التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
** التوكل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها.
** إن الذي ينشئ النتائج كما ينشئ الأسباب هو قدر الله, ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن، اتخاذ السبب عبادة بالطاعة، وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله؛ وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته, لينال ثواب طاعة الله في استيفائها (1).
** ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب, مع التوكل على الله تعالى، كما نبه عليه السلام على عدم تعارضهما.
** يروي أنس بن مالك t أن رجلا وقف بناقته على باب المسجد وهم بالدخول، فقال يا رسول الله، أرسل راحلتي وأتوكل؟- وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية في الأخذ بالأسباب- فقال له صلى الله عليه وسلم: «بل قيدها وتوكل» (2).
** وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين أنه لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، بشرط عدم الاعتقاد في الأسباب, والاعتماد عليها ونسيان التوكل على الله، وروى عمر ابن الخطاب t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (3) . وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب, حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.
** ولا بد للأمة الإسلامية أن تدرك أن الأخذ بالأسباب للوصول إلى التمكين أمر لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنته التي لا تتخلف, ومن رحمة الله تعالى أنه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب، ولم يطلب منهم أن يعدوا العدة التي تكافئ تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )[الأنفال:60].
** فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ما تستطيعون, احشدوا أقصى إمكاناتكم, ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحد الأقصى المطلوب، وما يزيد على ذلك يتكفل الله تعالى به, بإمكاناته التي لا حدود لها؛ وذلك لأن فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشرط المطلوب لينزل عون الله ونصره(4).
** إن النداء اليوم موجه لجماهير الأمة الإسلامية بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء, إلى مرحلة القوة والبناء, وأن يودّعوا الأحلام والأمنيات وينهضوا للأخذ بكل الأسباب, التي تعينهم على إقامة دولة الإسلام، وصناعة حضارة الإنسان الموصول برب العالمين.
_________________
1// في ظلال القرآن (3/1476).
2// رواه الترمذي (4/576) كتاب صفة القيامة باب ما جاء في التوكل.
3// رواه أحمد في مسنده (1/52) ورقمه (370)، وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح.
4// انظر: الإسلام في خندق، مصطفى محمود، ص64.
* * *
رزقنا الله الالتزام بمنهجه صلى الله عليه وسلم