(4)
كانت الساعة الحادية عشرة ليلا حين توقفت سيارة الشرطة تسبقها سيارة مدنية، وتلحقها أخرى.. ونزل رجال الشرطة في المكان الذي حدده كريم السامعي، بعضهم بلباس مدني لكنهم جميعا كانوا مدججين بالأسلحة.
سأل الضابط سعدون كريم السامعي الذي كان معهم في سيارة الشرطة عن مكان الجثة، فراح يندفع إلى المكان مشيرا بيمناه متلفتا ذات اليمين وذات الشمال، وقد عرشت الدهشة على ملامحه.
- كانت هنا أقسم أنها كانت هنا.. سبحان الله!
وتفرق جمع من الشرطة يبحثون في كل الأنحاء مستعملين الأضواء الكاشفة، في حين قام بعضهم بمهمة الحراسة.
قال الضابط، وقد يئس من وجود الجثة:
- هذا تبليغ كاذب ياسي كريم.. وإزعاج شنيع للسلطة.. وعقابه وخيم
وراح كريم يقسم بأغلظ الأيمان أنه رآها.. وأنه تأملها كثيرا، وجس نبضها عن طريق شرايين الرقبة، وعن طريق دقات القلب، وأنه تأكد من موتها..
وأمر الضابط الرجال بالاستعداد للعودة، فهرعوا متوجسين يمتطون سياراتهم تحت جنح الظلام، وقد أطفأوا مصابيحهم الكاشفة، وارتفع صوت أحدهم منبها إلى أنه وجد شيئا، وراح يقدمه للضابط الذي راح يفحصه على نور المصباح.
وأعادت نوارة زوجة كريم الاتصال للمرة الثالثة دون جدوى.. في البداية كان الهاتف يرن لكن كريم لا يرد، أما في المرة الثانية والثالثة فقد أغلقه تماما..
- في الأمر إنَّ، ليس من عادة كريم أن يتأخر عن الرجوع إلى البيت، وليس من عادته أن لا يرد على الهاتف أو يغلقه.
أعادت أخته بدرة هذا الكلام للمرة السابعة على التوالي، وأعادت نوارة توكيد كلامها نفس عدد المرات والحيرة تلهث على وجهيهما، وضمت بدرة إلى حضنها ياسر بن كريم الأصغر وقد نجحت أخيرا في إعادته للنوم دون أن تتحرك من جلوسها على الكرسي قرب النافذة التي ظلت تفغر فاها على الشارع المعتم..
أعادت زوجته نوارة النظر من النافذة، ودققت بصرها في فجاج الشارع، ثم عادت للجلوس قريبا من بدرة، وقد رفعت رأسها إلى الساعة الحائطية
- مالعمل الآن؟ مضى منتصف الليل ولم يعد.
وردت بدرة وهي ترمي ببصرها إلى الشارع
- منذ ساعتين لم تمر سيارة واحدة في هذا الشارع..
- الناس ينقطعون عن التنقل بعد العاشرة إلا للضرورة القصوى
وسكتتا والخوف يلف على عنقيهما حباله الغليظة.. فهما تدركان أن ظروف البلاد تحت ظروف حالة الطوارئ واشتداد هول الإرهاب أصبحت صعبة جدا، وأن التنقل ليلا يعد مغامرة خطيرة العواقب.. وكثيرا ماحصد الرصاص أرواحا بريئة ليست في الحابل ولا في النابل.. وليست في العير ولا في النفير، ولكن ساقها قدرها إلى موت ظالم.
ودار في خلد نوارة أن تخرج بحثا عنه، ثم عدلت عن الفكرة إلى وجوب الاتصال بالشرطة، أو بالمشفى، لكن بدرة قالت وهي تقوم من مكانها وتضع الصبي في سريره:
- ماذا لو اتصلنا بفاتح اليحياوي..؟ يجب عليه أن يتصرف في المسألة.
ولم تتشجع نوارة للفكرة ففاتح اليحياوي مازال محنطا بمآسيه وانكساراته.
ولما همت بالرد تناهى إلى سمعها صوت محرك السيارة.. فمدت رقبتها إلى الشارع..كانت ظلمته تتراجع منهزمة أمام مصابيح السيارة.
ما كاد كريم يلج البيت حتى ارتمت على صدره وقد سبقتها الدموع لتمنعها عن الكلام.. ووقف هو يضمها إلى صدره يغالب تعبا قاهرا.. ما أصعب فراق دفء الحبيب ولو ليلة واحدة والتفت ببصره فرأى أخته بدرة تنتظر دورها، وقد امتلأت عيناها بالدموع..
ودخلا جميعا إلى الدار، كان الصغار نياما، وكانت زوجة الأب في بيتها من الضفة الأخرى من الفناء الواسع الممتلئ أشجار فواكه وزينة.
وانهالت الأسئلة الكثيرة على كريم تطلعا لمعرفة الحقيقة، وتعبيرا عن الحيرة الكبيرة التي تملكتهما.
وراح كريم يعيد سرد الحكاية من أولها، لكن باختصار شديد، وهمَّ أن يطلب طعاما، أو يحمل نفسه على الاستحمام، لكن النعاس غلبه فنام حيث هو دون أن يغيِّر ملابسه.
وقامت نوارة من مكانها محاذرة، ومدت بدرة يديها فنزعت حذاءه ولحقتها..
حاشية 4:
وفاتح اليحياوي هو ابن خالة كريم السامعي.. لم تجمع بينهم المدينة الواحدة فحسب.. بل والبيت الواحد أيضا.. لقد قضيا الطفولة معا لايكادان يفترقان في ليل أو نهار، حتى اضطرت العائلتان إلى تسجيلهما في مدرسة متوسطة بين الحيين، وكان التنافس بينهما على أشده لكن ميولهما اختلفت ففي الوقت الذي اختار فيه كريم السامعي دراسة الزراعة، مال فاتح اليحياوي إلى دراسة علم الاجتماع والأدب والفلسفة.
وفي الوقت الذي كان كريم السامعي يقضي معظم وقته عاملا بالمزرعة، كان فاتح اليحياوي يتخذ من بيته صومعة يمارس فيها رهبنة العلم والفكر والثقافة، ويقرأ كل ما تصله يداه من سقراط وكنفشيوس مرورا بالغزالي وابن رشد وابن طفيل وابن عربي إلى كانط وديكارت وتشومسكي.
وإذا تزوج كريم من نوارة وأنجبا أولادا، فإن فاتح اليحياوي ظل يرفض الزواج مخيبا آمال والديه، تاركا الفرصة لإخوته الأقل منه، مؤكدا مقولة أمه: فاتح تزوج الكتب
وقد قضى فاتح اليحياوي سنوات معتزلا الناس، يقضي وقته في القراءة والتأمل وسماع الموسيقى، والوحيد الذي كان يجرؤ على اقتحام خلوته هو صديق الطفولة كريم السامعي الذي كان يسميه حي بن يقظان، وكان فاتح اليحياوي يحس بالنشوة وهو يسمع هذا اللقب ويقول:
- ليتني أكونه.. تلك درجات العليين الفائقين
ثم تنفتح شهيته للحديث عن آسال وسلامان وحي وأمثالهم في واقع الناس
لنا عوووووووووووودة
نووووووووووور