أفلا شققت عن قلبه؟! *
بقلم - د. محمد عمارة
الإيمان في الإسلام تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، ولا يطلع على حقيقته إلا علام الغيوب، فالذين يستبيحون لأنفسهم تكفير الآخرين وإخراجهم من الملة وإقصاءهم من الأمة بمثابة من يدعي لنفسه -دون حق- سلطان الله سبحانه وتعالى في المعرفة بأسرار القلوب والحكم على عقائدها!! ولهذه الحقيقة شاعت في كتب أهل السنة والجماعة الصياغات الفكرية التي تؤكد أن الكفر حكم شرعي، لا يُعرف إلا بنص أو بالقياس على النص فلا يحكم به بناء على الرأي. يقول تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} النساء 94.
يقول الإمام القرطبي: "إن في هذا التوجيه الإلهي من الفقه بابا عظيما، وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ، والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر، فالله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر".
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن أسامة بن زيد أنه قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية فصبحنا الحرقات -مكان من جهينة- فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي، فقال: "أقال لا إله إلا الله، وقتلته"؟. فقلت يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أفلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟ رواه مسلم.
وفي شرح هذا الحديث يقول الإمام النووي: "إنما كلفنا بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لنا طريق إلى معرفة ما فيه".
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: "إنه لا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".
صيانة الإيمان وعبث التكفيريين!
استمر هذا الموقف الإسلامي الداعي إلى عدم التكفير والذي إن كفر المقالة لا يكفر "قائلها"؛ إذ ربما كان لدى القائل بمقالة الكفر تأويل حتى ولو كان فاسدًا، أي وجهة نظر واجتهاد حتى ولو كان خاطئا، يخرجه من عداد الكفار ظل هذا الموقف هو السائد والشائع في مذاهب جمهور أهل السنة والجماعة حتى عصرنا الحديث.
يقول الإمام محمد عبده: "إن الله لم يجعل للخليفة ولا القاضي ولا المفتي ولا لشيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام... ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة علي إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه طريق نظره.. فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، وهي سلطات خولها الله لجمهور المسلمين، ولقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر".
هكذا أعلن الإسلام من خلال البلاغ القرآني والبيان النبوي ومن خلال فكر جمهور أهل السنة والجماعة ضرورة صيانة الإيمان عن "التكفير العبثي"... و"عبث التكفيريين"!؟