زينب فتاة مسلمة منتقبة ، قادتها خطواتها على النت إلى موقع من مواقع المناظرات بين الأديان ، ولأنها ، كغيرها من ملايين الشباب و الشابات المسلمين ، كل ثقافتها الشرعية مستمدة من شرائط الكاسيت و برامج الفضائيات ، لم تصمد طويلاً أمام القس المشهور و هو يلقى بقنابل الشك في دروبها ، لم تستطع الرد على الشبهات التي أثارها و التي بدت منطقية ، و كانت النتيجة وقوعها فريسة صراع نفسي هائل مزقها ، صراع بين إيمان وُلدت به و تربت عليه و شك زرعه القس ببراعة.
لم تجد مخرجاً من هذا المأزق سوى الاستعانة بداعية مشهور لتعرض عليه شبهات القس لعلها تجد عنده جواباً شافياً. لم يجبها صاحبنا ، بل شرع في توجيه الاتهامات و التجريح في إيمانها ، ثم أخبرها أن لا وقت لديه لأمثالها ، و أنه لن يضير الإسلام شيئاً خروجها و من على شاكلتها من ضعاف الإيمان من حظيرته. وهكذا لم تجد زينب لدى الداعية نصف ساعة من وقته ليجب على أسئلتها و لم تجد في صدره رحابة كانت أحوج ما تكون لها ، بينما أبدى القس الكثير من التساهل و أعطاها من وقته المشحون الكثير.
و انتهت الجولة بانتصار القس و هروب زينب من بيت أهلها لتخلع نقابها و خمارها و تتعمد في إحدى الكنائس لتعلن عن هويتها الجديدة كمتنصرة ، ثم بدأت تؤم الكنائس بانتظام.
اُحيطت زينب بكل أشكال الرعاية التي يُحاط بها المتنصرون الجدد فتم توفير المسكن و النفقات و الهوية الجديدة باسم جديد خلعها من تاريخ إسلامي طويل .
أما أسرتها فقد عانت الأمرين من فقدانها و بحث عنها أبوها في كل مكان حتى و جدها أخيراً ، استجابت له وعادت معه بعد أن طمأنها و أعطاها الأمان و أخبرها أنها حرة في اختيار عقيدتها و أنها ستبقى ابنته سواء كانت مسلمة أو مسيحية ، فحبه لها لن يتغير.
و في منزلها ، اختلطت الأحضان بالدموع ، لكن يبقى قرار صارم أصدره الأب من قبل : "ممنوع مفاتحتها أو مجرد الحديث معها في أمر معتقدها الجديد" ، كانت زينب تتصرف بحرية و تلقائية ، ووجدت أبوها عند وعده: لم يجبرها على شئ ولم يغير معاملته معها.
بعد عدة أيام استأذنها في حديث ودي ثم أخبرها أنه لا يزال على عهده و وعده في أن لها حرية اختار عقيدتها ، لكنها مسئولة منه أمام الله لأنها لا زالت تحت وصايته ، و أن تلك المسئولية تحتم عليه أن يحاول معها محاولة أخيرة ، محاولة لا إكراه فيها ، لكنها نقاش مع شيخ من أصدقائه متخصص في مقارنة الأديان .
استجابت زينب و جلست مع الشيخ و طرحت عليه كل ما عنّ لها من أسئلة و ألقت عليه كل الشبهات التي طرحها القس المشهور ، فأجابها الشيخ بكل رحابة صدر و فند الشبهات باقتدار حتى لم يبق عندها شئ تقوله. طلبت منه جلسات أخرى فلم يتأخر ، طلبت منه مناظرة القس عبر النت حتى تصل إلى الحقيقة ويطمئن قلبها ، فلم يمانع . و حاور الشيخ القسيس ، فأخذ الأخير يتهرب و يتملص و يتراجع عن بعض أفكاره ، هنا أدركت الحقيقة وعادت إلى حظيرة الإيمان ، و انتهت الجولة الثانية بانتصار الداعية.
قرأت قصة زينب على صفحات جريدة الأسبوع منذ عدة سنوات ، و بقت أحداثها ملتصقة في ذهني ، و كنت دائماً أقول لمن حولي : لم تكن زينب بحاجة إلى كل تلك السنين الضائعة من عمرها في التنقل من دين إلى دين ، كانت في غنى عن الألم النفسي الناتج عن صراع الأفكار بداخلها ، كانت في غنى عن ذلك لو سلحت نفسها ببعض العلم الشرعي ، كانت بغني عن ذلك لو أن المدع الأول الذي يدعي زوراً و بهتاناً أنه داعية وسع صدره كما فعل الآخر ، و أنصت و اهتم لشباب و شابات صغار تتخطفهم الفتن من كل جانب ، لو أنه أعطاها من وقته نصف ساعة لوفر عليها من عمرها شهوراً و ربما أعواماً. أعرف أناساً مثله يدعون العلم الشرعي ، لكنهم غلاظ شداد في التعامل ، فتراهم ينفرون و لا يجذبون ، يُشعرك أنه يحمل هم الكون فوق رأسه لذلك لا ترى الابتسامة على وجهه و لو على سبيل المصادفة .
أذكر يوم سافرت إلى الحج ، و أثناء رمي الجمرات كان الزحام شديداً وكنت أقف بعيداً عن الحوض و من خوفي أن أؤذي أحد بجمراتي ، طاش بعضها بعيداً عن الحوض فزدت عن العدد ، و لما هممت بسؤال أحد المشايخ المرافقين لحملة الحج ( كوظيفة بمقابل مادي للإجابة على استفسارات الحجاج ) عن مشروعية ما فعلت فوجئت بالرجل يصرخ فيَ بمجرد اقترابي منه ولم أبدأ حتى السؤال : اتركوني حرام عليكم ، و عبارات أخرى لا أذكرها ، لأنني شعرت بحرج شديد لا سيما و أنني وجدت كل الأنظار تلتفت إليَ وهي تتساءل عن الجرم الذي فعلته ، بعدها التفت إلي و قال بهدوء بالنسبة لسؤالك الإجابة كذا كذا ، صراحة لم انتبه لكلامه لأنني كرهته في تلك اللحظة و كرهت أن أسمع فتوى من أمثاله.
إن الدعوة إلى الله ليست وظيفة و لا عمل روتيني ، بل هي عمل تطوعي يقوم به من كان مؤهلاً لذلك و مسلحاً بالعلوم الشرعية ، و فوق ذلك له من سعة الصدر و الأفق ما يجعله يستوعب الناس على اختلاف مشاربهم و أهوائهم ، و تكون لديه القدرة على مخاطبة الناس ، كلٌ على قدر عقله.
لقد أعجبني الأب في قصة زينب ، أعجبتني حكمته في تعامله مع الأمر ، لأنني على يقين أن هناك آباء كثر لو كانوا في مكانه ما توانوا لحظة عن ذبح ابنتهم ، لكن أيهما أفضل: أن تعيد ضالاً إلى حظيرة الإيمان و أن تهديه سواء السبيل فيكون خيراً لك من حمر النعم؟! أم تقتله فيموت على الشرك والكفر؟!
:? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ? النحل125 ، ? وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ? آل عمران159
لقد سار الرجل نحو هدفه بكل تؤدة وثقة أنه لامحالة سيحققه. لقد كان الرجل في سلوكه مع ابنته مثالا و نموذجاً لتطبيق آيات الدعوة وبذلك وصل إلى هدفه و عادت زينب ، فهل اعتبرنا من قصتها؟!
محمد محمود عمارة