1.
أجول حائرة ، بشوارع ذاك الزمن البارد الممطر ، وفؤادي الوجل يرتجف ببين أضلعي خوفا كارتجاف من ينتظر حكم الإعدام بصقيع زنزانته...
ألملم أطراف ياقتي ...وأشده على عنقي الهش بأصابع عصبية لاتهدأ...، أشده أكثر ..فأكثر..وأنا أحتضن حقيبة يد قد حشرت بها كل مايجعلني على قيد الحياة.
حشرت بها هوية ...ووطنا بصحراء واشجارا...وهدايا قطفتها من السماء ليلا ونظمتها في شريط على قنديل حبك..لأجلك...
أحقا لن تأتي؟؟؟؟.....أحقا ستغيب كما يغيب الحق بأوطاننا؟؟؟..أحقا ستتركني وحيدة لزمن ثاني قد تبرأ منه نور الصباحات ..واحتله دجى الليالي؟؟؟..
مالذي أخّرك بهذا الشكل؟؟؟.....أهي أمرأة ثانية؟؟؟..أم أنها مسألة ثانية؟؟؟....أم أنه أمر يجب أن أقلق لأجله؟؟؟
هل أنت بخير؟؟؟...هل صحتك بخير؟؟؟...هل لازالت تدخن بشراهة؟؟؟؟..هل؟؟...هل؟؟....
أسئلة قيدتني كما الحبال من كل جانب ، وأرغمتتني على التوقف عن التهام الأمتار بقدميّ اللتين فقدتا شهية المشي.....، فوقفت على الرصيف..كما التمثال و قد اتسعت أحداقي خوفا عليه...كخوف الأم على الولد..
...وجف ريقي حتى شعرت ان لساني سيتشقق كما تتشقق الأراضي أيام القحط والجفاف...
..ورفضت الدموع أن تقيم مظاهرة تشجب غيابك بساحات خدودي الناعمة التي احتلتها جيوش الشحوب...قلقا...
...ومخيلة إجابات لازالت قيد حكم الأشغال الشاقة ، دون أن تنتج جوابا واحدا كفيلا بعلاج الضوضاء التي تسكن داخلي ..فيشذب أشجار حيرتي..ويبدد الأفكار الطفيلية التي ترعرعت دون منطق...
..وتراقصت عيناي بنظرة مشتتة بعيدة عن التركيز ، وأنا أمسح ببصري بعشوائية محيطي البارد المغسول بأمطار من سخام ، ألبست المكان كآبة معطف من مغيب...
أمسح ببصري وأبحث ، عن وجه أعرفه...عن وجه أعشقه....، عن وجه يأتي دائما متأخرا كما الأمل.......
2.
أشد ياقة معطفي أكثر،على حنجرة لم تتكلم لساعات .... وأنا أمارس فعل الحيرة بشكل علني صريح،....وقلبي الصغير يرفض الهدوء ،كما الطفل الذي خاب أمله....ويصرخ حتى علا نبضه إلى طبلة أذني .التفت حولي بوجل لأتأكد أنه لاأحد ممن يملؤون قارعة الطريق بأجساد لاتملك ملامح، قد سمعوا ضجيجه....وغضبه...
لم أتوقف عن البحث بعشوائية عن وجهك.....
أبحث.....وأبحث....وأنا أعبر الشارع باتجاه بائع الزهور العجوز ...الذي يعيش كما المغترب ..على هامش هذا الشارع البارد الرمادي....
وقفت أمامه مترددة ، أريد سؤاله عن شخص يحمل الشمس بجبينه....وغابات صنوبر وسنديان بفروة رأسه.......
عن شخص يحمل بعينيه ، أفقا لاينطفئ....شخص يتنفس وطن.....ويتكلم عروبة.....
أيعقل أنه نسي ذكرى لقائنا؟؟؟......أيعقل أنه غفل عن الأمر ولم يتذكره؟؟؟؟
طالعني العجوز بمحياه الذي يبعث على الراحة...وهو يسألني:
- هل تريدين زهورا يابنتي؟؟؟؟
تململت أمامه بارتباك وخجل صريح...عاجزة على إيجاد سؤال ربّيته داخلي .وصغته بألف صيغة، ....ثم ضاع..ولاأعلم أين....
سؤال يرفض الموت بمقصلة شفاهي...ليظل حيا يرزق داخلي يبعثرني....ويعذبني أكثر.....
علت وجهه السموح حيرة دون حروف...وعلامات استفهام أميّة قد استقرت بجبينه ، قد خذلته لغة الحروف...فطفق يسألني بعينيه التي غطتهما ستائر التجاعيد ، يسألني عن سبب مشروع البكاء الذي يلوح بأحداقي وعن تلك الدموع الصغيرة التي ترفض النزول ، وتتشبث بأجفاني وأهدابي كي لاتسقط.....
- هل أنت بخير ياابنتي؟؟؟؟؟
خفت بكبريائي الأنثوي الهش....أن تسقط أمطار عيني إذا ماأغلقت أجفاني ...، فيتحول المشروع إلى واقع وحقيقة وسط المناديل الورقية الميتة...
فأبقيت أحداقي جامدة بلاحركة وأنا اطالعه بصمت ، ...لاأعرف ماأقول؟؟
خفت أن تهطل دموع لتجرف في طريقها كل أثر لرباطة جأشي الذي حاولت ان اكذب على نفسي في قوته....
وضاع كل ذلك ، امام أولى نظرات التعاطف التي غمرني بها هذا العجوز الطيب...
اجهشت بالبكاء أمامه....وأنا أحشر رأسي الذي جملته لأجلك بين كتفي التي كساهما ثوب معطفي الخشن، ..أخبأ وجهي بكفيّ الصغيرتين...وأنا أنكمش على نفسي في تهويدة البكاء ، كأنني أحضن نفسي بنفسي....
والبكاء لايعرف الإنقطاع ...ولايريد أن يعرف طريقه...
سارع العجوز الطيب بأحضار كرسي ووضعه أمامي بجانب قنديل يبعث الحياة لونا فوق تلك الزهور ، فيغمرها ببهجة تناقض ماأشعره الأن...
وجلست ، وقد هدأت هذه المرة من عاصفة البكاء..وسط فوضى من مناديل
وأنا أتذكر ماقاله محمود درويش ذات مرة :
الموت مثلي يعشق فجأة..
وأنا والموت لانحب الإنتظار
لاح رفات ابتسامة شاحبة وسط دموع لم تجف بعد....وأنا أفكر أن عاصفة بكائي كذلك تأتي كما الموت فجأة..وأنها لاتحب الإنتظار...مثله...
كما لاأحب الإنتظار ....في غيابك المسموم