حوار بين العين والقلب والكبد
بقلم الدكتور محمد السقا عيد
إن الغرائز والميول العاطفية والجنسية بين الرجل والمرأة
هو شيء فطريلايمكن ضبطه ولا يمكن كبته. وإن الاسلام
أمرنا بضبط هذه الغرائز وليس بكبتها وانما بتصريفها بنظام أخلاقي وشرعي هو الزواج.
وهذه الميول والغرائز لن تتغير ولن تتبدل بينأناس الصحراء
وأناس سكان القطب ولا بين أناس القرن الثالث قبل الميلاد وبين أناس القرن الحادي والعشرين ولا بين سكان الجزيرة العربية وسكان
أوروبا، ولا بين من ركبوا الجمال ومن يركبون الطائرات فهم
جميعا مما اودع الله فيهم هذه الفطرة وهذه الغريزة وهذا الميل المتبادل الذي فيه سر بقاء النسل البشري وتواصله ؛ وليس لتكون هي
غريزة ثائرة متأججة مجنونة لا يضبطها ضابط ولا ينظمها شرع ولا قانون ولا عرف ولا أخلاق، فيصبح الإنسان فيها والحيوان سواء.
قال الله تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء..} ( ال عمران- 14)
مما يدل على أن شهوات النساء مزينة للناس ومغوية
لهم، وقوله تعالى -من النساء- بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس اليهن. وقال صلى الله عليه وسلم :" ما تركت بعدي فتنة أشد علىالرجال من النساء".
قال الامام القرطبي في تفسير الآية :" ففتنة النساء أشد من
جميع الأشياء ، ويقال في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة
واحدة، فأما اللتان في النساء فأحدهما: أن تؤدي الى قطع الرحم لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأولاد، والثانية:يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام لأجلها
وأما البنون فإن الفتنة واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم".
ولعل سائلا يسأل عن تلك الجاذبية التي اودعها الله في الرجال
والنساء تجاه بعضهم البعض والتي يهذبها الاسلام ولا يكبتها ولا يتنكرلوجودها.
والسؤال الآن
عمن يتحمل مسؤولية هذه الجاذبية التي اذا ما تم
الاستجابةلها بغير الضوابط الشرعية فإنها ولا شك تقود الى
المحظور والحرام وفي الحياةاليومية الأمثلة والشواهد التي هي أكثر من أن تحصى والتي تدل كلها على ذلك.
ولمعرفة الجواب الشافي فإنني أنقل بعض فقرات المناظرة
الجميلةالتي دارت بين العين والقلب حيث يتهم كل منهما
الآخر بأنه هو السبب وهو المبتدىءبتأجيج نار الغريزة ويكون الحَكَم في النهاية هو الكبد.
هذه المناظرة الطريفةأوردها الاسلام ابن قيم الجوزيةفي كتابه
( روضة المحبين ونزهة المشتاقين) فيالصفحة 95 :
" كما كانت
العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذة الرؤية وهذاله
لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان، ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاءاقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه:
فقال القلب للعين: أنت التي سقتني إلى موارد المهلكات
وأوقعتني
في الحسرات بمتابعتك اللحظات
ونزهت طرفك في تلك الرياض وطلبت الشفاء من الحدقالمراض
وخالفت قول أحكم الحاكمين ( قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم) وقول رسوله صلىالله عليه وسلم :" النظرة الى المرأة
سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله
عز وجل أثابه الله ايمانا يجد حلاوته في قلبه" فمن الملوم سوى
من رمى صاحبه بالسهمالمسموم؟
او ما علمت أنه ليس شيء أضر على الانسان من العين
واللسان فما هلك أكثر منهلك الا بسببهما ..
فمن أحب أن يحيا سعيدا او يعيش حميدا فليغض من
عنان طرفه ولسانهليسلم من الضرر
او ما علمت وسمعت قول العقلاء :" من سرح ناظره
أتعب خاطره، ومن كثرتلحظاته دامت حسراته وضاعت
عليه اوقاته وفاضت عبراته وقول الناظم:
نظر العيون الى العيون هو الذي جعل الهلاك الى الفؤاد
ما زالت اللحظات تغزو قلبه حتىتشحَّط بينهن قتيلا
وقول الآخر:
تمتعتما يا مقلتي بنظرة واوردتما قلبي أمَّر الموارد
أعينيَّ كُفا عن فؤادي فإنه من الظلم سعي اثنين في قتل واحد
فقالت العين:
ظلمتني أولاً وآخراًوبؤت بإثمي باطنا وظاهرا وما انا
الا رسولك
الداعي إليك ورائدك الدال عليك، فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والاتباع، اركبتني
في حاجتك خيل البريد ثم اقبلت علي بالتهديد والوعيد، فلو أمرتني
أن أغلق علي بابيوأرخي
علي حجابي لسمعت وأطعت، ولما رعيت في الحمى ورتعت، أرسلتني
الى صيد قد نصبتلك
حبائله واشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه، فغدوت أسير
ا بعد أن كنت أميراوأصبحت مملوكا بعد أن كنت مليكا .
هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام عليهالصلاة والسلام
حيث يقول :" إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدتفسد الجسد كله ألا وهي القلب".
ثم أما علمت أن الله سبحانه قد خص
بالفوز والنعيم منأتاه بقلب سليم أي سليم مما سواه، ليس
فيه غير حبه واتباع رضاه .
ثم اتبعت العين
قالت:وبين ذنبي وذنبك
عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس.
وقد قال من بيدهأزمة الأمور (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)الحج-46.
فلما سمعت الكبدتحاورهما الكلام وتناولهما
الخصام قالت: أنتماعلى هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما
ولقد أنصف من حكى مناظرتكما وعلى لسانيمتظلما منكما:
يقول طرفي لقلبي هجت لي سقما والعين تزعم أن القلب أنكـــــاها
والجسم يشــــهد أن العين كاذبــة وهي التي هيجت للقلببلواها
لولا العيون وما يجنين من ســـقم ما كنت مطرحا من بعض قتلاها
فقـــالت الكبد
المظـلومة اتئــداقطـعتماني وما راقبـتما الله
ثم قالت: أنا أتولى الحكم بينكما ، أنتما في البلية شريكا عنان،كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان، فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي ولهذا قالفيكما القائل:
ولما سلوت الحب بشر ناظري لقلبي فقال القـلب لي ولكالـهنا
تخلصت من إحياء ليلك ساهرا وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مُهنّأ بالبقاء فإن تــعد فلا أنتيبـــقيك الغرام ولا أنا
وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار، والا فما لك من قرةولا للقلب من قرار ، قال الشاعر:
فوالله ما ادري نفسي الومها - على الحب أم عيني المشومة أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين ابصرت - وإن لمت عيني قالت الذنبللقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي - فيا رب كن عونا على العين والقلب
ثم ختمت الكبد
بقولها: والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح
والجسد اذا اختصما بين يديه فإن في الأثر المشهور: لا تزال
الخصومة يوم القيامة بين
الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول الجسد للروح: أنت التي
حركتني وأمرتنيوصرفتني، والا فأنا لم أكن أتحرك
ولا أفعل بدونك، فتقول الروح له : وأنت الذي أكلتوشربت
وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه
اليهما ملكا يحكمبينهما فيقول : مثلكما مثل مقعد بصير
وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى:
أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال
الأعمى: أنا أستطيع القيامولكن لا أبصر شيئا فقال له
المقعد: تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى منتكون العقوبة؟ فيقول عليهما، قالت الكبد: فكذلك أنتما".
·فمهما اختلف الزمان وتغير المكان فيظل الانسان
هو الانسان لافارق بين الاناث والذكران، فقد اودع الله في
كل منهما الغريزة والميلان، ان هماضبطاها وهذباها
كانا كملائكة الرحمن، وان أطلقا لها العنان كانا أسوأ من الشيطان،ومصيرهما النيران ،فلا تقل هي ولا تقولي هو بل قولا كما
قال آدم وحواء (ربنا ظلمناأنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
المصدر
كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)شيخ الاسلام ابن قيم الجوزية