنة لعدم وضوح خاتم الإقامة بصور جوازات السفر التى أرسلتها القوات الأمريكية للمحكمة رغم أن الخاتم موجود بجوازات السفر الأصلية،
ولأننا كنا قد قضينا أكثر من عام توقعنا خروجنا من السجن، إلا أن هذا لم يحدث وتم ترحيلنا إلى سجن بادوش بمحافظة الموصل، حيث حبسنا فى قاعات سعة الواحدة ٤٢ مسجوناً، وبجوارنا كانت توجد قاعة بها مجموعة متشددة تنتمى للقاعدة، والغريب أنهم كانوا يتمتعون بجميع الامتيازات،
وكان مدير السجن يخاف منهم، وفى أحد الأيام فوجئنا بمجموعة ترتدى أقنعة سوداء تقتحم السجن ويفتحون الأبواب، وقاموا بتهريب المجموعة المتشددة، ولكننا رفضنا الهروب لأننا مقتنعون ببراءتنا وهو ما استغرب له الأمريكان عندما وجدونا بالسجن بعد هذه الواقعة، وتم نقلنا إلى معتقل بوكة بالبصرة، حيث تم تعذيبنا بالكهرباء والضرب، وشاهدت العديد من المصريين والسودانيين يموتون من آثار التعذيب،
وبعد ٣ أشهر تم نقلنا إلى سجن سوسة الفيدرالى وهو تابع للبشمرجة الأكراد الذين عاملونا أسوأ معاملة، وكان يقوم بتعذيبنا ضابط إيرانى اسمه آزاد، وعرفنا بعد ذلك أنه يتم التعامل معنا كإرهابيين لأن الأمريكان كتبوا فى الأوراق أننا نحن المجموعة التى هربت من سجن بادوش وأنهم ألقوا القبض علينا حتى يتستروا على واقعة هروب المجموعة التابعة للقاعدة.
ويتذكر صلاح، بأسى، هذه الفترة، ويقول: تم نسياننا تماماً لمدة سنتين ونصف السنة وتعرضت خلالها للموت أكثر من مرة وكان الصليب الأحمر يزورنا، وقالوا من يرد العودة لبلدة ستتم إعادته، وكنت أحد الذين طلبوا العودة بسبب سوء حالتى الصحية
وبالفعل قام أحد موظفى الصليب الأحمر واسمه يحيى بإعطائى رقم القنصل المصرى واسمه هشام، وبعد عناء سمحت لنا إدارة المعتقل بالاتصال بالقنصل الذى لم يكن يرد على اتصالاتنا، حتى عندما ذهب له موظف الصليب الأحمر رفض مقابلته لدرجة أن العراقيين قالوا لنا «بلدكم مش عاوزاكم» وبعد عناء ورحلات من التعذيب بمنطقة تسفير الرصافة التى مكثت فيها ٥ أشهر وكان هناك رائد شيعى يسمى زيد تعامل معنا بعنصرية شديدة تم إخلاء سبيلى وذهبت إلى مطار بغداد وتعاطف معى بعض العراقيين وأعطونى «فلوس وأكل» ورجعت إلى مصر حيث تم احتجازى بسجن المطار لمدة ٥ أيام للتأكد من شخصيتى وتمت معاملتنا معاملة جيدة حتى جاء أخى وتسلمنى.
وعن ذكريات صلاح فى العراق يقول: أشد ما آلمنى فى فترة السجن أنه لم يسأل عنا أحد من الحكومة، فالرئيس الفلسطينى محمود عباس، زار العراق وتكلم عن المعتقلين الفلسطينيين، فأفرجت الحكومة عنهم وعندما زار أحمد أبوالغيط العراق، لم يذكر المعتقلين المصريين وهو ما جعل العرب يعايروننا لأن وزير خارجيتنا لم يخرجنا من السجن، ويضيف صلاح: موظفو السفارة يعاملون المصريين بطريقة مُهينة جداً ويسبونهم، وكانوا يعقّدون الأمور لدرجة كبيرة ويقولون «إنتوا جايين العراق علشان خاطر النسوان».
وعن مشاهداته قال صلاح: الأمريكان يكذبون على الناس، والناس تصدقهم، فقد شاهدت فى سجن أبوغريب شخصاً كفيفاً قال عنه الأمريكان إنه قناص الرمادى، وشاهدت الدبابات الأمريكية تدهس سيارات بها أطفال دون أى إحساس بالذنب، وفى نهاية اللقاء تركنا صلاح فى حضن والدته يرتاح على صدرها من قسوة الغربة ويشعر بالأمان الذى افتقدة طوال ٢٦ عاماً.