إصابتك بالقنوط.. هي غاية الشيطان
الله جلَّ في علاه هو فارج الهم وكاشف الغم ومدر النعم ودافع النقم، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ } [النمل: 62].
ومن فضله جلَّ وعلا أنه يردف النقمة بالنعمة والبلاء بالعافية والضيق بالسعة، والحزن بالفرح، وجعل لكل شدة انفراجا، وجعل مع العسر يسرين فقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }(5) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }الشرح6 . كتب عمر إلى أبي عبيدة وهو محصور بالشام يقول: "مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين".
قال عبد الله بن مسعود: لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه، ثم قال : قال الله، عزَّ وجلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }(5) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }الشرح6.
وكم لله من لطف خفي
يدق خفاه عن فهم الذكي
وكم يسر أتى من بعد عسر
وفَرّجَ لوعة القلب الشدي
وكم هم تساء به صباحاً
فتعقبه المسرة بالعشي
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً
فثق بالواحد الأحد العلي
إن بعد الجوع شبع، وبعد الظمأ ريّا، وبعد السهر نوم، وبعد المرض عافية، سوف يصل الغائب، ويهتدي الضالّ، ويُفكّ العاني، وينقشع الظلام،
بشّر الليل بصبح صادق سوف يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشّر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشّر المنكوب بلطف خفيّ وكفّ حانية وادعة.
"إذا رأيت الحبل يشتد ويشتد، فاعلم أنه سوف ينقطع"
"مع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمن، ومع الفزع سكينة"
فلا تضق ذرعاً، فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة انتظار الفرج، والأيام دول، والدهر قُلّب، والليالي حبالى، والغيب مستور، والحكيم كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
- في هذه الأيام تتكالب الفتن والبلايا على الناس، وقد يصاب البعض بالقنوط واليأس، وهذه هي غاية الشيطان، فالحذر الحذر من الوقوع في شراكه، واعلموا أن بعد الشدة فرجا، وأن المسلم قد يساء بالمكروه، وهو خير له كما قال تعالى: {َعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216] ولنعلم أن الله كما يبتلي بالشر فإنه يبتلي بالخير أيضاً كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35 .
فليثق العبد بربه وليراجع دينه، وليعلم أن الله أراد به خيراً بتلك المصائب إن هو راجع دينه، واستقام على أمر ربه ففيما أصاب الناس من غلاء وقحط وخسائر آية كفيلة بأن يراجع الناس دينهم، ويبدلوا من حالهم.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }(94) {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } (95)[الأعراف].
يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني {بالْبَأْسَاءِ} ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. {وَالضَّرَّاءِ} ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك،{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } [الأعراف: 95] أي: حولَّنا الحال من شدة إلى رخاء.وعن الحسن البصري، أنه قال: عجباً لمكروب غفل عن خمس، وقد عرف ما جعل اللّه لمن قالهن، قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (155) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }البقرة156 .
وهذه الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لا بد لها من فوائد، فإن للشدائد فوائدَ على الرغم من أنها مكروهة للنفس، فمنها: أولاً: أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكَرْبُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات؛ أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد ويتنقى من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه. وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية إذا نزل بنا الكرب واشتدت الأمور وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم"
إن لله منناً على خلقه في كشف الضر وإجابة المضطر، نعرج على بعضها لترفع الهمة من اليائس، وترد الروح للقانط.
آدم عليه السلام، أول من دعا فأجيب، وامتحن فأثيب، وخرج من ضيق وكرب، إلى سعة ورحب، وسلا همومه، ونسي غمومه، وأيقن بتجديد الله عليه النعم، وإزالته عنه النقم، وأنه تعالى إذا استرحم رحم.
ثم نوح عليه السلام، فإنه امتحن بخلاف قومه عليه، وعصيان ابنه له، والطوفان العام، واعتصام ابنه بالجبل، وتأخره عن الركوب معه، وبركوب السفينة وهي تجري بهم في موج كالجبال، وأعقبه الله الخلاص من تلك الأهوال، والتمكن في الأرض، وتغييض الطوفان، وجعله شبيهاً لآدم، لأنه أنشأ ثانياً جميع البشر منه، كما أنشأهم أولاً من آدم عليه السلام، فلا ولد لآدم إلا من نوح.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } (75) {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ }(76) {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } (77) {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } (78)[الصافات].
واعدد بعدهما من شئت من الأنبياء والمرسلين، كإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وأيوب وغيرهم فكل منهم قد جاءه شدة طالت مدتها وعظم خطبها ثم منَّ الله بعدها بفرجه للصابرين.
يا فارج الهم عن نوح وأسرته
وصاحب الحوت مولى كل مكروب
وفارق البحر عن موسى وشيعته
ومذهب الحزن عن ذي البث يعقوب
وجاعل النار لإبراهيم باردة
ورافع السقم من أوصال أيوب
إن الأطباء لا يغنون عن وصب
أنت الطبيب طبيب غير مغلوب
فكل هذه دروس يستخلص منها المؤمنون أن الفرج بعد الشدة وأن مع العسر يسرا، وأن مع الكرب نفسا، فمن علم ذلك واستكان له واستعمل فيه الهدي النبوي والصراط السوي نال الأجر وعوجل بالفرج:
وما من شدة الا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء
ويقول جلَّ وعلا: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }يونس98 .
قال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم -قال قتادة: وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.
ومثلها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما في قصة الثلاثة الذين خلفوا وقصة الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار وغيرها من كروب كشفها الله بمنّه وفضله، فإياك والجزع والقنوط، ولتعرف للمصائب فضلها، ولتصلح من شأنك ما تكون به أهلاً أن يدفع الله عنك البلاء.
مجلة الدعوة