طلاق المكره والغضبان [1/2]
د. هاني بن عبد الله الجبير
مقدمة
تمهيد
- المطلب الأول: تعريف الطلاق لغةً:
- المطلب الثاني: تعريف الطلاق شرعًا:
- المبحث الثاني: أدلة مشروعية الطلاق:
الفصل الأول: طلاق المكره:
- تمهيد: تعريف الإكراه:
- تعريف الإكراه شرعًا:
- المبحث الأول: أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه:
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [آل عمران:102ٍ] .
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" [النساء:1].
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيما"[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فمن أدرى بصلاح النفس من بارئها ، ومن أعرف بحالها من خالقها "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" [الملك:14] إن الذي سوَّى النفس فألهمها فجورها وتقواها لهو أعلم بما يصلحها ويسلك بها سبيل التقوى ، أفترى هؤلاء اللاهثين وراء سراب التقدم والحرية أعلم بالبرية من بارئها؟ لا والله "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا "[النساء:27] إن في الإسلام لمنهجًا في الحياة فريدًا، ومسلكًا للسعادة وحيدًا، فيه سعادة البشرية جمعاء وفيه الحل لجميع مشكلاتها ومعضلاتها.
وهنا في هذه الورقات سنستعرض آراء جمع من فقهاء الإسلام المبنيَّة على نصوص الوحيين، في مسألتين مهمتين من مسائل كتاب الطلاق، وهما طلاق المكره, وطلاق العضبان، حيث سنستعرض أقوالهم وأدلتهم ، وما نوقشت به، مستخرجين الرأي الراجح من اجتهاداتهم، والحقُّ أنني قد توقفت كثيرًا عندما نظرت في أدلة كل قول خاصَّة في المسألة الثانية عندما تتكافأ الأدلة وتتوارد المناقشات على كل قول حتى اطلعت على عبارة من العبارات الفذة التي سطَّرتها يراع العلامة النحرير، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله، في (الختيارات الفقهية) حيث قال: (وأكثر من تميَّز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما ، لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أنَّ عنده لا يعرف جوابه فالجواب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى للاجتهاد ... إلى آخر ما قاله رحمه الله) (1).
فعملت بقاعدته، واتبعت مسيرته، فرجحت ما ظهر لي رجحانه.
أما البحث فقد جعلته في تمهيد وفصلين وخاتمة.
فتناولت في التمهيد ثلاث مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الطلاق.
وفيه مطلبان:
الأول: في تعريف الطلاق لغة.
والثاني: في تعريفه شرعًا.
المبحث الثاني: في أدلة مشروعية الطلاق.
المبحث الثالث: في الحكمة من مشروعيته.
أما الفصل الأول: فقد قسمته إلى مبحثين بعد التمهيد.
فالتمهيد: في تعريف الإكراه لغةً وشرعًا.
المبحث الأول: أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه.
المبحث الثاني: طلاق المكره، والأقوال والأدلة والترجيح.
أما الفصل الثاني: فقد قسمته إلى تمهيد ومبحث واحد.
فالتمهيد: في تعريف الغضب وحالاته.
والمبحث في حكم طلاقه، الأقوال والأدلة والترجيح.
أما الخاتمة فعرضت فيها أبرز النتائج التي استخلصتها من البحث.
هذا ولتعلم أيها القارئ في هذا البحث والناظر فيه أني لم آل جهدًا في تحرير مباحثه واستيفاء مسائله، ولكني أرى عملي قاصرًا لقصور كاتبه ، وناقصًا لنقص راقمه، وفاترًا لفتور مقيده.
وهذا جهد المقل فإن أصبت فمن الله وحده ، وفَّق وألهم ، وسهَّل ويسّر ، وإن أخطأت فمني الخطأ وأستغفر الله "ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة وإنك أنت الوهاب" [آل عمران:8].
تمهيد
المبحث الأول تعريف الطلاق:
المطلب الأول: تعريف الطلاق لغةً:
الطلاق: مصدر طَلَقَت المرأة وطَلُقَت(2) تطلُق طلاقًا فهي طالق. ويدل على الترك والتخلية، يقال طلَّق البلاد أي تركها، وأطلق الأسير أي خلاًّه .
ويستعمل في معان أخر فيطلق على الصفو الطيب الحلال فيقال هو لك طلق أي حلال، ويطلق على البعد يقال طلق فلان إذا تباعد، ويطلق على الخروج يقال أنت طِلْقٌ من هذا الأمر أي خارج من(3).
وهذه المعاني المذكورة إذا أمعنا النظر فيها وجدنا بينها وبين مقصود الطلاق ترابطًا واضحًا فالمطلق تارك لزوجته وهو أيضًا قد أحلها لغيره، وقد باعدها بفراقه لها وقد خرج أيضًا عن العقد الذي كان يربطهما، فالطلاق قد اجتمعت فيه هذه المعاني جميعًا(4).
المطلب الثاني: تعريف الطلاق شرعًا: تنوعت عبارات الفقهاء، وتعددت تعريفاتهم للطلاق في العرف الشرعي، وقد حرصت على اختيار التعريف الجامع المانع منها وهو: (حلُّ قيد النكاح (أو بعضه) في الحال أو المآل بلفظ مخصوص).
وهو الذي عرَّفه به في الدر المختار(5)، ومعناه متفق عليه بين أهل العلم، وقد أضفت لتعريفه قيدًا وهو (أو بعضه) وفائدته إدخال الطلاق الرجعي(6).
المبحث الثاني: أدلة مشروعية الطلاق:
دلَّ على مشروعية الطلاق الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما الكتاب : فقوله تعالى : "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"[البقرة:229]، وقوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهمن لعدتهن"[الطلاق:1].
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)) (7)، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها(8).
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا(9).
أما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جوازه وهو واقع منذ الصدر الأول في الإسلام إلى هذا الزمان لا ينكره أحد(10).
والمعقول يؤيد جوازه كما سيأتي في الحكمة من مشروعيته.
المبحث الثالث: الحكمة من مشروعية الطلاق:
شرع الله الزواج ليكون دائمًا مؤبدًا إذ به تتحقق المنافع والمصالح المرادة منه، ولا بد لتحقيق أهداف النكاح العظيمة من وجود المودة والتفاهم بين الزوجين فإذا حصل ما يقطع هذه المودة ويفسد هذا التفاهم مما هو واقع وكثير، لأسباب مشاهدة، كأن تفسد أخلاق أحد الزوجين فيندفع في تيار الفسق، والفجور، ويعجز المصلحون عن رده إلى سواء الصراط، أو يحدث بين الزوجين تنافر في الطباع، وتخالف في العادات، أو يلقى في نفس أحدهما كراهية الآخر، والسَّأم منه، والتبرم من أفعاله وقد يكون الزوج عقيمًا أو قد يصيبه مرض معد خطير، أو قد يغيب غيبة لا يعلم فيها حاله، ولا حياته من موتِهِ، وقد يصاب بضيق ذات اليد فلا يستطيع الإنفاق على زوجته وليست بخلية فتنكح غيره.
وهذه الأمثلة -وليست من الخيال في شيء- تفسد على البيت نظامه، وتعكر عليه صفوه، فينحرف الزوجان في البحث على لذة بديلة، أو سكن غير ما يجدانه في نكاحهما، وينحرف الأولاد حيث لا كافل لهم، ولا راعي لشؤونهم، ولا قائم بحقوقهم، وينشأ الأطفال نشأة يملؤها التشاؤم، ويغلب عليها الحزن والانطواء في مجتمع أسري كهذا.
لهذه الأمور وغيرها كثير؛ أباح الله الطلاق ليكون علاجًا لهذا الوضع الرديء، والحال المفجع، والخطب الأليم، الذي أصاب الأسرة التي هي اللَّبنة الأولى لبناء المجتمع.
ولأن الإسلام دين رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، ولأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان، فقد حرص على وقاية المجتمعات من كل داهية تفتك به وكل فجيعة تلم به، وكل نكبة تصيبه، فقد شرع الطلاق ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة، وصلـة موجعة، وارتباط مؤلم، ومن ثم ينقب كل منهما عمّن هو خير من سابقه، وأجــدر بــالارتباط به، قال تعـالـى: "وإن يتفرقا يغن الله كلاً مـن سـعته وكان الله واسعا حكيماً"[النساء:130] (11).
الفصل الأول: طلاق المكره:
تمهيد: تعريف الإكراه: الإكراه: لغة: هو مصدر أُكرهَ يُكْرَهُ إكراهًا، إذا غصبته وحملته على أمر هو له كاره. فأصل الكلمة يدل على خلاف الرضا والمحبة . قال الفرَّاء : (يقال أقامني على كره – بالفتح – إذا أكرهك عليه إلى أن قال: فيصير الكره بالفتح فعل المضطر(12).
تعريف الإكراه شرعًا:
هو حمل إنسان على عمل – أو ترك – بغير رضاه ، ولو تُرك بدون إكراه لما قام به.
وقال بعضهم فعل يفعله إنسان لغيره(13).. إلخ والمعنى متقارب.
المبحث الأول: أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه:
للإكراه أنواع متعددة باعتبارات مختلفة ؛ فيكون في الأفعال ، ويكون في الأقوال، والإكراه في الأفعال نوعان ملجئ وغير ملجئ.
فأما الملجئ وهو الكامل، فلا يكون للفاعل إرادة البتة كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلاً فقهره من هو أقوى منه وكبَّله وحمله حتى أدخله فيها، فهذا غير مكلف إجماعًا ولا إثم عليه؛ ولا يحنث عند الجمهور(14).
وأما غير الملجئ وهو الناقص فهو كمن أكره بضرب وهذا المكره يستطيع الفعل والترك فهو مختار للفعل، ولكن ليس غرضه نفس الفعل وإنما مراده دفع الضرر عن نفسه. وليس هذا مرادنا فارجع فيه لمظانه(15).
وأما الإكراه في الأقوال:
فقد اتفق العلماء على صحته وأن من أكره على قول محرم إكراهاً معتبرًا أن له أن يفتدي نفسه، ولا إثم عليه، والإكراه متصور في سائر الأقوال فمتى أكره على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام وكان لغوًا (16).
وذهب الأحناف إلى التفريق بين ما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة فيفسخ، وما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح فهو لازم، فمن أكره على البيع ففعل فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع، بخلاف ما لا يحتمل الفسخ(17).
وعدم التفريق أنسب وأليق بأصول الشريعة وأدلتها، قال تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"[النحل:106] قال الشافعي(18) في تقرير الاستدلال بهذه الآية: "أن الله سبحانه وتعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه أسقط عنه أحكام الكفر، كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط، ما هو دونه من باب أولى".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (19).
قال ابن القيم: (... وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به، وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر على أن الله سبحانه تجازو عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه وهذا يراد به كلامه قطعًا وأما أفعاله ففيها تفصيل ... إلى أن قال ... الفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه، أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها، بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال، فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون، فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول، فإنها تثبت إذا كان قائلة عالمًا به مختارًا له) (20).
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإكراه يكون بحق وبغير حق، فأما الإكراه بغير حق -اعتداءً وتسلطًا- فهو ما سبق فيه البحث، وأما ما كان بحق فنحو إكراه الحاكم لشخص ببيع مالِه ليوفي دينه، أو إكراهه موليًا على الطلاق إن أبى الفيئة. فهذا الإكراه غير مانع من لزوم ما أكره عليه(21).
مسألة شروط الإكراه :
ذكر أهل العلم شروطًا للإكراه منها:
1- أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب.
2- أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، والعجز عن دفعه أو الهرب منه.
3- أن يكون مما يلحق الضرر به(22).
وهذه الشروط اتفق على اعتبارها المالكية، والشافعية، والحنابلة، وزاد بعضهم شروطًا أخرى، والذي يظهر أن تحديد الإكراه عائد لما يراه الحاكم، والمفتي، فما رأى أنه إكراه أبطله لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس(23).
يتبع