صخبٌ لاحتياجات متأخّرة "
البارحة كان الصقيع شديدا ، و لكنّي بتّ متعرّقا
أصحو نصف صحوة،وأمسح صدري وأعود فأنام
ولكنّي صحوتُ اليوم فلم أجد رائحةً لعرقي،بل وجدت شذاكِ أنت
،فاشتقت إلى الصيف.
في العاشرة من كل صباح وعلى الريق،أنت في معجون أسناني
وطبق إفطاري،وقبلَ ذلك،أنتِ في ترنّح قدمي المرتبكة
وفي قبس الضوء الأول وهو ينفذ إلى كياني،من خصاص عينيّ
اللتين تنفتحان للتّو،بل في التنفس الأول من أنفاس استيقاظي،
فهل تسمحين لي أن
أحلم بأن أكون أغنيتك الأولى؟
تهطلين فيبدأ الغليان،وتتنافض جميع قطرات الدم
بين قطرة قافزة لردة فعل الهطول،وأخرى منفجرة من الداخل
بسبب البركان،حفلة دموية بكل معنى الكلمة،الارتواء فيها
والظمأ يتناسيان أحقادهما القديمة، ويتآمران عليّ
في رقصة مشتركة.
لقد اختصرت المستقبل وقرّرت ذبحه قربانا للحظات
من الزخم العشقيّ،استحضرت الأبد،وحكمت عليه
حكما حضوريا قاسيا بالتقزم الفوريّ،طويت في قبضتي
جبله الأسطوري، وكوّرته كورقة هشّة مهترئة،ثم طوّحت به
في ذرّة من ذرّات اللحظة المارقة،في اللمحة من لمحات الثانية
التي نطقت فيها معترفة بالكلمة التي خلخلت الموازين
وكأنّ نواة الأرض شهقت شهقة ابتلعت فيها
بحار الأرض ويابستها وغلافها الجوّي برمّته،ألا يعني ذلك
موت الأبد في لحظة صخب مارقة على نواميس الكون؟
لكن كيف لي أن ألبس لك ذاكرة آنيّة وقتية مرحلية
إقليمية،في جزيرة فرح أقصيها عن يابسة ذكرياتي
المتوجّعة والمندهسة تحت أثقال تساؤلاتك المتوجّسة،
وأنت القائلة بملء فيك:
"خفت أن صوتي صدمك،أنّ بحّته خذلتك
أنّ وخزه جعلك تفكّر بالرحيل"!!
منذ متى وأنت خبيرة بتضاريس الألم،حتى تصنعي مني
بهذه الألفاظ الملتاعة فاجعة عشق،وانتفاضة فزع
وارتعاشة وجع.لا لست خبيرة بتضاريس الألم،بل
أنت بالذات عامل من عوامل تعرية القلوب
من طمأنينتها،لتحفري فيها بإزميل شكّك نقوشا
تنجب أبناء غير شرعيين من الشعور بالذنب.
أنا حبل قديم مليء بالعقد،جعد،متقصّف الحوافّ
،لكن بإمكانك أن توثقي به ما تشائين فلا تخشين
انفلاته،إنّه ليس أفعوانيّ الملمس ليرحل منسابا
إبّان غفوة طمأنينة تأخذك،إنّ عقده الباطنيّة
الخارجية،خشونته،خمش حوافّه:عوامل بقاء لا عوامل رحيل.
وكلّ هذه الكلمات التي تتترّسين بها لا تصلين بها
إلى الكلمة السريّة التي تجدينها تنتظرك خلف
الستائر،بعد أن تفرغي من شطب وإعدام كلّ الكلمات المتقاطعة
الأخرى،ستبقى لك كلمة واحدة،تفرّقت أحرفها
منذ عهد بعيد،وتغذّتْ جذورها في صحراء التيه
على مياه جوفيّة سحيقة العمق،على أمل أن تلتقطها يدك
ذات يوم وتزيح عنها الغبار،وتنطق بها شفتاك
وحينها سيتشكّل المعنى الحقيقي الذي ظللت تدندنين حوله
وتراوغين دون بعث روحه بترياق أوتار صوتك،
قولي:أغويْتكَ،وسأقول:صدقتِ .
آه من بحّة صوتك،ذلك المنشار الذي لا يفارق
عادته،يبتر غاديا ورائحا،يقطع صاعدا وهابطا،يفتّتُ مرحّبا
ومودّعا،يجنّد الخلجات تجنيدا إجباريّا،يلغي حُجب الفراسخ
والأميال بسرعته الضوئية،ويدخل بالنبضات
عالم تحطيم أرقام السرعة القياسية.
وآه من لثغة الراء في فمك،التي إن كانت تشبه شيئا فليست
إلا كنقشٍ حريريّ اتخذ له مقعداً في دنيا من المخمل.
حرف الجيم قصّة أخرى،ليس حرفا أصمّ في فمك،بل يجيء
بوحْي من الغسق،كإشارة نداء أطلقتها عابرة محيط ضخمة
تخترق الضباب،ليس إلى شواطئ البحر،ولكن إلى شاطئي
الذي ثنى ساقيه إجلالا،وأطرق برأسه حيرة،أمام هذا الزخم من الفتنة.
تجيء الجيم من فمك فتحرق في سبيلها
كل الجيمات الصمّاء،وأتمنى لو أزجّ بها في مخارج
أفواه كل الصبية الذين يتعلمون الكلام،لأجد من يتذوّق معي،
في براءة بيضاء،متعة وعناء هذا الاحتلال الجيميّ المستبدّ.
ومتى كان صوتك الأبحّ إلا كوخز العطر في أنف
الوليد الذي يتفتق عن عطسته الأولى،العطسة البكر
التي يتعرف بها على عالم سيكون له نصيب وافر من
عمر حواسّه،عالم اسمه العطر.
صوتك
،بالنسبة لقلبي الذي عاد طفلا،أرجوحة بعيدة
المدى،الذهاب فيها ينسي معنى العودة،والعودة
منها تعني موت الفجأة.
أما وشوشتك،فهي كائنات ذات حراشف زلقة،تنطلق
من أذني زاحفة نحو كل الجسد ممارسة فيه كل
جرائم الانتهاك،لتلتهم بأنيابها المدبّبة كل الغشاءات
التي تغطي فوهات ينابيعه المتعجرفة، ويصبح كيانا رهيفا
معلقا متأرجحا، العضو الثابت الوحيد فيه أذنه، وبقيته الذائبة
مشنوقة بعنقها بأنشوطة الوشوشة، كقماشة مبتلّة
تلهو بها هبّات طائشة.
وغنّتك التي تشبه مقطعا بكائيّا،بالنسبة لصلابتي،أفران تنصهر
فيها كل الأشكال الفولاذية لصلابة الرجل.
وكحّتك الرقيقة،التي تحاكي رقّة خصرك،بالنسبة لوجيب صدري
،فأسُُ باترة تحيل عظام ضلوعي حطاما هامدا.
ويتردّد نفسك المكوي بلظى الاعتراف،فأتمنى لو كانت للأنفاس
قناني بلّوريّة تودع فيها،لأدفئ قارّتي الجليديّة بلظى زفراتك المتولهة.
أنا لا أخجل أن أستجلب عطفك بضعفي،لأن ضعفي هو الذي
أوقعني في شراك حبك منذ البداية،وقد أدركت -متأخرا جدا-
لماذا كان الشعر الغزير صفة جمالية في المرأة،هذه الغدائر المتماوجة
في سحر سرمدي ما هي إلا إشارة إلى الصفة الغالبة
في جنس النساء:أنّه لا تحرّر من شباك حبّهن إلا بالموت.
ولم أعد أحمل إلا همّ الجراد الذي هجم على خضرة
طمأنينتي،كيف أصرفه ليأكل جنوني الأشدّ خضرة،والأشدّ فوحاً
،والأشدّ بريقا وتموّجاً تحت ضوء الشمس،لكنّي أعود
لأتذكر أن أسراب الجراد لا تأكل الأخضر وحده
بل تأكل الأخضر واليابس معه.
بك يا معذبتي أيقنت أنّ القلب يغطّ نوما تحت الأغطية
وبدون الأغطية،لا إراديّا،وينتفض منبعثا من تحت
الأنقاض والأتربة أو في العراء،لا إراديا كذلك.
وآمنتُ أنّ الحبّ لم يكن قطّ مقسّما بالقسطاس المستقيم
بين القلوب،وهو إذن ليس كالتغريد المتفرّق
على حناجر الطير.
الحبّ ينصب فخاخه معلّقا في أرجوحة لاهية بين السماء والأرض
،متهادية في ارتفاع متراوح يسمح لها بالتصويب
إلى ما بين التراقي والأحشاء،مطلقة عيارها الناري المجهول
الجرم البادي الأثر، الذي حارت الألباب في تصويره حتى جاء
هوميروس بالسهم الذهبي لكيوبيد: طفل الحب العابث.
منقول