باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ
باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
وقوله:{ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } .
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- { أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله} .
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: { أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله} رواه عبد الرزاق
هذا باب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} .
باب قول الله تعالى: الآية الأولى والآية الثانية جميع الباب منعقد للآيتين جميعا لاتصالهما، والمراد بهذا الباب بيان أن الجمع بين الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان، ولا يتم التوحيد إلا بذلك، فانتفاء الجمع بين الأمن والرجاء انتفاء الجمع بين الخوف والرجاء هذا مناف لكمال التوحيد.
فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء، وأن يجعل رجاءه مع الخوف، وألا يأمن المكر، كما لا يقنط من رحمة الله -جل وعلا-، فالآية الأولى وهي قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فيها أن المشركين من صفاتهم أنهم أمنوا عقاب الله، فلم يخافوا.
والواجب بالمقابل أن تكون قلوبهم خائفة وجلة من الله -جل وعلا- قال سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } يعني: أيعلمون تلك المثلات وفعل الله -جل وعلا- بالأمم السابقة التي قصها الله في سورة الأعراف، فأمنوا مكر الله، فإذا كان كذلك، وحصل منهم الأمن مع وجود النذر فيما حولهم، وأن الله قص عليهم القصص والأنباء، قال: { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} والأمن من مكر الله هو ناتج عن عدم الخوف وترك عبادة الخوف، وعبادة الخوف قلبية، الخوف خوف العبادة من الله -جل جلاله- وهذا الخوف إذا كان في القلب، فإن العبد سيسعى في مرام الله، ويبتعد عما نهى الله، ويعظم الله -جل وعلا- ويتقرب إليه بالخوف؛ لأن الخوف عبادة، ويكون عبادة بمعان، ومنها أن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالخوف، وأن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بعدم الأمن من مكر الله.
فذلك أن الله هو ذو الجبروت، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى فهم صفات الله -جل وعلا- وأسمائه التي منها القهار والجبار، وهو الذي يجير، ولا يجار عليه ونحو ذلك من صفات الربوبية، ومكر الله -جل وعلا- من صفاته التي تطلق مقيدة، فالله -جل وعلا- يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه وبمن مكر بدينه؛ لأنها في الأصل صفة نقص، لكن تكون صفة كمال إذا كانت للمقابلة؛ لأنها فيها حينئذ إظهار العزة والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال.
فمكر الله -جل وعلا- من صفاته التي يتصف بها، لكن يكون ذلك على وجه التقييد، نقول يمكر بأعداء رسله يمكر بأعدائه يمكر بمن مكر به ونحو ذلك، وحقيقة مكر الله -جل وعلا-.
ومعنى هذه الصفة أنه -جل وعلا- يستدرج للعبد، و يملي له حتى إذا أخذه لم يفلته ييسر له الأمور حتى يظن أنه في مأمن غاية المأمن، فيكون ذلك استدراجا في حقه، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إذا رأيتم الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه، فاعلموا أن ذلك استدراج ) وهذا ظاهر من معنى المكر؛ لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج، لا ترادف في اللغة، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج، والكيد والاستدراج، ونحو ذلك، لكن نقول هذا من جهة التقريب، فالمكر فيه استدراج، وفيه زيادة أيضا على الاستدراج حتى يكون قلب ذلك المستدرج آمنا من كل جهة.
قال: وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } هذا فيه أن صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله -جل وعلا-.
ومعنى ذلك المفهوم أن صفة المتقين كصفة المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله، بل يرجون رحمة الله -جل وعلا-، والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعا، فإن الخوف عبادة والرجاء عبادة، واجتماعهما في القلب واجب، فلا بد أن يكون هذا وهذا جميعا في القلب حتى تصح العبادة، ومن هنا اختلف العلماء: أي الخوف والرجاء يغلب في القلب، هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف؟ .
والتحقيق أن الحال تختلف، فإذا كان العبد في حال الصحة والسلامة، فإنه إما أن يكون مسددا مسارعا في الخيرات، فهذا يتساوى، يعني: يجب أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء، يخاف ويرجو؛ لأنه من المسارعين في الخيرات، وإذا كان في حال الصحة والسلامة وعدم دنو الموت من أهل العصيان، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكف عن المعصية، وأما إذا كانت في حال المرض، وهي الحال الثانية، فإنه مرض المخوف، فإنه يجب عليه أن يعظم جانب الرجاء على الخوف، فيكون في قلبه الرجاء والخوف، ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه؛ وذلك لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى) .
وذلك من جهة رجائه في الله -جل جلاله-.
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم، فتجد أن بعضهم يقول: يجب أن يتساوى الخوف والرجاء، وبعض السلف قال: يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء وبعض السلف قال: يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، وهي أقوال متباينة ظاهرا، لكنها متفقة في الحقيقة؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا.
فمن قال: يغلب جانب الخوف على الرجاء، فهو في حق الصحيح العاصي، ومن قال: يغلب جانب الرجاء على الخوف، فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت، ومن قال: يساوي بين الخوف والرجاء، فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات، وهذه الحال التي هي حال المسددين هي التي وصف الله -جل وعلا- أهلها بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ونحوه قوله -جل وعلا- في سورة الإسراء: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وهذا ظاهر من ذلك، فالشيخ -رحمه الله- عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب، كما ذكرنا لكم بالأمس، هذه أبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك.
قال: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله) .
وجه الشاهد من ذلك أنه جعل اليأس من روح الله، وهو عدم الرجاء، وهذا الرجاء من القلب، وعدم أو ترك الإتيان بعبادة الرجاء جعله من الكبائر، وجعل الأمن من مكر الله وهو ذهاب الخوف من الله -جل وعلا- من القلب جعله من الكبائر، فعدم الرجاء في الله من الكبائر، وعدم الخوف من الله -جل وعلا- من الكبائر، وهي كبائر في القلب كبائر من جهة أعمال القلوب واجتنابهما جميعا يعني: لا يكون عنده رجاء ولا خوف هذه كبيرة أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله، أو كبيرة ترك الرجاء وحده من الله -جل وعلا-؛ ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال: (سئل عن الكبائر: فقال: الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله) .
وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس والأمن، اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله من أن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف، واجتماعهما واجب من الواجبات، وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه.
قال: وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله".
فيها ما في الحديث قبله، لكن هنا فصل في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا، وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر.
وهذا باعتبار بعض الصفات، لا باعتبار أصل المعنى، فإن القنوط من الرحمة واليأس من الروح في معنى واحد، لكن يختلفان من حيث ما يتناوله هذا، ويتناوله هذا، فالقنوط من رحمة الله عام؛ لأن الرحمة أعم من الروح، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم، وروح الله -جل وعلا- يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فقوله القنوط من رحمة الله هذا عام؛ ولهذا قدمه؛ فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى واختلاف في الصفات أو بعض ما يتعلق بالوقت، بهذا نقول: هذا الحديث مع الحديث قبله مع الآيتين دلالتهما على ما أراد الشيخ من عقد هذا الباب واحدة، ودلالة الجميع أن الخوف والرجاء واجب، اجتماعهما في القلب وإفراد الله -جل وعلا- بهما، والمقصود خوف العبادة ورجاء العبادة.
م0ن