ذو القرنين عبدٌ من عباد الله الصالحين توقف النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته فقال (وما أدري ذا القرنين كان نبياً أم لا) ونحن نتوقف في نبوته كما توقف نبينا صلى الله عليه وسلم.
لقد أعطاه الله ملكاً عظيماً حيث أدان له البلاد وأخضع له العباد فحكم الأرض بأسرها فكان ملكاً على الدنيا كلها وخدمته الأمم بأجناسها وأشكالها وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس مشرقها وغربها ولهذا سمي بذي القرنين ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾.
الذي مكن له في الأرض هو الله أعطاه من الوسائل والأسباب ما يجعله ممكناً في الأرض فالذي يُمكن للدول والأمم والحكام هو الله يُمكن لهذا ويأمر بزوال هذا ويرفع هذا ويهلك هذا فلا يسود حاكم إلا بإذن الله ولا يزول حاكم إلا بإذن الله فيجب أن تتعلق قلوبنا بملك الملوك جل جلاله سبحانه وتعالى ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
لقد مكن الله لذي القرنين في الأرض فأعطاه وسائل التمكين من القوة وحسن التدبير وسعة المال وكثرة الجنود وحسن الصيت والشهرة وغيرها من أسباب التمكين.
لقد أعطاه الله قوة في شخصيته وقوة في عقله وأخلاقه وجيشه وماله ما يجعله أهلاً للوصول إلى ما وصل إليه من الملك والحكم والتمكين ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ أي فأتبع السبب الذي أعطاه الله إياه بسبب آخر من عنده.
لقد آتاه الله من كل شيء سبباً ولكنه لم يتوانى ويتكاسل ويتواكل على الأسباب التي أعطاه الله إياها وإنما بذل الأسباب التي تحقق له هدفه وتوصله إلى مراده فأعد نفسه وجهز جيشه وأعد عدته لأنه يدرك أنه لا بد من بذل الأسباب فقال الله ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ﴾ هنا يبدأ ذو القرنين رحلته الأولى في سبيل الله متجهاً نحو المغرب لقد سلك ذو القرنين طريقاً نحو المغرب حتى بلغ أقصى الأرض من ناحية المغرب أو من الجهة الغربية للأرض ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ أبصر الشمس تغرب في عين حمئة أي في طينة سوداء والمعنى أنه رأى الشمس تغرب في البحر وهذا شأن كل من وقف على الساحل فإنه يرى الشمس كأنها تغرب فيه وهناك في ذلك المكان وجد ذو القرنين أمة عظيمة من الأمم ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ﴾ كان هؤلاء القوم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق فأمره الله جل جلاله بدعوتهم وتعليمهم ثم خيّره فيمن كذب منهم وأعرض عن الدين ولم يذعن لرب العالمين إما أن يقتلهم وإما أن يتخذ فيهم حسنا ومعنى يتخذ فيهم حسنا أي يستأ سرهم ويجعلهم أسرى عنده يعلمهم ويبصرهم ويدعوهم إلى التوحيد والإذعان لله رب العالمين.
هكذا خُير ذو القرنين بين خيارين إما أن يعذبهم بالقتل وإما أن يتخذ فيهم حسنا وذلك بالأسر فماذا قال ذو القرنين قال ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ أما من ظلم أي من ظلم نفسه واستمر على كفره وشركه بربه فسوف نعذبه أي في الدنيا ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ وهذا غاية العدل وقمة الإنصاف ودليل الحكمة والحنكة والسياسة والتمكين.
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ قال ابن كثير رحمه الله أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها وهنا يبدأ ذو القرنين رحلته الثانية متجهاً من المغرب إلى المشرق قال تعالى {﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ﴾ وجد الشمس تطلع على قوم لا يحول بينهم وبين الشمس شيء ولا يحميهم من حرارتها وأشعتها شيء فلا جبال تحجب عنهم الشمس ولا بيوتاً تحول بينهم وبين الشمس ولا يملكون ما يغطون به أجسادهم من حرارة الشمس ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ﴾.
﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ أي علمنا بما لديه من الخبرات وما عنده من الصلاحيات ما يجعله أهلاً لذلك الملك وتلك المكانة الرفيعة.
ثم أتبع سبباً وهنا يبدأ الحديث عن الرحلة الثالثة لذي القرنين فالرحلة الأولى كانت إلى جهة المغرب والرحلة الثانية كانت إلى جهة المشرق وأما هذه الرحلة فإنها معترضة بين المشرق والمغرب يقول الله جل جلاله ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾ وهما جبلان عظيمان متقابلان وجد في ذلك المكان قوماً منعزلون على أنفسهم لم ينفتحوا على غيرهم ولا يفقهون لغة غير لغتهم وصفهم الله جل جلاله بقوله ﴿ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾.
هؤلاء القوم كانوا يعيشون بين هذين السدين أو الجبلين وكانت بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج أمتان عظيمة الخطر كثيرة العدد كانوا يخرجون على هؤلاء القوم من هذه الثغرة التي بين الجبلين فيفسدون أرضهم ويهلكون حرثهم ونسلهم وكانوا يتعرضون لأعنف الهجمات وأقوى الضربات من قبلهم وهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم فلما رأوا ذا القرنين انطلقوا إليه وقاموا وقوفاً بين يديه فتوسلوا إليه وقالوا ﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ يقينا بطشهم ويحمينا من شرهم فرد عليهم بكل زهد وأدب وورع ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ يعني ما أعطاني الله من وسائل الملك وأسباب التمكين خير لي مما تجمعون فلا حاجة لي في مالكم ولكنه لمح فيهم العجز والكسل والإتكالية على غيرهم في حل مشاكلهم فأراد أن يشركهم في العمل في هذا المشروع العظيم وهذا العمل الضخم فقال لهم ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ أخبرهم أنه سيتكفل لهم بهذا المشروع من الناحية المادية ولكنه في حاجة إلى الأيدي العاملة لتشارك بمجهودها العضلي في إنجاز هذا البناء العظيم ثم شرع ذو القرنين في البناء بعدما خطط له تخطيطاً رائعاً وهندسه هندسة بارعة فبدأ في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع فقال ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ أي أجمعوا لي قطع الحديد الضخمة فلما جمعوها أمرهم بوضعها بين السدين فلما وضعوها ﴿ قَالَ انْفُخُوا ﴾ أي أشعلوا النيران تحت هذه القطع من الحديد لتصهر النار الحديد ولك أن تتخيل هذه النيران التي اشتعلت لتصهر هذه الأطنان الضخمة من الحديد التي لا يعلم وزنها وحجمها إلا العزيز الحميد فلما اشتعلت النيران في الحديد ذاب وانصهر.