مرض التسمم المائي الذاتي
يحدث مرضالتسمم المائي الذاتي ( (Water intoxicationأو كما يسمى أيضا مرض نقص الصوديوم الإرادي (Hyponatremia) نتيجة زيادة كمية السوائل داخل الجسم على حساب نقص تركيز أيون الصوديوم في الدم عن معدله الطبيعي ...
وقد يصيب عند الجهد الشديد, وتناول كمية كبيرة من الماء العذب, كلا من الرياضيين أثناء المسابقات الماروثونية، و الجنود أثناء تدريبهم في الصحاري الجافة, وحجاج بيت الله الحرام, وغيرهم.
يهدف هذا البحث إلى دراسة مرض التسمم المائي الذاتي داخل الجسم, من حيث الأسباب والآليات والأعراض والعلاج والوقاية, ويهدف إلى إبراز الإعجاز العلمي للقران الكريم حين أشار لهذا المرض في قصة طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج مع جنوده لقتال جالوت, حيث قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة249
يتضح في ضوء فهمنا لأسباب هذا المرض وأعراضه, وفي ضوء فهمنا لهذه الآية وتفسيرها, أن التسمم الذاتي للماء قد أصاب معظم جيش طالوت, فمنع الجنود من تناول الماء العذب رغم شدة عطشهم, وتحديد تناول كمية صغيرة منه بمقدار غرفة يد واحدة فقط لمن أراد أن يشرب منهم, وعدم قدرة معظمهم بعد عملية الارتواء على المسير يؤكد ذلك.
ومما يشهد بصحة هذا الفهم قوه تعالى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف31. حيث نهى عن الإسراف في الشرب, والتخمة في الأكل, فدل عل أن الإكثار من الماء يضر بالصحة, ولايستغرب عندئذ أن يصاب المكثر منه بهذا الأمرض.
أولا: مقدمة البحث:
إن مرض التسمم المائي الذاتي (مرض نقص الصوديوم الإرادي) هو زيادة كمية السوائل داخل الجسم على حساب نقص تركيز أيون الصوديوم في البلازما إلى أقل من 130 مل مول/ لتر (وير، 2000 ) في حين أن التركيز الطبيعي لهذا الأيون داخل البلازما هو 135ـ146 مل مول/ لتر .
إن نقص الصوديوم يحدث عادة في المسابقات الرياضية الشاقة, خاصة إذا بدأ المتسابق سباقه بكمية قليلة من الصوديوم داخل جسمه، ويصيب هذا المرض الجنود أثناء التدريب الشاق, والتنقل لمسافات بعيده في الجو الحار (تمثي ونوكس, 2000 بعد بروان, 1947), وكذلك الحجاج خاصة اذا
كان موسم الحج في الحر الشديد (الخطيب, 2003), كما يصيب هذا المرض مرضى الحالات النفسية الذين يتناولون كمية كبيرة من الماء (فرير, 1985 ورجز وآخرون,1991 وونج, 1993).
إن الماء هوا أصل من أصول الحياة إلى جانب الهواء والتراب والشمس، فهو يعتبر من أهم المواد الأساسية اللازمة للجسم. أهمية الماء البالغة للحياة تعتبر من البدهيات، لكن أن يصبح الماء ساماً كما ثبت علمياً وعمليا,ً وأشار إليه القرآن الكريم من قبل, شيء غير متوقع عند البعض، وقد يكون غير قابل للتصديق عند البعض الأخر.
إن مصادر الماء عديدة ومتنوعة, فمعظم أطعمة الإنسان تحتوي على الماء, عدا الزيوت والدهون النباتية, أما الدهون الحيوانية فتحتوي على قليل منه, وتتراوح نسبة الماء داخل جسم الشخص البالغ حوالي 65 %, وعند الأطفال حديثي الولادة حوالي 80 %, بينما تقل هذه النسبة عند كبار السن إلى حوالي 50 %, و يواجد الماء في جميع أنسجة جسم الإنسان, فيوجد منه داخل الخلايا حوالي 60 %, وخارجها حوالي 40 %.
إن الماء هو المكون الأساسي لسوائل الجسم, مثل الدم, والعصارة الهاضمة, والدموع, والبول, والسائل المراري, والسائل المحيط بالدماغ والنخاع الشوكي, ويستخدم الماء للتفاعلات الكيميائية داخل الجهاز الهضمي, وداخل خلايا الجسم، وكذلك يستخدم الماء في تشحيم اجهزه الجسم, ومنع مفاصله من الاحتكاك, ويستخدم الماء أيضا لتخليص الجسم من المواد السامة على صورة بول وعرق وبراز ، كما يساعد على تبريد الجسم أثناء
تبخره بعملية التعرق المعروفة.
إن هذه الأهمية الكبرى للماء ليست قاصرة على الإنسان فحسب, بل له نفس الأهمية في جميع الكائنات الحية التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لذلك يقول الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30، ويقول في آية أخرى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء }النور45 . وللماء وظائف جمة في هذه الحياة, من الصعب إحصاؤها, و لاتتسع هذه المقالة لذلك.
إن تعدد وظائف الماء وأهمية يرجع في الأساس لتركيب وصفات جزيئه التي منحها الله تعالى إليه, وهو خالق كل شيء.
إن كمية الماء التي يتناولها الإنسان تعتمد على رطوبة الجو, ودرجة الحرارة, ونوع الطعام المتناول, وكمية الجهد المبذول, وقدرة الجهاز الهضمي على امتصاص الماء, وقدرة الجهاز البولي على التخلص من الكمية الزائدة منه من الجسم, ويتناول الإنسان عن طريق طعامه وشرابه من 8 إلي 12 كوبا من الماء يوميا, أي حوالي مليلتر واحد لكل سعر حراري يحتاجه الإنسان, وبمعنى آخر يتناول الشخص البالغ حوالي 2000- 3000 مل لتر يومياً. ويفقد الإنسان السليم نفس الحجم من الماء يوميا عن طريق البول, والجهاز الهضمي, والجهاز التنفسي, والغدد العرقية.
إن الغذاء اليومي للإنسان هو المصدر الأساسي للصوديوم. ويفقد جسم الإنسان هذا الأيون الهام باستمرار عن طريق الجهاز البولي، والغدد العرقية, ويستخدم أيون الصوديوم داخل الجسم في نقل الماء من داخل الخلايا وإليها, و يستخدم مع أيون البوتاسيوم في نقل الإشارات العصبية، وكذلك
يستخدم بالإضافة لأيونات بعض الأملاح الأخرى للمحافظة على ضغط الدم وحجمه, لذلك يعتبر أيون الصوديوم من أهم أيونات الجسم.
إن تركيز الصوديوم داخل الجسم ذو خطوره بمكان, بحيث يجب أن يكون مناسباً ومتزناً, فزيادته تؤدى إلي مرض ضغط الدم المعروف, وامتصاص الماء من داخل الخلايا, مما ينتج عنه ضمور خلايا الجسم, خاصة خلايا الدماغ, ونقصه داخل الدم نتيجة تناول كمية كبيرة من الماء العذب عند بذل الجهد الشديد في الجو الحار, والرطوبة العالية, يؤدي إلى دخول كمية كبيرة من الماء الى داخل الخلايا, مما ينتج عنه مرض التسمم المائي الذاتي, وقد سجلت سنة 1985م في كندا خمس حالات تسمم مائي في المسابقات الماراثونية, و سجلت في سنة 1989م حالتي تسمم مائي في جنوب أفريقيا بين رياضيي الماراثون أيضا، وتم تسجيل حالات عديدة أخرى في نيوزيلاندا وغيرها من الدول الأخرى (وير, 2000).
إن أعراض نقص مرض االتسمم المائي الذاتي تنتج من احتقان خلايا الجسم بكمية كبيرة من الماء, وقد تؤدي إلى الوفاة عند عدم المعالجة (ادرج ومدياس, 2000), والأعراض الأولية هي: آلام في الرأس, و الغثيان, والضعف العام، التقلص العضلي، والتعب الجسماني الحاد، والتقيؤ, وفقدان التوازن والاضطراب, والزيادة في وزن الجسم, أما الأعراض الحادة فهي: تشنجات عامة، وغيبوبة, وهذه الأعراض قد تؤدى الى توقف عمل الجهاز التنفسي, ومن ثم الوفاة.
ثانيا: هدف البحث:
تهدف هذه الدراسة الى محاولة فهم الآية التي ذكر فيها قصة طالوت من سورة البقرة, في ضوء الدراسة العلمية لمرض التسمم المائي الذاتي سعيا في إبراز بعض جوانب الإعجاز العلمي الذي لم يتم التطرق إليه من قبل.
ثالثا: أرجح التفسيرات لهذا المرض:
إن انخفاض مستوى الصوديوم في الدم أثناء بذل الجهد الشديد من الأمراض الهامة منذ زمن بعيد، لذلك فإن كل من يعمل عملا شاقا يجب أن يكون على بينة بمخاطر هذا المرض, حتى يمكن تجنبه. منذ 1971م, ومرض التسمم المائي الذاتي يأخذ اهتماماً عالمياً من قبل الباحثين, لأنه يصيب عادة الرياضيين في المسابقات الماروثينية الطويلة, وقد أصبحت أكثر شيوعاً من الأزمان السابقة، التى تميزت بالحروب البرية, والتى يقطع الجنود فيها مسافات بعيده بطرق مواصلات بدائية تحت حرارة الشمس الحارقة.
حتى نهاية القرن الماضي لم تكن الأسباب الحقيقية لمرض التسمم المائي الذاتي واضحة بعد، فمن ناحية علمية يضع آرم سترونك وآخرون (1993) أربعة تفاسير لذلك المرض يمكن تلخيصها على النحو التالي:
(أ) عند بذل جهد شديد يفقد الجسم كمية عادية أومتوسطه من أيون الصوديوم عن طريق العرق, ويشعر الإنسان بالعطش الشديد, فيلجأ إلي تناول
كمية كبيرة من الماء, وهذا الماء يتم خزنه داخل الجسم, مما يزيد من درجة تخفيف الصوديوم في داخله.
(ب) عند بذل جهد شديد يفقد الجسم كمية كبيره من الصوديوم عن طريق العرق, مما يجعل تركيزه الداخلي أقل ما يمكن نسبة إلى الماء الموجود في داخل الجسم.
(ج) عند بذل جهد شديد يقوم الجسم بإفرازهرمون مانع إدرار البول بكمية أكبر من المعتاد, مما يؤدي الي حبس الماء داخل الجسم, وبالتالي نقص نسبة تركيز الصوديوم فيه, وتصبح الحالة أسوأ ما يمكن في حالة تناول الرياضي ماء بكمية كبيرة.
(د) اجتماع السبب الأول و الثالث
ترجح الدراسات الحديثة السبب الرابع المذكور أعلاه على بقية الأسباب, حيث قام أرفنج وآخرون (1991) بدراسة أحوال الرياضيين الذين عانوا من التسمم المائي الذاتي (مجموعه تجريبية), ومقارنتهم بالرياضيين الذين لم يعانوا من هذا المرض (مجموعة ضابطة)، وأبرزت النتائج ما يلي:
(1) يعاني أفراد المجموعة التجريبية من الزيادة في أوزانهم نتيجة زيادة حجم السوائل داخل الجسم، بينما أفراد المجموعة الضابطة لم يعانوا من ذلك .
(2) أثناء بذل الجهد وجد أن أفراد المجموعة التجريبية قد تناولوا سوائل ما بين8.0ـ 1.3 لتر في الساعة بالمقارنة مع المجموعة الضابطة الذين تناولوا 0.6 لتر في الساعة فقط.
(3) كمية الصوديوم التي فقدتها المجموعة التجريبية ليست أكثر من كمية الصوديوم التي فقدتها المجموعة الضابطة.
(4) أثبتت الدراسة أن متوسط حجم البلازما عند المجموعة التجريبية أقل بمقدار 24 % من متوسط حجمها عند المجموعة الضابطة، والرد الطبيعي للجسم إذا قل حجم البلازما هو إفراز الهرمون مانع الإدرار الذي يمنع فقدان الماء عن طريق الجهاز البولي، وهذا يفسر عدم قدرة المريض على التخلص من الماء الزائد الذي يتناوله في تلك الحالة.
مما سبق يتضح أن التسمم المائي الذاتي ينتج من تناول كمية كبيره من الماء إرادياً, وخزنها في الجسم, مع فقدان كمية متوسطة من الصوديوم, أو عادية, وقد وجد في مثل هذه الحالات أن مقدار الماء الزائد الذي يحتفظ به جسم المريض يزيد بمقدار حوالي ثلاثة لترات عن الوضع الطبيعي, مما يسبب الزيادة في الوزن (سبيدي وآخرون, 1999), فالوزن الزائد لمرضى التسمم المائي هو الذي يميزهم عن مرضى الجفاف, والذي يمكن أن يصيبهم مرض التسمم المائي الذاتي إذا تناولوا كمية كبيرة من الماء (الخطيب, 2003), وهذه الدراسات وغيرها تبين أن أفضل طريقة لمنع التسمم المائي الذاتي هو تجنب تناول ماء زائد أثناء بذل الجهد وبعده مباشرة, وهذه أصبحت من القواعد الغذائية الهامه, والعلاج الناجح لهذه الحالة هو
امتناع المريض عن تناول ماء الشرب, أوإعطاءه مواد مدرة للبول, و تزويد المريض بتركيز عال من الصوديوم عن طريق الوريد, وعادة في مثل هذه الحالات يعطى المصاب محلول ملحي ( كلوريد الصوديوم ) بتركيز 514 مل مول/لتر, مما يؤدى الى زيادة تركيز الصوديوم في الدم بمقدار 10 مل مول/ لتر خلال 12 ساعة، وهذا التركيز لأيون الصوديوم يخلص المريض من احتقان خلايا الدماغ, واحتقان الجهاز التنفسي, وخلايا الجسم الأخرى بالماء (آيس وآخرون, 1999).
من الصعب تحديد كمية السوائل التي يجب أن يتناولها الرياضي أثناء السباق, وذلك لأنها تختلف من شخص لأخر, وتعتمد على درجة الحرارة, ودرجة الرطوبة, ومدة بذل الجهد, ونوع الجهد المبذول, ولكن بشكل عام يجب أن يتناول الرياضي سوائل, بحيث لا تزيد عن كمية السوائل التي يفقدها أثناء بذل الجهد, وينصح الرياضي قبل ثلاثة أيام من السباق الذي يمتد لأكثر من 6 ساعات أن يجاهد نفسه, فيتناول ملح طعام بمعدل 15ـ 25 جرام يومياً. كذلك بعد التدريب اليومي على الرياضي ألا يخشى من تناول الأطعمة المملحة, وأثناء السباق الطويل عليه أن يتناول ملح الصوديوم بمعدل 1 جرام/ ساعة في صورة مشروبات رياضية خاصة بذلك (سترنز, 1990), والرياضي الذي يعيش في المناخ البارد أو المعتدل, ويريد أن يتسابق في جو حار عليه أن يذهب ويتدرب في ذلك المناخ لمدة عشرة أيام حتى يعتاد جسمه على ذلك.
إن الزيادة في تناول الأدوية اللاستيرودية, مثل الأسبرين, والدكلوفين, والباراستيمول, يزيد من إنتاج البروستاجلاندين في خلايا الجهاز البولي الذي قد يؤدي إلي زيادة إنتاج الهرمون المانع للإدرار, ومن ثم تزيد فرصة حدوث مرض التسمم المائي الذاتي (ارفنك و آخرون, 1991).
يصيب هذا المرض كما ذكرنا الجنود الذين يتدربون ويقاتلون في الصحاري, ففي الحرب العالمية الثانية سجلت حالات جفاف, و حالات تسمم مائي ذاتي في صحراء نيفادا (تمثي ونوكس, 2000 بعد بروان, 1947), وأرجح أن هذا المرض قد أصاب جيش طالوت من قبل, حيث ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة249
يقول الصابوني (1976) في تفسير هذه الآية ما يلي: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي خرج بالجيش, فانفصل عن بيت المقدس وجاوزه, وكانوا ثمانين ألفا, أخذ بهم في أرض قفرة, فأصابهم حر وعطش شديد (قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ) أي مختبركم بنهر, وهو نهر الشريعة المشهور بين الأردن وفلسطين (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي من شرب منه فلا يصحبني, وأراد بذلك أن يختبر إرادتهم وطاعتهم قبل آن يخوض بهم غمار الحرب ـ (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من لم يشرب منه, ولم يذقه, فإنه من جندي الذين يقاتلون معي (إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي لكن من اغترف قليلاً من الماء, ليبل عطشه, وينفع غلته؛ فلا بأس بذلك، فأذن لهم برشفة من الماء تذهب العطش (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) أي شرب الجيش إلا فئة قليلة صبرت على العطش، (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) أي لما اجتاز النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب, ورأوا كثرة عدوهم؛ اعتراهم الخوف, فقال فريق منهم (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) أي لا قدرة لنا على قتال الأعداء مع قائد جيشهم جالوت فنحن قلة وهم كثرة كاثرة (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ) أي قال الذين يعتقدون بلقاء الله, وهم الصفوة الأخيار, والعلماء الأبرار, من أتباع طالوت (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) إلى آخر الآية, انتهى تفسير الصابوني الجزء الأول صفحة 451.
يتضح في ضوء ما تقدم أن الجند كانوا في أشد التعب والإعياء والعطش, فلما اقتربوا من النهر قال طالوت لجنوده (إن الله مبتليكم بنهر) فمن يشرب منكم من هذا النهر فإنه ليس من طالوت و أهله, ومن لا يشرب منه منكم, أو اغترف غرفة صغيرة بيده, فإنه من قوم طالوت وأهله؛ لأنه صبر على العطش, ومن ثم لم يصبح عرضة لمرض التسمم المائي الذاتي الذي سيقضي عليه, فمنع الجنود من تناول الماء العذب رغم شدة العطش وتحديد تناول كمية صغيرة منه بمقدار غرفة يد, وعدم قدرة معظم الجيش بعد الشرب والامتلاء في تكملة مسيرة الزحف مع طالوت يؤكد ذلك.
إن الآية تبين أن كثيراً من الجند قد أصيبوا بمرض التسمم المائي الذاتي، لأن أسباب الإصابة أصبحت متوفرة عندهم ألا وهي التعب والعطش الشديدان, ومن ثم قيامهم بشرب ماء النهر العذب بكمية كبيرة, وأن قليلا من الجند لم يشربوا, أHو شربوا قليلاً منه, لم يصبهم المرض المذكور, لأن عنصر الشرب والارتواء المسبب الأساسي للمرض لم يتوفر, وهؤلاء الذين صبروا, وهم الذين أكملوا المسير, فانتصروا على جالوت وجيشه.
ويقول رب العزة في موضع آخر من الكتاب{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف31 .
يقول ( ابن القيم الجوزية، 575ـ 691 ه) في كتابه الطب النبوي في تفسير هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى أرشد إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه, وأن يكون بقدر ما ينفع البدن في الكمية والكيفية, فمتى جاوز ذلك كان إسرافا, وكلاهما (أي قلة الأكل والشرب
أو الزيادة فيهما) مانع للصحة جالب للمرض.
ومن هنا أرى أن الآية تؤكد أن الإسراف في الأكل كالإسراف في الشرب, كلاهما نهانا الله تعالى عنه, فإذا توسط الإنسان فيهما, وتناولهما قدر الحاجه كما ونوعا؛ كان انتفاع البدن أكثر من انتفاعه في الإسراف فيهما. والإسراف (بالزيادة أو النقصان) في تناول المواد الغذائية بما فيها الماء يوقع الفرد في مشاكل صحية مختلفة, فنقص الماء داخل الجسم يؤدي إلى مرض الجفاف, وهذا خطير جدا,ً خاصة على الأطفال, وزيادة الماء يوقع الفرد في مرض التسمم المائي الذاتي, كما تم توضيحه. ومن ناحية أخرى؛ فإن الزيادة في تناول الصوديوم قد يوقع الفرد في مرض ضغط الدم, ونقصه داخل الجسم يؤدي إلى مرض نقص الصوديوم الإرادي؛ كما تم توضيحه.
وجملة القول: إن الحقائق العلمية, والقرآنية من قبل, تؤكد أن مرض التسمم المائي الذاتي له عدة أسباب؛ أهمها تناول الماء بكمية كبيرة جداً ، فإذا تناول الفرد ماءً كثيرا بحيث يتم خزنه أصبح ساماً ومهلكاً.
رابعا: توصيات البحث:
إن الرياضيين والحجاج والجنود أكثر الناس عرضة لمرض التسمم المائي الذاتي, وحتى لا يصابوا به يوصي الباحث أصحاب الأعمال الشاقه بما يلي
1. إدراك خطورة مرض التسمم المائي الذاتي, ليتم الحذر من تعاطي أسبابه.
2. عدم تناول الماء العذب أثناء بذل الجهد وبعده خاصة في الجو الحار, واستبدال ذلك بسوائل محلاه أو مملحة.
3. أن يكون بذل الجهد الشاق في جو بارد, وغير رطب قدر الإمكان, حتى لايتسبب الإجهاد في فقد كمية كبيرة من الأملاح في العرق, والحاجة إلى إطفاء العطش بتناول كمية كبيره من الماء العذب, مما يؤدي إلى الوقوع في مرض التسمم الماء الذاتي .
4. يجب على كل فرد أن يزن نفسه قبل بذل الجهد الشديد وبعده, حتى لايكون تناول الماء العذب تسبب له في زيادة الوزن, فيكون مرشحا للإصابة بأعراض مرض التسمم الماء الذاتي.