طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس الاعتقاد في نفوس الصحابة
أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله تعالى وبرسالته واليوم الآخر في نفوس أصحابه رضوان الله تعالى عليهم, وكان صريحاً في الدعوة إلى ذلك لا يكنى ولا يلوح ولا يلين ولا يحابي ولا يداهن في شئ مما أمره الله بإبلاغه حتى حسم مادة الشرك من نفوس أصحابه بالتربية الحكيمة والمتابعة المتواصلة والاختيار الموفق. فأسس تلك الدار الكريمة "دار الأرقم بن أبي الأرقم" التي جعلها صلى الله عليه وسلم مقراً لتربية أصحابه على الاعتقاد الصحيح وتأسيسهم عليه بعيداً عن تأثير الجاهلية من حولهم.
يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى:" أنظروا قليلاً في ما تحرى النبي صلى الله عليه وسلم من التدرج والترتيب للبلوغ إلى هذه الغاية, فقد قام بدعوة الناس - أولاً قبل كل شئ – إلى الإيمان وأحكمه في قلوبهم, وأتقنه على أوسع القواعد وأرحبها, ثم أنشأ في اللذين آمنوا تعليمه وتربيته طبقاً لمقتضيات هذا الإيمان تدرجاً بالطاعة العملية – أي الإسلام – والطهارة الخلقية – أي التقوى – وحب الله والولاء له – أي الإحسان – ثم شرع بسعي هؤلاء المؤمنين المخلصين المنظم المتواصل في تحطيم النظام الفاسد للجاهلية القديمة واستبدال نظام صالح به, قام على القواعد الخلقية والمدنية المقتبسة من القانون الإلهي المنزل من الرب تعالى, ثم لما أصبح هؤلاء الذين آمنوا ولبوا دعوته من كل وجهة – بقلوبهم وآذانهم ونفوسهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم – مسلمين متقنين محسنين بالمعنى الحقيقي, وانصرفوا بأنفسهم إلى ذلك العمل الذي ينبغي لعباد الله المخلصين الأوفياء أن ينصرفوا إليه إذن, وبعد كل ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى ما يزين حياة المتقين المحسنين من الآداب والعادات المهذبة في الهيئة والملبس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام الجلوس وما إلى ذلك من الشؤون الظاهرة, وكأنني به – صلى الله عليه وسلم – فتن الذهب ونقاه من الأوساخ والأقذار أولاً, ثم طبع عليه بطابع الدينار, ودرب المقاتلين أولاً, ثم كساهم زى القتال, وهذا هو التدرج الصحيح المرضي عند الله في هذا الباب كما يبدوا لكل من تأمل القرآن والحديث وتبصر فيهما".
هكذا كان رسول الله صلى الله عيه وسلم ينتخب الأخيار العقلاء ويدعوهم إلى الإسلام ويعرض عليهم العقيدة التي جاء بها من ربه عز وجل, وعاونه على ذلك صديقه الحميم أبو بكر رضي الله عنه, الذي ما تردد عندما عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام, وإنما استجاب لنداء الله منذ أن سمعه, فأخذ يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه, ومكث صلى الله عليه وسلم منذ أن أنزل عليه الوحي إلى أن بدأ قومه بالدعوة وأعلنها ثلاث سنين يدعوا من يثق به سراً, ويتصل بمن اتبعه واستجاب له سراً لمواصلة الدعوة وتثبيتها, واستكمال التربية للقيادة المختارة بعيداً عن جاذبية المجتمع, حيث لم يأمره الله عز وجل بإعلان الدعوة والصدع بها.
ومن ثم استطاع صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة الزمنية الوجيزة أن يستقطب عدداً من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه حيث تمكن من مساراتهم وعرض العقيدة عليهم وتربيتهم حتى أصبحوا عوناً له على توسيع دائرة الدعوة وانتشار الاعتقاد الصحيح وانحسار الشرك وكثرة الأتباع والأنصار.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يتخير الأشخاص أولاً ثم يتولى تربيتهم بالقرآن الكريم وبسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم, فيغرس في نفوسهم العقيدة ويؤسسهم عليها بعيداً عن الضغط الاجتماعي من حولهم.
فعرفهم بربهم و خالقهم سبحانه معرفة أكسبتهم محبته وطاعته وامتثال أمره و إجلاله والخضوع له والانقياد لحكمه, فغذى أرواحهم بالقرآن الكريم فكان يتلوا عليهم ما يتنزل عليه من ربه, فرباهم على الإيمان والخضوع لله رب العالمين, من ذلك ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين حصين والد عمران, فقد دخل حصين والد عمران على النبي صلى الله عليه وسلم, فلما رآه قال لأصحابه "أوسعوا للشيخ".
فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حصين كم تعبد من إله؟"
قال: سبعة, ستة في الأرض وواحد في السماء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا أصابك الضر فمن تدعوا؟"
قال: حصين الذي في السماء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا هلك المال فمن تدعوا؟"
قال: حصين الذي في السماء.
فقال صلى الله عليه وسلم فيستجيب لك وحده وتشرك معه؟" يا حصين أسلم تسلم". فأسلم.
فقام إليه ولده عمران رضي الله عنه فقبل رأسه ويديه ورجليه, فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: "بكيت من صنيع عمران, دخل حصين وهو كافر فلم يقم له عمران ولم يلتفت ناحيته, فلما أسلم وفَّى حقه, فدخلني من ذلك الرقة".
فلما أراد حصين الخروج قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "شيعوه إلى منزله" فلما خرج من سدة الباب – أي عتبته – رأته قريش, قالوا قد صبأ وتفرقوا عنه".
ففي قصة إسلام حصين رضي الله عنه ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألزمه بما أقر به من التفرد بالربوبية و لله تعالى, وأن يعمل بمقتضاه, ويلزم لازمه من توحيد العبادة, وأن يكفر بما يناقض ذلك, لأن توحيد الربوبية هو أعظم حجه على توحيد العبادة, وبه احتج الله تعالى في كتابه في كثير من المواضع على وجوب إفراده تعالى بالعبادة لتلازم التوحيدين, فإنه لا يكون الإله مستحقاً للعبادة إلا إذا كان خالقاً رازقاً مالكاً متصرفاً مدبراً لكل الأمور, حياً بصيراً قيوماً عليماً حكيماً غنياً عما سواه, مفتقراً إليه كل من عداه, وهذه صفات الله تعالى التي لا تنبغي إلا له, ولا يشاركه فيها أحد, ومن ثم فهو الذي يستحق العبادة وحده ولا تجوز لغيره, وأن في صرفها لغيره يكون الشرك والكفر والضلال.
هكذا أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعتقاد الصحيح في نفوس أصحابه حتى قدروا الله حق قدره, ثم عبدوه حق عبادته عن طريق قيام الحجة بالحوار الهادئ اللطيف, فقد كان دأبه صلى الله عليه وسلم إقناع الداخل في الإسلام بالحق الذي بعثه الله به, وإيضاح الحجة والدليل على ذلك بالحوار المقنع.
وفي هذا النص فوائد غير ما تقدم:
1- ففيه حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالف لتهيئة نفسه لسماع كلام الله تعالى والدعوة إليه.
2- وتدريب الأصحاب الذين حضروا هذا الحوار على حسن التعامل وطريقة الدعوة الصحيحة وتأسيسها في النفوس.
3- وفيه إحياء لقضية الولاء و البراء في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم, ولفت أنظارهم إلى أهمية ذلك, وأنه من أصول الاعتقاد الصحيح وقواعده, وذلك ببكائه صلى الله عليه وسلم من صنيع الصحابي الجليل عمران بن حصين الذي حقق الولاء والبراء في هذه الجلسة المباركة, وهو تطبيق عملي لما تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل, فلم يأبه رضي الله عنه بأبيه حينما دخل وهو كافر, فلما أسلم أعطاه حقه كاملاً من البر و الصلة والولاء, فقبَّل رأسه ويديه ورجليه وفرح بإسلامه فرحاً شديداً
4- وفيه أيضاً اهتمامه صلى الله عليه سلم بمن قبل الحق وآمن به فقد أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بتشييع حصين رضي الله عنه ومرافقته إلى منزله.
وفي هذا تربية للمربين بأن يستفيدوا من هذا المنهج التربوي الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته وتعليمه لأصحابه رضوان الله عليهم.
اسلام ويب
منقول