هل نغمض أعيننا، ونصم آذاننا، ونلجم ألسنتنا، ونكف أيدينا، وكأن شيئاً لم يحدث؟!·· وأَنَّى لمؤمن غيور يسمع ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستهزَأُ به، ويُسخرُ منه بالكلمة المقروءة والمسموعة وبالصورة والكاريكاتير، ثم يدفن رأسه، ويؤثر الصمت !؟ وماذا يبقى للأمة من كرامة يوم يُنال من مقام نبيها وإمامها، ويتطاول عليه أراذل الناس بهذه الصورة الوقحة السافرة، ثم لا يُنتصَرُ له، ولا يُذاد عن حياضه؟!· أينتصر الوثنينون وعبَّاد الحجر والبقر لرموزهم ومقدساتهم، فتقوم الدنيا ولا تقعد لتمثال بوذا، بينما يصمت المسلمون، ولا يحركون ساكناً، ولا يغضبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً يليق بحرمته وعظمته، ويوفه حقه، ويكون على مستوى الحدث وما ينذر به من خطر، ويقمع هذه الغارة الهوجاء التي لا تكاد تهدأ؟!·
صمتٌ غريبٌ أو مريبٌ يقابل به العدوان، يفصح عن عجزٍ فاضحٍ أو نسب كاذب، ويشبه الصمت بل الصمت خير منه رد بارد يأتي على استحياء، لذر الرماد في العيون، وإبراء الذمة على رؤوس الأشهاد !· أيرضى عنا ربنا سبحانه، وقد اتخذ أراذل القوم رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم غرضاً لسهامهم الحاقدة المسمومة؟· ألا يُغْضِبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منا هذا التبلد والعجز والسلبية التي نتعامل فيها مع الحدث؟· روى البخاري أن أبا سفيان أشرف في زهو وغرور إثر ما أصاب المسلمين في أحد، فقال: أفي القوم محمد؟· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه ! فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه· فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا فلوا كانوا أحياءً لأجابوا· فلم يملك عمر ] نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يسوؤك ! فقال أبو سفيان: أعل هبل !· فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه ! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل· فقال أبو سفيان: لنا العزَّى ولا عزَّى لكم· فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه ! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم· قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني· فهلا تعلمنا من رسول الهدى كيف ندير الحرب الإعلامية، وكيف نرد عن الله وكتابه ورسوله؟·
لن نبادلهم السب والاستهزاء بمثله، لأنه ليس من خلقنا، وديننا ينهانا عنه، ثم إننا نحن المسلمين نُجل الرسل جميعاً، ونوقرهم، ونصدقهم، و (لا نفرِّق بين أحد من رسله)· ونحن إذ نغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا لا ندعو إلى فتنة، ولا نحرِّض على ترويع، ولكننا - في الوقت ذاته - لا نرضى أن تمر واقعة بهذا الخطر دونما حساب ولا عقاب للأيدي الآثمة التي اقترفت هذه الجريمة القذرة، أو على أضعف الأحوال أن نقوم بواجب الإنكار بما نقدر عليه إنكاراً مضبوطاً بضوابطه الشرعية وآدابه المرعية، وأن نعبئ الأمة كلها، لرفض هذا العدوان وإزالة آثاره والرد عليه بما نقدر عليه، وما نقدر عليه كثير· إذا كنا نحب محمداً صلى الله عليه وسلم، فهذا امتحان الحب، والحب يعرف بالفعال لا بالأقوال ! روى البخاري عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة ] بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بجحفة له وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: " انثرها لأبي طلحة "· قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر الى القوم، فيقول أبي طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك !· فأين هذا المسلم الغيور الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من والده وولده والناس أجمعين، فيردد قولة أبي طلحة: نحري دون نحرك، وَعِرضي لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ، ونفسي له فداء؟!·
إن من يغمض عينيه ويؤثر الصمت لا يعدو أن يكون صمته جبناً مقيتاً وخوراً مهيناً، وإن ألبسه بدثار الحكمة والعقلانية، وجمَّله بدعوى التزام الحكمة وضبط النفس وعدم الانجرار وراء العاطفة والحماس، إلى آخر هذه العبارات المكشوفة التي استهلكت ومجتها الأسماع، ولم يعد بمقدورها أن تستر السوآت ! وليس من يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغضب له، ويغار عليه، كمن يستقبل الخبر ببرود وهو متكئ على أريكته، فلا يلقي له بالاً، فإذا ما أخبر بهزيمة فريقه الرياضي هاج هياج الثور ! ليس هذا المتكئ وذاك القائم الغضبان سواءً·
إن الصمت ليس حلاً ولا موقفاً، ولا ينسب إلى ساكت قول، بل هو بلادة في الحس، وموت في المشاعر، ومرض في القلب، ورقة في الدين، وخورٌ في العزيمة، ولين وارتخاء أصاب عُرى الإيمان، يوشك إن تتابع واستفحل أن ينقضها واحدة إثر واحدة، وهذا يعذر الرقيب إذا أساء الظن، ويبرر له أن يتهم الحب، ويشكك في النسب، وإلا فكيف يُهزأ بسيد ولد آدم، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، ولا يتمعَّر الوجه، ولا يحزن القلب، ولا تدمع العين؟·
أما في الأمة من أديب أو كاتب أو شاعر أو رسام أو فنان يذبُّ عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وينافح عنه ويقوم في الأواخر مقام حسان في الأوائل، ويقول لصحيفة (جلاندز بوستن) الدنمركية وجريدة (ماجزينت) النرويجية والآخرين ما قال حسان لله دره:
هَجَوتَ مُبارَكاً بَرّاً حَنيفـاً
أَمينَ اللَهِ شيمَتُهُ الوَفاءُ
فَمَن يَهجو رَسولَ اللَهِ مِنكُم
وَيَمدَحُهُ وَيَنصُرُهُ سَواءُ
فَإِنَّ أَبي وَوالِـدَهُ وَعِرضي
لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ
إذا كنا نحب محمداً صلى الله عليه وسلم، فهذا امتحان الحب، ولنرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ما تقر به عينه ويطمئن به قلبه، فيُسرُّ بنا حين تعرضُ أعمالنا عليه، وهو في قبره حي طري· يجب أن تتحول كل وزارة إعلام في بلاد المسلمين بل كل صحيفة ومجلة ونشرة وكتاب إلى لسان حسان، لتدافع عن رسول الله وتذود عن حياضه، وتلقم الشانئ المستهزئ الحجر، وإلا فلنرتقب - والعياذ بالله - فتنة لا تبقي ولا تذر·
بقلم الكاتب: محمد علي الخطيب
فداك ابي وامي يارسول الله