العودة   شبكة صدفة > المنتديات الاسلاميه > المنتدى الاسلامى

المنتدى الاسلامى إسلام، سنة، قرآن، دروس، خطب، محاضرات، فتاوى، أناشيد، كتب، فلاشات،قع لأهل السنة والجماعة الذين ينتهجون نهج السلف الصالح في فهم الإسلام وتطبيقه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 09-25-2009, 01:30 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي مقاصد التوبة




التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تُغير السير، وتوبة تُصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أنَّ التحول الذي تحدثه التوبة ..

مقاصد التوبة
دعوة إلى السير في مدارج الكمال

قال الله -جل جلاله-: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]،
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم:8]، وقال عز وجل: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:11]
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مئة مرة).

أيها الأحبة في الله ..
التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تُغير السير، وتوبة تُصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أنَّ التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئًا ضخمًا في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينتظر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كانت التوبة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عهدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هامش الإساءة بجميع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.

إنَّ توبة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل، وتوبة الإحسان هي الوقود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ صاحب السيارة مأمنه.

وقد يقول قائل: إنَّ الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما توبتين؟. والحقيقة: أننا لم نفرد التوبة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة، فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.

وإنَّما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عند كثير من المسلمين من التهاون في الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم -إذا كان قد حقق في أول التزامه بعض التحولات- لا يكاد يزيد عليها شيئًا جديدًا، مع العلم أن إحلال السنة محل البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.
لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقصاء شوائبها من حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول إليه من درجات الإسلام.

إنَّ الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدًّا، كما أن النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق في وجه ابن آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى ربه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.




حوافز التوبة:
إنَّ دوافع التوبة إذا استقرت في قلب المسلم، وصارت جزءًا من العلم الذي في صدره، دفعته للأخذ بأسباب الهداية التفصيلية، بعد أن أكرمه الله -تعالى- بنعمة الهداية العامة، ويوجد بحمد الله -تعالى- أكثر من حافز لهذا التجديد الذي يرتقي بنا في درجات الكمال الممكنة، ويجعلنا دومًا في زيادة من ديننا، ويجعل من التوبة عمل اليوم والليلة.

الحافز الأول: عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:
لقد أمر الله -عزَّ وجل- الناس كافة بالتوبة، وأمر بها المؤمنين خاصة، وهذا يعني أن أي إنسان مهما بلغ إيمانه، وتدينه واستقامته لا يستغني عن التوبة، فهي بداية السير ونهايته، يصبح فيها العبد ويمسي، ولا يدعها أبدًا، لكن الناس يختلفون في موضوع التوبة: فقد يتوب عبد من الكفر، في الوقت الذي يتوب آخر من بدعة، وثالث من ذنب كبير، ورابع من صغيرة، وخامس من شبهة، وسادس من تقصير في فريضة أو نافلة، وسابع من ترك نصيحة أو غفلة عن ذكر أو تهاون في دعوة أو جهاد...

فهناك إذن أمر إلهي عام لعموم الناس ولعموم المؤمنين بالتوبة إليه، وهذا الأمر يجعل من التوبة ثوبًا لا ينزعه العبد ما عاش، وإن نزعه لبعض الوقت عاد إليه من قريب.

فمن الآيات التي خاطب بها سبحانه عباده جميعًا: قوله تعالى: ﴿وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
وقوله سبحانه: ﴿إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلئكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿17﴾ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء:17-18].

ومن الأحاديث: قوله فيما رواه الترمذي وحسنه: (تُقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والغرغرة: الاحتضار، وقوله: (إنَّ الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربه) [رواه مسلم].

أمَّا الآيات التي خاطبت المؤمنين خاصة، فمنها قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحً﴾ [التحريم: 8]، وقوله عز وجل: ﴿وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

ولايخفى أن التوبة التي أمر الله بها المؤمنين ليست توبة الإسلام والإيمان؛ فهم مسلمون مؤمنون، ولكنها توبة الإحسان التي تجدد إسلامهم، وتقوي إيمانهم، وتصلح ما فسد من أعمالهم وتقوِّم ما اعوج من تصرفاتهم.

وما دامت الأخطاء واردة فالأمر بالتوبة قائم لا يجاوزه أحد، وهو في كل وقت على التعجيل والفور، لا التأخير والتراخي، وكل توبة قبل الموت فهي توبة من قريب، وكل ذنب فارتكابه جهالة.




الحافز الثاني: التفكر الدائم في حقيقة الزمن:
هناك حجاب كثيف من الغفلة يمنع أكثر الناس من إدراك حقيقة الزمن، فهم لا يرون في طلوع الشمس سوى بداية يوم جديد يربطون فيه الاتصال بمجموعة من الهموم الآنية والأغراض العاجلة، كما لا يرون في الليل سوى نهاية ذلك اليوم، ونادرًا ما يتجاوزن هذا النظر القريب إلى نظر آخر بعيد، يبدو فيه تعاقب الليل والنهار درسًا بليغًا، وموعظة، وذكرى للنفس: ﴿وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورً﴾ [الفرقان: 62].

كل يوم يأتي هو فرصة لمن كان على قيد الحياة، فهذه الأيام لا تتعاقب بلا نهاية، بل لكل إنسان منها عدد محدود، يبدأ يوم ولادته، وينتهي يوم وفاته.

إنَّ قراءة الزمن على ضوء الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم والإيمان تنتهي بالعبد إلى نتيجة أخيرة، هي: أن أحسن ما يقدم بين يديه في هذه الأيام هو العمل الصالح، وأول عمل صالح يقدمه بين يديه هو التوبة الصادقة، فيقبل على ربه بالافتقار، ويعتذر إليه عن التقصير في القيام بواجب العبودية؛ لعل توبته تلك تشفع له بين يدي أعماله القليلة الهزيلة.

إنَّ دورة اليوم، ودورة الأسبوع، ودورة الشهر، ودورة العام: كل منها يعطي مثلًا لعمر الإنسان، قال الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
ففي هذه الآيات تعريف للدنيا وما يفعل الناس فيها؛ فهي لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ومثالها في سرعة الانقضاء كمثل النبات يتم دورته في مدة يسيرة: فبينما هو نبت صاعد أخضر، إذا هو هشيم أصفر.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم وابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك).
فيدل هذا الحديث على أنَّ الزمن سريع الزوال، والدنيا فرص، إذا لم يغتنمها صاحبها فاتت وذهبت، فالشباب لابد يأتي بعده الهرم، والحياة يأتي بعدها الموت.

قال الحسن البصري: «إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرًا، والموت معقود بناصيتك، والدنيا تطوى من ورائك؟».
لقد التفت الحسن البصري -رحمه الله- في هذه القولة إلى البعد الزماني في تعريف الإنسان، فهو مجموعة من الأيام إذا مضى منها يوم مضى منه بعضه حتى ينتهي.

لقد قال بعض العارفين يصف الدنيا: «إنها أنفاس تُعد، ورحال تُشد وعارية ترد، والتراب من بعد ينتظر الغد، وما ثمّ إلا أمل مكذوب، وأجل مكتوب، فكيف يغفل مَن يَوْمُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده إلى أجله».

إنَّ التفكر في حقيقة هذا الزمن على ضوء تصور الإسلام للحياة الإنسانية ضروري للقيام بتجديد شامل ومستمر في الأفكار والأعمال، فهو يكشف له أن بضاعته في هذه الحياة هي الزمن، وكل يوم يبزغ فجره فرصة إمهال قد تكون الأخيرة وبعدها العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.

إنَّ هذا التفكر في ذلك البعد هو الذي يوقف داء التسويف الذي يعاني منه كثير من الناس عندما يَعِدون أنفسهم بالتوبة عدة مرات، ويقولون: غدًا غدًا، فيجيء الغد ويصير يومًا، ويصير اليوم من بعد ذلك أمسًا، وهم على حالهم، مغترون بالعافية والستر، لا يذكرون ما بين أيديهم من أهوال وأخطار، حتى يفجأهم الموت في وقت لم يتوقعوه، ويصرعهم في يوم لم ينتظروه، فتفوتهم فرصة التوبة والتدارك.

ولا يحسبن أحد أنَّ التفكر الذي ندعو إليه هو تلك الأفكار السوداوية التي تدعو إلى التشاؤم بهذه الحياة، بل نحن ندعو إلى تأمل إيجابي فعال، تكون ثمرته إعادة النظر في عوائد الحياة، وتصحيح ما لا يتفق مع قيمتها وأمانة الاستخلاف فيها.

إنه ما لم يستحضر الإنسان حقيقة الزمن بين عينيه بكل خطورتها فلن يتقدم خطوة واحدة في توبته، لكنه إن ذكر أن عمره ينقص ولا يزيد، وأنه يسعى في هدمه منذ نزل من بطن أمه، وأنه في كل يوم مودع.. تنبه وتيقظ، ولم يؤخر عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عمله.




الحافز الثالث: النظر إلى الماضي:
خلق الله -عزَّ وجل- الإنسان بقدرات عقلية متميزة، ومنها القدرة على التذكر، وهذه القدرة التي أوتيها الإنسان دون سائر الحيوانات ليست من أجل التعرف على الأشياء عند رؤيتها، أو من أجل إتقان المهن والحرف والمهارات، أو من أجل القراءة والكتابة ... أو غير ذلك من منافع الذاكرة فقط، بل هناك مهمة أخرى أسمى من هذا كله، هي: استرجاع الماضي بقصد المحاسبة والمراجعة، قال الله -تعالى-: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة:1-2].

والله -عزَّ وجل- إذا أقسم بشيء من مخلوقاته: فإما لأجل بيان قدرة هذا الشيء ومنزلته، أو للتنبيه على ما فيه من دلائل الحكمة الإلهية، وفي هذه الآية أقسم -سبحانه- بالنفس اللوامة تنبيهًا على هذه الآية العقلية، وهي: قدرة الإنسان على التفكير بعامة والتذكر بخاصة، وثانيًا: تنويها بهذه النفس التي استعملت هذه القدرات العقلية فيما خلقت لها ولم تقصرها على جانب التسخير والانتفاع فحسب، فجعلتها للتفكر والمحاسبة والاعتبار أيضًا.

إنَّ الماضي لا يرجع، ولكن الإنسان يستطيع أن يسترجعه من الذاكرة، فإذا أحداثه حاضرة في وعيه وشعوره ينظر إليها، فإذا كان القصد من استرجاعها هو المحاسبة والمراقبة، فنحن أمام حافز آخر من حوافز التوبة.

إنَّ الذي ينسى ماضيه بمجرد مروره لا يمكن أن يصحح حاضره أو يخطط لمستقبله، لأنه يعيش عمرًا متقطعًا منفصلًا بعضه عن بعض، ولكن الذي يرى عمره سلسلة واحدة متصلة الحلقات، يأخذ من ماضيه لحاضره، ومن حاضره لمستقبله، وهذا الذي يأخذه هو الدروس والعبر، وهو التجارب والخبرات، فالذي يفكر في ماضيه على ضوء الطموحات التي اختطها لنفسه في الحياة، وعلى ضوء الغاية التي يسعى إليها، وهي رضوان الله والجنة، يستقل طاعاته لا محالة، ولسان حاله في كل مرحلة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا ولتركت كذا، فيتدارك ما استطاع، ويعوض عما فات ويسابق الأيام في ذلك.

بهذا يؤدي الماضي للمسلم الذي ينظر فيه مهمة جليلة؛ لأنه يتحول إلى ناصح وموجه، يدلي بمشورته عند الحاجة.

وإذا كانت التوبة الصحيحة تمحو ما قبلها، فإن هذا لا يعني أن المسلم إذا تاب ينسى ما قدمت يداه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [الكهف:57].

لكنه بعد التوبة يحتفظ لماضيه بهذه المهمة الإيجابية، وهي: الحث على الاستدراك وإصلاح الأخطاء، وهذا معنى قول بعض العلماء: معصية أورثت ذلًا وانكسارًا خير من طاعة أورثت عجبًا واستكبارًا.




الحافز الرابع: النظر إلى المستقبل:
إذا كان الجسم الإنساني محصورًا في الحاضر، خاضعًا لسلطته: فإن القلب يستطيع أن يتحرر من هذه السلطة ليرتاد أغوار الماضي وآفاق المستقبل، فيرى حياته في أطوارها الماضية والحاضرة والمقبلة، والذي ينظر إلى حياته بهذا الشكل الممتد ولا يبقى سجين الحاضر هو الذي يرى عواقب الأمور في بداياتها، فيغنم خيرها، وينجو من شرها؛ لأنه يُعِد لكل أمر عدته ويلبس لكل حالة لبوسها، ويتصرف أمام كل موقف بما يناسبه، لا قبل الأوان ولا بعد الأوان.

وإذا كان نظر المسلم إلى ما مضى يجدد عزمه ويشحذ همته، ليكون في يومه أفضل منه في أمسه، فإن نظره إلى المستقبل يحثه على المسارعة بتنفيذ ما عزم عليه من توبة وتصحيح، فالآجال بيد الله وحده، والأعمال بالخواتيم، والمستقبل يشمل ما ينتظره بعد الموت من أهوال القبر، وما ينتظره بعد البعث من أهوال الحشر والحساب.

إنه لا يدري متى يستدعى، ولا يدري ما اسمه غدًا، ولايدري أيخف ميزانه أم يثقل، ولا يدري أيكون من السعداء أم من الأشقياء.

كيف ينسى المسلم هذا المستقبل وهو معني به، وسيعيش لحظاته لحظة لحظة، ويجتاز أطواره مرحلة مرحلة، حتى يكون مثواه في الجنة أو في النار.

وإنما يغفل عن هذا المستقبل من ضعفت خشيته، وبهت يقينه باليوم الآخر، وران على قلبه ما كسب من خطيئات، يلعب بالنار وهو لاهٍ غافل، ويقف على حافة الهاوية وهو سادر معرض، حتى يفجأه الموت وهو على عمل من أعماله الرديئة، فيهلك هلاك الأبد.

إنه لا ينجي من سوء الخاتمة إلا التفكر الدائم في المستقبل، والمستقبل يبدأ من اللحظة الآتية، ومن خاف سوء الخاتمة اجتهد في توسيع دائرة الإحسان في حياته وتقليص هامش الإساءة، وهذه هي التوبة الثانية بمعناها الواسع، فإنه لا يودع فترة من حياته إلا وقد شهد فيها إسلامه تحسنًا جديدًا.




الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:
لقد مضت سنة الله -تعالى- في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة كثرة ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]، ﴿وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ الأنعام:116]، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 119]، ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:13]، ﴿وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر].

والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية، والتشبث بأسبابها، والحذر من عوامل سلبها، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين الصالحين، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون: يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب، ويأخذ أحسن موقع في هذا الصف، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب، وحتى يدرك من المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.

وأي شيء يهدده في هذه النعمة، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.

هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى، ويزداد ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة، ويضع هذا الاصطفاء في كفة، ويكون ذا عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني، ولا يأنس إلا به، وكيف لا يأنس وقد وجد الطريق ووجد الرفيق؟!.




الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إنَّ التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق أنه فرض واجب، فهو من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.

والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يوم أو ليلة، ولكنه عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة، فقد جمع الله -عزَّ وجل- الكمالات البشرية في نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة للناس، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع، قال الله -تعالى-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21].

ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون، والمعصوم لغير المعصوم؟!.

وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعًا ومحدثات وذنوبًا وآثامًا، فإنه يشعر بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة، فيزداد اقترابًا من سيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، جاعلًا الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل ما كان يفعله نبيه، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.

إنَّ الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وصيامه، وحجه، وذكره، وطهوره، ودعوته، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي تمتد سائر العمر.

وإذا علم المسلم أن النبي نفسه وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات، آخرها عند فتح مكة لما قال الله -تعالى- له: ﴿إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾ [النصر].

ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره، وفي الحديث الذي رواه مسلم يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة).




الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق، كيفما كان عصرهم، وكيفما كان بلدهم.

السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات هذا الاتجاه في كل عصر، الأمثل فالأمثل، وفي حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أوصيكم بتقوى الله.... فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

فذكر سنته، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته، فقد كانوا -رضي الله عنهم- أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله، ثم يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.

ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في سيرة من سبقوه، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف على نماذج رائعة في استغلال الوقت، واستثمار العمر، ومبادرة الأجل بالأعمال الصالحة، وترتيب الأعمال حسب الأولوية، والموازنة بين العبوديات، والشمول في فهم الدين، واليقين العظيم في الجزاء، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب، ثم ينظر إلى نفسه، فيجدها بعيدة عن كل ذلك، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله على منافستهم في مقاماتهم، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق الإسلام محفوظة، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس والشاعر والكاتب، كلّ في مجاله وموضوعه، وهذه مقتطفات من كتاب صيد الخاطر للشيخ عبد الرحمن ابن الجوزي المتوفى سنة 597ه، نوردها مثالاً لهذه السيرة النموذجية يقول:
«تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني ممَّا نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم، وما طالت طريق أدت إلى صديق كما يقال، وقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أرجو وأطلب» .

«كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم، وأثمر عندي ذلك من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله -عزَّ وجل-، ولولا خطايا لا يخلو منها بشر ... لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه -عزَّوجل- صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة» .

وقد رباني -سبحانه- منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم، ومازال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري...

ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتين، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل... » .

هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف، وعلم نافع وعمل صالح، ومع ذلك: كثيرًا ما يؤنب نفسه، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلامًا جيدًا، يقول رحمه الله -تعالى-: «تفكرت في نفسي يومًا محققًا، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن ... ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعًا، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة ... أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة، إن نُوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم وسقوط الغراب على الجيف... أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغدًا تحتها!، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين الأحباب... وغدًا يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني بحق معرفتي ما دفنوني... والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء ...

واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى، واحرماني من مقامات الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي، واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن» .

ثم يختم هذه المعاتبة بقوله: «اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار» .

فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة صادقة، فما أحرى من هو دونه علمًا وعملًا أن يسأل ذلك.

ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه وأنكر أسلوب حياتهم، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء النبغاء الموهوبون، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم، وكلما حل بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى، وكلما دهمه كسل أو فتور: تذكر أنه في حلبة سباق، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين، ويزيده تشجيعًا: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق بأخلاقهم.

إنَّ الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث توبة متجددة في حياة المسلم، ويصحح من أوضاعه باستمرار.




الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إنَّ مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان كائن تافه حقير، بل هو لا شيء، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من أمثاله.

ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فقرب بهما البعيد، وبلي بهما الجديد، وتحقق بهما الموعود، ولا زالا يسيران في الباقين سيرتهما في السابقين، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف الفقير لهلاك الأبد إذا أصر على الكفر أو المعصية، وأنفق أيام عمره فيما يغضب الله ويسخطه عليه ؟.

أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شاردًا عنه، والله -سبحانه- يفرح بتوبته إذا تاب كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك الهلاك جوعًا وعطشًا، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟.

كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون الله، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب، أو ما عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية، أو الميلاد والممات، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن قريب يزول، قال -تعالى-: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴿1﴾ الَّذِي جَمََعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴿2﴾ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴿3﴾ كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ﴾ [الهمزة: 1 4]، فمالُه لا يُخلده، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره، ويقدم على ربه وحده.

تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص، واغتراره بالمكانة والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة، ولكنه متى علم أنه بلا إيمان كائن حقير، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به، بصفته مخلوقًا كريمًا على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.




الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون:
إنَّ الإسلام ليس دين الإنسان فحسب، بل هو دين الكون كله، فالسماوات والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة، وكل ما فيهما من كائنات علوية وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة مهما كانت هينة تمثل شذوذًا عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع لخالقه.

هذا الكون إبداع الخلاق العليم، والإنسان جزء منه، فالقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله، والله الذي خلق هذا الكون وخلق الإنسان، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيمًا متناسقًا مع طبيعته، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.

وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلبًا عزيزًا؛ لكثرة أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله -عزَّ وجل- فتح باب التوبة، يدخله العبد كل وقت، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها، وفي بعض الآثار: أن الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه، فيقال لها: لعله يتوب، لعله يتوب.

إنَّ الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون وهي رابطة العبودية لله هو الذي يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام الفطرة، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي تعقب الخصام، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.

الإنسان المسرف على نفسه مثل النغمة النشاز التي تشذ عن أنشودة الكَوْن، أو هي المتسابق الذي يسير في عكس اتجاه الكوكبة، أو هو المصلي الذي يصلي في اتجاه مقابل للقبلة مخالفًا لباقي المصلين.




فلو تذكر الإنسان أنه ليس وحده في هذا الكون، ولو التفت يمينًا وشمالًا، ورفع بصره وخفضه، ورأى آيات الله في الآفاق والأنفس، لرأى مخلوقات مقبلة على شأنها، قائمة بحق ربها، فيقبل مثلها على شأنه وينظر في أمر ربه فيلزمه، عند ذلك يشعر بالأُنس، وتزول عنه الغربة التي يشعر بها غيره، فكيف إذا ترقى من الشعور بالأُنْس مع المخلوقات إلى الأنس بالخالق، فيأنس إلى ربه عندما يشعر أن الله -تعالى- معه، يشهده وينظر إليه، وأن الله -تعالى- معه، يحفظه ويرعاه، وهذه هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة بإذن الله .

والآن: وبعد أن استعرضنا هذه الحوافز: لا بد أن نؤكد في الأخير أن تجديد الإسلام في حياة المسلم مشروع كبير، وحتى ينجح أي مشروع لا بد أن يمر بثلاث مراحل: الأولى: التفكير والتنظير، والثانية: التخطيط والبرمجة، والثالثة: التنفيذ والمحاسبة.

فالتوبة التي تصحح سير المسلم إلى ربه مشروع ما بعد الهداية، فليضع له المسلم ما يحتاج إليه من أهداف وبرامج، وهذا الشق العملي لا يُقَال، بل يمارس ويطبق.




نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الإخلاص في القصد، ويلهمنا الصواب في العمل.






آخر مواضيعي 0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
0 اللهم فرج هم كل مهموم
0 أتركنى أسكن عينيك
0 ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
رد مع اقتباس
قديم 09-25-2009, 01:32 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أحمد اسماعيل

الصورة الرمزية أحمد اسماعيل

إحصائية العضو







أحمد اسماعيل غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: مقاصد التوبة

نووور



تسلمى على الطرح الرائع والمميز

حفظك الله ويسر امورك

دعواتى لك بالصحة والعافية






آخر مواضيعي 0 أوقات استجابة الدعاء
0 الكابينت اتخذ قرارا بالرد على هجوم إيران
0 مباراة الأهلي ووفاق سطيف الجزائري
0 دعاء يوم الجمعة
0 روسيا تسلم محطة تشيرنوبل النووية إلي أوكرانيا
رد مع اقتباس
قديم 09-25-2009, 04:40 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
جنة

الصورة الرمزية جنة

إحصائية العضو







جنة غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: مقاصد التوبة


بارك الله فيكِ غاليتي
وجزاكِ خيراً على الطرح

اسعدكِ ربي






آخر مواضيعي 0 صينية الشوارما التركية~بالصور
0 دجاج بالطحينة-بالصور
0 الخبز البلغاري اللذيذ بالصور
0 طريقة عمل المندازي الشهي بالصور
0 طريقة عمل الكتشوري اللذيذ بالصور
رد مع اقتباس
قديم 09-25-2009, 06:33 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
ساجده

الصورة الرمزية ساجده

إحصائية العضو








ساجده غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: مقاصد التوبة

السلام عليكم

نور

جزاكى الله خيرا على طرحك القيم

أثابك المولى






آخر مواضيعي 0 أخلاق الكبار
0 ترويض وتهذيب النفس
0 قل يارب....
0 إلى أين أذهــب ؟؟؟
0 فكرت قبل كده ربنا خلق المخلوقات الشريرة ليه؟
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:17 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator