تفكر ساعة…… الإيمان بالغيب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد…
مدح الله المتقين في آيات كثيرة من القرآن الكريم وذكر لهم سبحانه وتعالى ميزات كثيرة وكبيرة في الدنيا والآخرة، وأعظم وأعلى وأهم ميزه هي التي تذكرها الآية الكريمة في سورة التوبة:
بسم الله الرحمن الرحيم: ((إن الله يحب المتقين.)) (التوبة:7)، فالمتقين يحبهم الله وهنيئاً لمن يحبه الله.
وللمتقين صفات كثيرة وصفهم الله بها في مواطن متعددة في القرآن الكريم وأول واهم صفة ذكرت للمتقين في القرآن الكريم هي صفة "الإيمان بالغيب" كما ورد ذلك في الآيات الأولى من سورة البقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم: ((آلم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)) (البقرة:1-5)
ما معنى الإيمان بالغيب؟
الإيمان بالغيب هو التصديق بما غاب عن الحواس كالخالق وصفاته والملائكة والجنة والنار والقدر، فنحن نؤمن بالله تعالى دون أن نراه بعيننا أو ندركه بحواسنا ونؤمن بالجنة والنار ونؤمن بالملائكة دون أن نراها بعيننا أو ندركها بحواسنا.
كيف نؤمن بالغيب؟
إذا كانت هذه الأمور هي غائبة عن الحواس فكيف إذاً نؤمن ونصدق بها وهل هذا المنهج في الاعتقاد وفي التفكير هو منهج علمي صحيح ويقدره العقل؟
وللإجابة عن هذا السؤال نضرب المثل التالي:
لو أن إنساناً أكل طعاماً في السوق وبعد فترة من الزمن بدأت عنده آلام وأوجاع في البطن ثم ظهرت عنده أعراض القيء والإسهال، فهذا الإنسان سيعرف ويتوصل ويؤمن بسبب مرضه عن طريقين اثنين:
الأول:- إما أن يفكر هو ويتوصل إلى حقيقة وجود التسمم في الطعام الذي تناوله في السوق فيبدأ بالحمية ويتناول اللبن ويعالج نفسه بالأدوية البسيطة المعروفة فيشفى بأذن الله.
ولكن كيف عرف هذا الشخص وجود السم والجراثيم في الطعام الذي تناوله في السوق؟ هل رأى الجراثيم وهذا السم بعينه وهل أدركها بحواسه؟ كلا ولكنه رأى أثر هذه الجراثيم والسموم وهي الأعراض التي ظهرت له بعد تناول الطعام فصدق وآمن بوجودها دون أن يراها أو يدركها بحواسه، فآمن بالشيء عن طريق آثاره، وهو اعتقاد صادق ومنهج علمي صحيح في التفكير لا يختلف عليه اثنان.
الثاني:- أن يذهب إلى الطبيب المختص الموثوق بصدقه وبعلمه، فيكشف عليه ويقول له: أن هذه هي أعراض التسمم الغذائي فيصدق بوجود السم والجراثيم في الطعام الذي طعمه بإخبار الطبيب المختص الموثوق به دون أن يرى هذا السم وهذه الجراثيم بعينه أو يدركها بحواسه، وهو اعتقاد صادق ومنهج علمي صحيح في التفكير لا يختلف عليه اثنان أيضاً.
ولله المثل الأعلى، فالإيمان بالغيب هو منهج علمي وطريقة في التفكير صحيحة ومقبولة لدى جميع الناس، حتى الكافر وحتى الإنسان المادي الذي يدعي انه لا يؤمن بالغيب جحوداً وعناداً واستكباراً، فهو يتبع هذا المنهج في التفكير في مختلف تفاصيل حياته اليومية.
بل أن الشيء العجيب هو انه حتى الحيوانات عندها نوع من هذا الحس وهذا الإدراك وهذا الاستدلال هداية من الله سبحانه وتعالى، فالفئران مثلاً عندما تأكل احداها أكلة مسمومة وتمرض وتموت بعدها مباشرة، فإن الفئران الأخرى لا تقترب من هذه الأكلة فتدرك بأنه مسموم وذلك عن طريق اثر السم في الفأرة التي أكلت فماتت، وليس عن طريق رؤية أو شم السم في الطعام، ولهذا فإن السموم التي تصنع الآن لمكافحة القوارض مثل سم الهيبارين الذي يؤدي إلى حدوث النزف الدموي ثم الموت فإن أثره يبدأ بعد يومين تقريباً من تناوله وذلك تمويهاً وتظليلاً للفئران الباقية حتى لا تربط بين الطعام المسمم الذي تناولته هذه الفأرة وبين موتها لكي تتناوله جميع الفئران ولا تتجنبه!!
وكثير من الحيوانات عندما تأكل أكلة تشعر بفسادها عن طريق بدء الأعراض المرضية عندها فإنها هداية من الله تعمد إلى نباتات معينة تجعلها ترجع (أي تتقيأ) ما أكلت فتتخلص بهذه الطريقة من الأكل الفاسد.
فالذي لا يستخدم حواسه وعقله ليدرك الأمور الغيبية بآثارها حاله أضل من حال هذه الحيوانات، قال تعالى في سورة الأعراف:
بسم الله الرحمن الرحيم: ((ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)) (الأعراف: 179)
فالإنسان الذي لا يستخدم حواسه وعقله لرؤية الآثار فيؤمن بالمؤثر حاله أضل وأسوء من حال الأنعام التي عندها نوع من هذا الإدراك كما نستنتج من الأمثلة التي ذكرناها.
وهكذا فالمؤمن يؤمن بالله والملائكة والآخرة بالغيب فهو لم ير بعينه ولم يلمس بحواسه ولكنه يؤمن بالغيب وذلك عن طريقين.
الأول:- هو مشاهدة الأثر فيؤمن بالمؤثر، وآثار الله نراها تتجلى بوضوح في كل ذرة من ذرات الوجود.
كما هو منهج الإعرابي الذي قال:- البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج وارض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على العليم الخبير. فصدق وآمن.
وكما هو منهج جميع العلماء والعقلاء على وجه الأرض.
إن نيوتن عندما اكتشف الجاذبية الأرضية فانه لم يراها بعينه، ولكنه رأى التفاحة تسقط من الشجرة إلى الأرض فقال إن سقوط التفاحة من الشجرة على الأرض هو اثر جاذبية الأرض، فآمن بوجود الجاذبية دون أن يراها ويدركها بحواسه، وصدقه على هذا الاستدلال جميع العلماء والعقلاء في العالم، وبنفس هذا المنهج في التفكير، يقول نيوتن: هل يعقل أن تصنع العين المبصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت، فآمن وصدق بالعليم عن طريق اثر العلم في المخلوقات.
الثاني:- هو تصديق إخبار المختصين الثقاة، فالذي يمرض فانه يذهب إلى الطبيب المختص الثقة فيخبره بسبب مرضه ويصف العلاج المناسب له فيؤمن بصحة كلامه ويصدقه دون أن يرى سبب مرضه بعينه ويلمسه بحواسه، وهي طريقة علمية صحيحة في التفكير لا يختلف عليها اثنان، ولكن إذا كان معرفة أسباب الأمراض وطرق علاجها هو من اختصاص الأطباء ففي الأمور العقائدية الغيبية من هم المختصون في هذا المجال فنأخذ بكلامهم ونؤمن بهم ونصدقهم.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الجن:
بسم الله الرحمن الرحيم: ((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول…))
(الجن:26- 27)
فالله سبحانه وتعالى لا يطلع على غيبه أحداً إلا الرسل، فنذهب إلى الرسل ويخبرونا عما غاب عنا من أمور، فنصدقهم ونؤمن بها بالغيب دون أن نراها لأنهم المختصون بمعرفة هذه الأمور.
ولكن هذا لا يكون إلا بشرط، وهو أن نستوثق أولاً بأنهم حقاً رسل من عند الله ونتفحص بينات رسالتهم، ثم نشهد لهم بعد ذلك بالرسالة، ثم بعد ذلك نؤمن بما يخبرونا به من أمور غيبية فنصدقهم ونؤمن بها بالغيب.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل الرسل، بماذا أرسلهم ليؤمن الناس بهم، بالجيوش الجرارة أم بالأموال الطائلة؟
لا هذا ولا ذاك "لقد أرسلهم بالبينات"
كما قال تعالى في سورة الحديد:
بسم الله الرحمن الرحيم: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز.)) (الحديد:25)
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي الحجج والأدلة والبراهين حتى يتيقن الناس بصدقهم فيؤمنوا بما يذكروه من الغيب.
ولهذا قال الله تعالى في نهاية الآية (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله مؤمناً بالغيب، قال أبن عباس ينصرونه ولا يبصرونه. وإنما عرفوه عن طريق تصديقهم برسله الذين أرسلوا بالبينات.
ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى يشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: (والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون)
أي أننا نؤمن بالبينات التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم واهم واعظم بينه هي القرآن الكريم… البينة العظمى والمعجزة الكبرى للرسول صلى الله عليه وسلم فنرى وندرك هذه البينة بحواسنا ونؤمن أنها من عند الله ثم نتيقن بعد ذلك بكل ما يخبرنا به من أمور غيبية ومنها الآخرة وما فيها من مواقف ومشاهد.
والأيمان بالغيب… بهذا المنهج الذي أراده الله سبحانه وتعالى، باستعمال الحواس وباستعمال العقل والإدراك للمشاهدة والتعرف على آثار الله في الكون وعلى تجليات أسمائه الحسنى في الوجود ثم الأيمان به بالغيب والذهاب إلى الرسل الكرام والتوثق من صدقهم عن طريق مشاهدة بينات رسالتهم وبنبوتهم ثم التصديق والتيقن والأيمان بالغيب بما يخبرونا به عن الله سبحانه وتعالى وعن الملائكة وعن اليوم الآخر والجنة والنار، هي صفة عالية جعلها الله سبحانه وتعالى أول صفة للمتقين الذين يحبهم الله، وأعطى الله سبحانه وتعالى الذي يتصف بها جائزة ثمينة جداً وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: ((أولئك على هدى من ربهم)). أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة على نور وبيان وبصيرة من الله، نور وبيان وبصيرة من ربهم يبصرون بها البينات والآثار فيؤمنوا بالغيب، ونور وبيان وبصيرة من ربهم يبصرون به عالم الغيب كأنه عالم الشهادة (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه…) حديث صحيح.
ولهذا نسمع عن قصص المتقين الذين يؤمنون بالغيب فنسمع عن من…
(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)
جعلنا الله وإياكم منهم
وحشرنا معهم أن شاء الله تعالى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول